الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 841/فلسفة الشعب

مجلة الرسالة/العدد 841/فلسفة الشعب

بتاريخ: 15 - 08 - 1949

3 - فلسفة الشعب

الفلسفة الصامتة

للأستاذ عبد المنعم عبد العزيز المليجي

لست ابغي ان امحي الفروق العديدة التي تميز فكر الفيلسوف من فكر الجمهور، إنما أريد التقريب وعقد الصلات بينهما، وبيان ان الهوة المزعومة بينهما لا وجود لها. ذلك ان المذاهب الفلسفية استمرار طبيعي لفلسفة صامتة، تتسلسل في آلاف الأذهان خفية كما تتسلسل النار الكامنة، حتى تشتعل وتومض وميضاً يبهر الأبصار بعد ان تكون مرت بدور كمون طويل. فما من مذب جديد إلا وله دور وسوابق وممهدات في مذاهب السابقين، وهذه بدورها سبقتها نضرات ولمحات صامتة تبدو في حكم العامة وأساطيرهم وشعر الشعراء وقصص الأدباء. ولكن هؤلاء جميعاً بدت النظرات الفلسفية في إنتاجهم دون قصد أو وعي بها ومن اجل هذا اسميها فلسفة صامتة. إنما الفلسفة الناطقة هي التي تعبر عنها المذاهب الفلسفية التي صاغها أصحابها على وعي منهم بها، والتي تبدو جديدة مبتكرة. وما هي - لو تأملناها أحطنا بملابساتها - غير تأليف وتفيق جديد بين عناصر قديمة مرت بالعقل البشري من قبل وبوسعنا الاهتداء أليها في مذاهب السابقين بل مثبتة في ثنايا الشعر والحكمة الشعبية القديمة قدم الإنسان ذاته،

إليك مثلاً أفلاطون وهو صاحب أول مذهب متكامل شامل في تاريخ الفلسفة، يبدو مذهبه عملا ابتكارياً صرفاً، ولمن الحقيقة التي يكشف عنها تاريخ الفلسفة ان بعض النتائج التي وصل إليها غيره من المفكرين السابقين عليه، قد دخلت في تكوين هيكل فلسفته: نظرية هرقليطس في التغير المستمر، وفكرة فيثاغورس في العدد والموسيقى، ورأي بارمنيدس في الوجود ثم فلسفة سقراط أستاذه الحبيب، هذه جميعها امتصها أفلاطون وتمثلها حتى استحالت إلى كيانه الفكري كما تستحيل الأغذية إلى كياننا الجسمي. ليس هذا فحسب بل نستطيع لو ثابرنا ان نجد في الفكر القديم عند الهنود والمصريين أفكارا تتصل بسبب قريب بأفكار منبثة من مذاهب أفلاطون.

يقول الأستاذ إسماعيل مظهر:

(ان مبادئ أفلاطون الأساسية وفكراته الجوهرية التي قام عليها مذهبه، تدفع بنا إلى الرجوع سعياً، لا إلى أسلافه الأقربين ولا إلى معلمه العميق الغور سقراط، الذي عاش في صفحات ما كتب أفلاطون، ولكن إلى مدارس سبقته فأكبت على التأمل الفكري في إغريقية وايونانا وإيطاليا. ومن قبل هؤلاء قد نرجع إلى عصر العر، ذلك العصر الذي ترى فيه بدايات الفلسفة تكاد تبدو في ضباب الزمن، وهي لا تكاد تعرف حتى من قيمة ذاتها شيئاً. ثم مد بصرك إلى ابعد من هذه الفلسفة غير الواعية الحقيقية ما هي، وانغمر في ضمير الزمان إلى تلك البدايات التي تمثلت في الميول العقلية الخلجات النفسية وترامي قوى الفكر إلى حجب العالم، تجد ان هذه الأشياء قد شهدت ميلاد فكرات أفلاطون بنسب، منحدرة إليه من مدنيات عتيقة موغلة في القدم من الهند ومصر، وتجد فوق ذلك ان هذه الفكرات لا تزال حتى اليوم تؤثر أثرها المحتوم في عالم التأمل)

