مجلة الرسالة/العدد 843/الأدب والفن في أسبوع
→ وداع. . . | مجلة الرسالة - العدد 843 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 29 - 08 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
واقعة حال مع المازني:
وقعت هذه الواقعة من نحو ثلاثة عشر عاماً، وكنت طالباً في مطلع الشباب. كان الأستاذ كامل كيلاني قد أصدر كتاب (أساطير ألف يوم) فكتب الأستاذ المازني نقداً له في جريدة (البلاغ) وكنت د قرأت الكتاب فسررت من قصصه وأعجبني أسلوب المؤلف في سياقتها. فلما قرأت نقد المازني له بدت لي أوجه في الرد عليه، فكتبتها وبعث بالرد إلى (البلاغ) فنشرته ونشرت معه تعقيب المازني عليه. وقد ساءني من التعقيب أنه لم يتضمن تفنيد شئ مما أوردته في الرد، ولو أنه سفه كلامي وبين فيه وجه فساد أو قال مثلا إنه يدل على عدم الفهم أو نحو ذلك، لكان الأمر أهون عليَّ مما وقع. . .
ذلك أنه ألمع إلى أن للأستاذ كامل كيلاني يداً في الرد إن لم يكن كاتبه، وزاد على هذا أن ذلك مما يزهده في نقد الكتب وأنه سيمسك عن هذا النقد. . .
كدت أجن من ذلك، وامتلأت نفسي سخطاً على المازني، فكتب رداً على ذلك التعقيب ناقشه فيه مناقشة عنفت فيها، ومما قلته إنه لا ينبغي أن يكتب ما يكتب ثم يعتصم مني في (قلعة التقديس) وأذكر أن كلمتي تضمنت هذا اللفظ بعينه، وتوجهت إلى دار البلاغ، وقصدت إلى مكتب المازني حيث ألقيته، فدفعت إليه الرد وأنا أنظر إليه نظرة معناها: هأنذا فهل تريد أن تعرف أني صاحب الرد الأول؟
وتناول المازني ردي وألقى عليه نظرة خاطفة، ولم يرد على أن قال: (طيب حاضر) فسلمت بالإشارة منصرفاً كما فعلت مقبلا. ورضيت نفسي بأن أبلغته الرد، وقلت يستوي بعد ذلك أن ينشره أولا ينشره، المهم أني جابهته بما أريد.
وفي اليوم التالي رأيت كلمتي منشورة في البلاغ بحذافيرها وفيها ما فيها من عبارات القاسية الموجهة إلى فقيدنا اليوم.
اغتبطت بنشر الرد، ولكن خاطراً قلل من قيمة هذا الاغتباط في نفسي: أيكون الرجل قد استهان بي وأراد أن يدلل على أنه لا يحفل بمثلي مهما كتب؟ ولكن ألا يكون ذلك من قبيل الإفساح لحرية الرأي؟ ترددت بين هذا وذاك، ولكن الأمر المحقق الذي لا شك فيه أكبرت المازني منذ ذلك الحين وصنعت له في نفسي تمثالا سيبقي ما بقيت.
وبعد أن مضت سنوات على ذلك الحادث، التقيت بالأستاذ كامل كيلاني، وقال لي غير مرة: أنا لا أنسى أنك هاجمت الأسد في عرينه! ولكني لم أغتر بكلمة الأستاذ كيلاني، لأن الذي قرَّ بنفسي أن الأسد أكبر نفسه من أن يصغر في مدافعتي، فمكن لي من الهجوم عليه. . .
المازني ولإذاعة:
على أثر وجهه بعض الكتاب إلى إدارة الإذاعة من اللوم على تقصيرها في تسجيل مسرحيات الريحاني أعلنت الإذاعة في مجلتها أن همتها لم تقعد عن تسجيل أصوات العظماء وأعلام الأدب والفكر والفن في مصر، وأنها قامت بذلك فعلا، حتى أصبحت لديها هذه المسجلات.