وليس هذا غريباً إذا علمنا ان الطريق إلى التعليمات الفلسفية ليس عقل الفيلسوف وحده فهنالك لدى العامة حدس صادق، أو حس سليم هو طريق آخر يفضي إلى نظرات عامة في الكون والأخلاق فيها من الصدق والصفاء ما يجعل لها قيمة تداني قيمة مذاهب الفلاسفة والخلاصة ان المذاهبالفلسفية يقابلها فلسفة واقعية صامتة أو هي - كما قال الأستاذ إسماعيل مظهر: (لاتعي ذاتها).

عقد الأستاذ (البير بأبيه) في كتابه (أخلاق العلم) فصلاً يبين فيه النظريات الفلسفية الأخلاقية، سبقتها أخلاق واقعية، وإنها مجرد تركيز أو تبلور لتصورات الناس الواقعية لمثل أعلى. بل ويفضل الأخلاق الواقعية على النظريات الفلسفية لان اثر الأخير في المجتمع اثر يكاد ينعدم.

يقول الأستاذ بابيه بهذا الصدد:

(أتنظر في اكبر تحول عرفته المجتمعات البشرية: وهو إلغاء الرق. ولو سئلنا اليوم في القرن العشرين باسم أي مذهب نستنكر الرق؟ استطعنا ان نجيب جواباً لا يخلو من منطق: ان ذلك باسم فلسفة القرن الثامن عشر التي أعلنت حقوق الإنسان ولكنا نعلم حق العلم ان تلك النظرية لم تحرر إلا بعد حين، أي بعد ان كانت المهمة قد تمت، وبعد ان كان الرق كله قد اختفى أو كاد ان يختفي من مجتمعاتنا، ولكن نبحث في التاريخ عن المبادئ التي أدت إلى إلغاء الرق: يحيل بعض المفكرين إلى الأخلاق الرواقية، ولكن الرواقيين كان لهم أرقاء. ولقد كان المفكرون من جميع المدارس يجدون صيغة مرنة تعينهم على ان يراعوا النظام العتيق، وكأنهم يحملون عليه بإحدى اليدين ويؤيدونه باليد الأخرى. ابحث ما شئت في التاريخ، فانك لن تجد ذلك المشهد الرائع: مشهد مذهب يقوم فيقضي على الرق. ولكن من حسن الحظ ان هناك أخلاقا واقعية كانت تعمل وتؤثر، بينما كان الفلاسفة يكتبون ويتكلمون. وتلك الأخلاق الواقعية هي التي ألهمت (نيرون) ذلك المحسن إلى الإنسانية، ان يحقق ذلك العمل الثوري العظيم الذي أباح للرقيق إذا عومل معاملة بالغة القسوة ان يرفع شكواه إلى القضاء. وألهمت القرارات الكثيرة التي أصلحت حال الرقيق ثم الموالي. فماذا كانت حقيقة تلك الأخلاق الواقعية؟.

لو سئل الذين كانوا أول من عمل هذه الأخلاق، يقومون في متناقضات تستدعي الإشفاق حين يستهدفون إلى الإشارة بهذا الصدد إلى شئ من المبادئ. ولكنا نرى بعد حين النهج الذي سلكوه، والذي انتهى إلى حقوق الإنسان. ان الأخلاق الصامتة المتضمنة في جهودهم المتواصلة أقوى من العبارات المزعومة التي نقرأها في كتب الفلاسفة).

اجل، بينا كان الفلاسفة يكتبون ويناقشون مذاهبهم الفلسفية في الأخلاق كانت عناك في ضمير الشعب فلسفات أخلاقية صامتة، تؤثر اثراً قوياً ولكن في صمت حتى تحققت بعد ان كان أملا تهفو إليه النفوس ذلك هو التحرير من الرق والعبودية.

الفلسفة في الإنتاج الأدبي

ألا ينهض ذلك دليلاً على ان الفلسفة تمد جذورها في حياتنا إلى أعماق سحيقة؟ وان لحظات قد تواتي جمهور الناس - رغم طغيان المشاغل اليومية - فتنف بصائرهم إلى هذه الأعماق، وتغوص عقولهم إلى القاع لتصعد محملة بلآلئ الأفكار يذيعونها أمثالا مأثورة أو حكما، وقد لا يفصحون عنها لفظاً ولكن تفصح عنها حياتهم بما تنطوي عليه من معنى فلسفي؟ ولو تركنا طبقة الجمهور إلى طبقة الكتاب من غير الفلاسفة، لوجدنا في طيات كتبهم نظرات وتعميمات فلسفية. مثال ذلك: مسرحيات سوفوكليس وشكسبير وموليير وروايات برناندشو واندريه جيد ونجيب الريحاني وشارلي شابلن وجوته، نرى فيها جميعاً لمحات فلسفية منبثة هنا وهناك في أنتاجهم، وطالما كانوا اكثر توفيقاً من الفلاسفة؛ إذ سرعان ما تنفذ اتجاهاتهم إلى شعاب نفسك في يسر لتستقر في الأعماق. وما ذلك إلا لأنهم لم يعمدوا إلى ما يعمد إليه أهل الصنعة من الفلاسفة حين يجرون الأفكار من الحياة، وينتزعونها من الواقع الذي ولدت فيه، ونمت وازدهرت.

أينما نولي الطرف في الإنتاج الخالد يقع بصرنا على بطل يجسم مشكلة من المشاكل الإنسانية، تعترضنا جميعاً أيا كان زمننا وأيا كان مكاننا، كمشكلة السعي الأبدي لبلوغ الحق والخير والجمال كما تصورها مأساة (فاوست)، والصراع الدائم بين قوى الفرد وقوة المجتمع العاتية التي لا تأبه لآمال الأفراد وآلامهم كما تبرزها قصة الحلاق الفيلسوف (فيجارو)، أو روايات نجيب الريحاني التي تضحكنا رغم انطوائها على المأساة البشرية الكبرى: ما تلقيه النفوس الخيرة من عنت في هذا الأعلم والتي تنتهي جميعاً إلى اعتبار الخير غاية في ذاته والسعادة في راحة الضمير. والمتتبع لروايات شارلي شابلن خاصة في الفترة الأخيرة من حياته يلمس روحاً فلسفياً تسري في جوانبها. وتأملنا آخر روايات (المسيو فيردو) محترف قتل السيدات لاستخلصنا الدرس العميق الذي يلقيه على الإنسانية العاتية الحمقاء (التي ترفع مثيري الحروب الذين يسفكون دماء الملايين إلى منزلة الأبطال الخالدين، وتحكم الإعدام على فرد قتل عدداً القليل من النساء ليحصل منهم على ان يقيم الأود بعد ان طرق الأبواب فلا يجد رزقاً)، ذلك الدرس يقره شارلي العظيم في الحوار الأخير بينه وبين القسيس الذي أتى يباركه قبيل تنفيذ حكم الإعدام فيه، إذ يعلن للقسيس عدم احتياجه إليه فيلح القسيس عليه ان يصلي ويتحدث إليه لعل الله يستجيب له فيقول (المسيو فيردو): (ليس الخلاف يا سيدي بيني وبين الله انه بيني وبين البشر) اجل ان النظام الطبيعي خير لكن البشر هم الذين يفسدونه. البشر وحدهم هم مسؤولون عن وجود الشر في العالم ويخطئ من يدعي ان الله يرد بالعالم شراً.