ثم توفي المازني، ولا وظهر أن الإذاعة الهمامة ليس لديها أي تسجيل لأحاديثه. . . ولا أظن المشرفين على الإذاعة لم يسمعوا بأن المازني أديب كبير، فلماذا لم يسجلوا شيئا من أحاديثه؟ لقد قالوا إنهم سجلوا أصوات أعلام، الأدب؟ وأريد أن أصدقهم، فلم إذا لم يسجلوا لهم؟ فيمن سجلوا لهم؟ أليس هو من أعلام الأدب؟
ولم يظفر المازني من عناية الإذاعة بعد وفاته، بغير نعي قصير في نشرة الأخبار، في الوقت الذي نسمع فيه المحطات العربية من خارج مصر تتحدث عن المازني وتفيض في الحديث عنه.
فلم كلُّ هذا يا إذاعة؟ ألأنه غضب من الفوضى المتغلغلة في أعمالك، ولم ترضه تصرفاته غير اللائقة معه، فانقطع عن مواصلة أحاديثه؟
وأريد بعد ذلك أن أسأل: هل الإذاعة مرفق عام من مرافق الدولة العامة تعرف للناس أقدارهم كيفما كانت علاقة موظفيها بهم أو هي ملك خاص لهذه الفئة المشرفة عليها، من رضيت عنه قربته وكالت له، ومن لم يحظ برضاها أعرضت عنه وأهملت شأنه مهما كان مكانه
عيد الباكستان: احتفلت سفارة الباكستان بالذكرى الثانية لاستقلال الباكستان يوم الاثنين يوم 15 أغسطس الحالي بدار جمعية الشبان المسلمين. وقد اشتمل الحفل على برنامج حافل من الخطب والقصائد والموسيقى والغناء، وتجلى فيه روح المودة والإخاء بين الدولتين الإسلاميتين الباكستان ومصر، تجلياً رائعاً بعث الأمل في استعادة تماسك البنيان الإسلامي، ولقد كان سرورنا نحن المصريون لا يقل عن سرور إخواننا الباكستانيين بعيدهم وعيدنا عيد استقلال الشقيقة الناشئة الكبيرة: الباكستان.
وقد تحدث الخطباء وأنشد الشعراء فعبروا جميعاً عن ذلك الشعور وأشادوا بما يجمع بيننا من التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية، ومن هؤلاء الخطباء والشعراء الدكتور حسين الهمداني الملحق الصحفي بالسفارة وأصحاب المعالي إبراهيم دسوقي أباظة باشا وحافظ رمضان باشا وصالح حرب باشا والأستاذ إبراهيم اللبان والدكتور إبراهيم ناجي والأستاذ محمد عبد المنعم إبراهيم المحامي.
وقد أفاض حافظ رمضان باشا في الكلام على الإسلام من حيث هو عقيدة ونظام، وبدأ حديثه بالإعراب عن شعوره حينما دعي إلى هذا الحفل، فقال إنه لبى هذه الدعوة، وقد جرى أخيراً على رفض الدعوات إلى الحفلات الكثيرة التي تقام لناسبات وأغراض مختلفة، لأن رجال الباكستان أعلنوا أنهم يضعون دستور بلادهم على أساس التعاليم الإسلامية، وقال إن الإسلام هو دين العدل والحرية والمساواة والإخاء، وإنه لا يوافق الديمقراطيات الحديثة فحسب بل إن هذه الديموقراطية لم تستطيع أن تخالف مبدأ واحداً من مبادئ الإسلام.
ولما جاء دور الأستاذ إبراهيم اللبان شرع في بيان تاريخي لتطوير الدولة الإسلامية في الهند، واسترسل إلى إجادة المثقفين الباكستان للغة الإنجليزية، ذهاباً إلى أن هذا يتيح لهم التقريب بين الإسلام والعقلية الأوربية. والأستاذ اللبان عالم مستقيم الفكر، ولكنه لم يراع مقتضى المقام في حفل يتعاقب فيه خطباء كثيرون، فأطال مع خلو كلامه من العناصر الخطابية المشوقة، فنال أكبر حظ من تصفيق الحاضرين. . . حتى اضطره هذا التصفيق إلى أن يقطع كلامه ويجلس ساخطاً على المصطفين المحتجين.
وكم كان جميلً وظريفاً أن تعتلى المطربة تلك خشبة المسرح، وقد ارتدت (الساري) ثوب المرأة الباكستانية، فغنت (نشيد الباكستان) الذي نظمه الأستاذ عبد المنعم إبراهيم، وهو نشيد جيد حبذا أن تتخذ الباكستان نشيداً دائما، على أن يلحن تلحين الأناشيد، فقد (عنت) فيه ملك على طريقها المعروفة بصوتها الجميل، فأطربت ولكنها لم تؤده باعتباره نشيداً، فقد كانت تلين وتطرو عندما تنشد أو تغني مثلا:
عيد باكستان أضحى ... عيد مجد المسلمين
وكسَّرت (المسلمين) وأنثته برقة صوتها، وهو جمع مذكر سالم. . .
الباكستان تتجه نحو العروبة:
التفت هذا القلم إلى دولة الباكستان الفتية منذ أشرقت عليها شمس الاستقلال، واتجهت مشاعر أهلها وأنظار قادتها إلى توطيد العلاقات بالبلاد العربية وإحياء اللغة العربية وآدابها وثقافتها بين مسلمي الهند الذين أصبح لهم كيان مستقل بالباكستان. وقلت مرة: إنني أرصد هذه الدولة الفتية كما يرصد الفلكي حركات نجم جديدة. وهأنذا اليوم أنظر إلى هذا النجم فيسرني أن أراه صاعداً في السماء. . .
إن حضارة الأمة الباكستانية ولغتها وعاداتها وتقاليدها، مستمدة من الحضارة العربية الإسلامية، ولم يستطع الزمان أن يمحو ميلها الشديد إلى العرب بسبب الروابط الدينية والتاريخية الوثيقة التي تربطها بهم، ولم يمنع اكتمالها عروبتها إلا الظروف والأحداث التاريخية في القرون الأخيرة إذ حكمها الترك والمغول ثم الاستعمار الإنجليزي في آخر المطاف. ورغم هذه الظروف والأحداث لا تزال الصبغة الإسلامية باقية، ولا يزال الأثر العربي بارزاً في مظاهر الحياة المختلفة، فاللغات المحلية كالسندية وغيرها تحتوي على ألفاظ لا حصر لها من اللغة العربية كألفاظ الجبل والنهر والخطر والقلم والعلم والمدرسة والكتاب والحكيم والمدير وغيرها، واللغة السندية تكتب حتى اليوم كتابة عربية. ويقال إن اللغة الأردية لو أسقط منها الكلمات العربية استحال استعمالها.
وقد تخلصت الباكستان من الاستعمار البريطاني، وأصبحت بلاداً حرة، فجعلت تقوى صلاتها بالعرب، وكان من ذلك ما أبدته من المؤازرة في قضية فلسطين أمام هيئة الأمم المتحدة، ثم هذه الأريحية العظيمة التي جادت بنحو خمسين ألفاً من الجنيهات للاجئين من عرب فلسطين، وهو مجموع ما تبرعت به دولة الباكستان وشعبها.
ولاشك أن الإسلام والعروبة صنوان، والباكستان الإسلامية تتجه الآن إلى العروبة اتجاهاً ظاهراً، لا بتعزيز علاقاتها بالدول العربية فحسب، بل كذلك بما شرعت فيه من العمل على نشر اللغة العربية بين أهليها والبدء باتخاذها لغة ثقافية لها، إلى ما تدعو إليه الضرورة الدينية من فهم لغة القرآن الكريم، وسيفضي ذلك إلى اتخاذ العربية لساناً قومياً لا ثقاً بأكثر أمة إسلامية، وإن توحيد لغة التفاهم بين المسلمين كفيل بالتقارب وتبادل الآراء بينهم. وحكومة الباكستان جادة في تعليم اللغة العربية بمدارسها، وهي تتجه في ذلك إلى مصر كما تتجه إلى الأزهر خاصة للتوسع في التعليم الإسلامي. وقد افتتحت الإذاعة العربية من الباكستان يوم الاحتفال بعيد استقلالها، وبرامج هذه الإذاعة حافلة بالإنتاج المصري في الفنون والثقافة، وقد اختير لإرادة هذه الإذاعة شبان مصريون مثقفون.
وبعد فإني أريد - مع اغتباطي بكل تلك المظاهر - أن أهمس في آذان زعماء الباكستان وقادتها، أن يبدؤا بأنفسهم فيتعبوها قليلاً بتعليم اللغة العربية، لتكون لساناً لهم، بدل الإنجليزية في البلاد العربية على الأقل.
عباس خضر