عالج كثير من الفلاسفة في أسفار عدة موضوع الإرادة الإنسانية أهي حرة أم مجبرة، وعالجوا فكرة القضاء والقدر، وفكرة الاتفاق في الطبيعة والحظ لدى الإنسان. ونستطيع الاستنارة في هذه الموضوعات لو فتشنا عنها في كتب الفلاسفة، ولكنا نراها في ضوء باهر ونلمسها ونحياها لو أنا عشنا لحظات مع الشاعر الروائي سوفوكليس في مسرحيته (أوديب ملكا) التي كتبها في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد، أو أنا جلسنا إلى (اندري جيد) نقرأ روايته (أوديب) التي كتبها في فرنسا منذ أعوام قلائل. خمسة وعشرون قرناً من الزمان تفرق بين الخالدين. دون ان تمحو من الأذهان مشكلة فلسفية كبرى: تلك هي الصراع بين القضاء المحتوم والإرادة الإنسانية المختارة.

ولأترك القارئ لحظات إلى أستاذنا الدكتور طه حسين يكشف له عن الفلسفة التي تتضمنها قصة أوديب عند كل من سو فوكل وجيد:

(هناك قضاء كان اليونان يؤمنون بأنه مسيطراً على كل شئ وعلى كل كائن لا يفلت منه الآلهة أنفسهم. وهناك الإنسان كان يشعر بان له عقلاً يميز به بين الخير والشر، وبان له إرادة يعمد بها إلى أحد هذين الشيئين اللذين يميز العقل بينهما وهما: الخير والشر. فليس هناك إذن بد من ان يكون اصطدام بين القضاء المحتوم الذي لا يفلت منه الإنسان والآلهة، وبين هذه الإرادة التي زعم الإنسان إنها حرة مختارة تستطيع ان تعمد إلى ما تحب وتنصرف عما تكره سواء أراد القضاء أم لم يرد.

هذه الفكرة التي عمد سو فوكل إلى ان يصورها في قصته ومن قبله كان الشعار اليوناني الممثل (ايسكاوس) الذي ذهب في تمثيله إلى تغليب القضاء على الإرادة الحرة المختارة، ومن بعده جاء الشاعر اليوناني الممثل (اروبيد) الذي ذهب إلى كسب الحرية للإرادة الإنسانية وانكر القضاء أو كاد ينكره. إماسو فوكل فتوسط بين الأمرين. لم ينكر القضاء ولكنه لم يلغي الإرادة الإنسانية، وإنما اعترف لها بشيء من الحق واعتراف لها بأنها ان لم تستطع تغيير مجرى القضاء، فإنها تستطيع ان تقاوم هذا القضاء مقاومة ما. . .

صور لنا سو فوكل صراع بين القضاء وبين الإرادة واظهر لنا الإنسان وقد غلبه القضاء. ولكنه لم يغلبه في سهولة ويسر. وإنما غلبه بعد قاومه الإنسان مقاومة عنيفة متصلة، بالغة أقصى ما يمكن ان تبلغ من القوة والعنف. . .).

ثم بمضي الدكتور طه مبيناً تصور اندري جيد لنفس المشكلة: (يصور لنا أوديب مصارعاً للقضاء يغلبه القضاء أولاً. ثم مؤمناً بنفسه معتزاً بآرائه وينتصر على القضاء آخر الأمر. . . أوديب عنده رمز الإنسان الذي لا يؤمن لا بنفسه وبإرادته، قد قبل سعادته راضياً عنها، وهو يقبل شقاءه راضياً عنه، وهو مطمئن كل الاطمئنان إلى ان الرجل الحق هو الذي يتلقى الحياة صامداً لها راضياً عنها، متنعماً بخيرها على علم وثقة أيضا، لا يشكو ولا يتوعوع، فهناك سؤال واحد دائما يلقى على كل إنسان ليس له إلا جواب واحد. إماالسؤال فهو: ما اللغز وكيف يحل لغز الحياة الإنسانية؟ وإماالجواب فهو: ان اللغز هو الإنسان، وحله ان يمضي الإنسان تبعا لإرادته، وفق عواطفه وشعوره وغرائزه وعقله.

هذه هي القصة التي كتبها اندري جيد وهي كما ترون تمعن في الفلسفة، وتبعد عن العناية الفنية).

(الإسكندرية)

عبد المنعم المليجي