الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 841/عبقرية محمد علي الكبير

مجلة الرسالة/العدد 841/عبقرية محمد علي الكبير

مجلة الرسالة - العدد 841
عبقرية محمد علي الكبير
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 15 - 08 - 1949


للأستاذ كمال السيد درويش

(حقا لقد كان عبقريا!)

هتفت بهذه العبارة من أعماق قلبي ونطق بها لساني بعد ان ملك الإعجاب نفسي. كان ذلك بعد ان انتهيت من قراءة بعض صفحات تاريخه الخالد بمناسبة ذكراه.

قلبت تلك الصفحات، فاستوقفني ذلك الحوار الذي دار بين محمد علي وبين بركارت الرحالة السويسري. كان الرحالة قد اعتنق الإسلام وتسمى بالشيخ إبراهيم أطلق لحيته حتى يتسنى له الاختلاط التام بالمسلمين. وكان محمد علي قد سافر بنفسه - كما هو معروف - إلى بلاد العرب على راس حملة عسكرية لمساعدة نجله في قتال الوهابيين. ويصل الشيخ إبراهيم إلى الحجاز في ذلك الحين ليؤدي فريضة الحج مع المسلمين ومدون ذلك كله في كتابه المشهور.

ويستدعي الباشا الرحالة - وقد علم بوجوده - ما السر في حضوره إلى الحجاز؟ وفي ذلك الحين بالذات؟ إلا يحتمل ان يكون جاسوسا إنجليزيا؟ دارت هذه الأفكار في ذهن الباشا فالتفت إلى بركات وهو يقول مداعبا: إلا ترى معي يا شيخ إبراهيم ان اللحية وحدها لا تكفي لجعل الإنسان مسلما حقيقيا؟ وحين يحجم الرحالة بين ذلك على تكرار الزيارة لان الباشا يشك في أمره - كما فهم - يقول محمد علي لترجمانه: اخبره باني ارحب به سواء كان مسلما أو غير مسلم.

وتعددت المقابلات بينهما. . .

ويستفسر محمد علي منه عن أسفاره السابقة إلى بلاد النوبة، ثم يستدرج السؤال عن المماليك ومدى قوتهم وعن رائيه في عدد القوة التي تكفي للقضاء عليهم، وافضل الطرق للوصول إلى السودان وعن المال اللازم لإعدادها.

وتصل إليهما في أثناء ذلك الحين أخبار هزيمة نابليون وبدخول الحلفاء باريس وإبعاد نابليون إلى جزيرة ألبا، ويسأله الرحالة عن رأيه في تلك الحوادث، ويعلق محمد علي بقوله: ان نابليون كان جبانا في سلوكه. وكان يجدر به ان يلقى حتفه في الميدان بدلا من الاستسلام للذل والهوان وللحبس في هذا القفص حتى غدا أضحوكة العالم بأسره. ثم يلتمس محمد علي العذر لنابليون فيقول: لقد كان أعوانه خونة كالعثمانيين. لقد تخلى عنه أعوانه الممتازون وقواده المشهورون من يدينون له بالفضل والشهرة والجاه، فهو ضحية خيانة الأصدقاء قبل ان يكون ضحية الأعداء!.

ويروي الرحالة ان الباشا كان شديد الشوق لمعرفة اثر التطورات الأخيرة في حوادث أوربا على العلاقة بين روسيا وبريطانيا في نيات الأخيرة نحو مصر. وحين حاول الرحالة إزالة مخاوف محمد على وشكوكه من جانب إنكلترا وإقناعه بسلامة نيتها نحو الدولة العثمانية ونحو مصر بالذات أبى الباشا ان يستجيب له، وهز رأسه في إنكار وهو يقول: ان السمكة الكبيرة تأكل السمكة الصغيرة، ومصر ضرورية لإنكلترا، فكيف اطمئن على نيتها نحو مصر؟ أنا لا أخاف من السلطان، فأنا اعرف كيف أتفوق عليه في المكر والدهاء، ولكني أخشى على مصر من إنجلترا وأطماعها.

ولاحظ بركات في لهجة محمد علي حماس الشاب الولهان، وغيرته على زوجته الصغيرة الحسناء من الغرباء، بالرغم من تأكده من حبها وإخلاصها.

عند ذلك يرد محمد علي على محدثه وهو يقول في حماس شديد كلمته الخالدة: (حقا أنا احب مصر، احبها حب العاشق المتيم الولهان، ولو كنت املك سوى روحي عشرة ألف أخرى، لضحيت بها في سبيلها).

أفلا يحق للقارئ - وقد انتهى من هذا الحديث الخالد - ان يهتف من أعماق قلبه: (حقا، لقد كان رجلا عبقريا؟)

كان وهو يحار الوهابيين في بلاد العرب يفكر في مصر وفي أهلها، وفي علاقتهم بولده إبراهيم وتركه حاكما عليها، فيسأله الرحالة عن مدى حب الأهالي لولده وعن رأيهم فيه؟ ألم يكن بهذا أول حاكم يبني علاقة الحاكم بالمحكوم على أساس متين من المحبة الصادقة؟ في الوقت الذي كان فيه الاستبداد من الأصول المرعية لدى الحكام والمحكومين؟

ألم يتابع - وهو في عزلته - تطور الحوادث العالمية مقدرا ما سيكون لها من اثر على مستقبل مصر؟ ألم يدرك بثقاب فكره وحسن تقديره، ونفاذ بصيرته، حقيقة العلاقة بين إنكلترا ومصر؟ وان واجب مصر يحتم عليها الأخذ بأسباب القوة حتى لا تلتهمها تلك السمكة الكبيرة؟ ولقد فعل فلم تكشف إنكلترا عن نواياها، حتى إذا تركنا الأخذ بأسباب القوة، وتنكبنا الطريق التي رسمها، هب إعصار الآنجليز، فاكتسح استقلالنا، ومسخ قوميتنا، وشوه تاريخنا؟

حقا، لقد أيدت الحوادث صدق نظر محمد علي وسذاجة الرحالة السويسري!.

وهكذا تفتحت عبقرية محمد علي الكبير وهو بعد لم يزل واليا صغيرا!

لقد احب مصر لدرجة العشق والهيام، وتمنى ان لو كان لديه اكثر من روح واحدة حتى يقدم الآلاف في سبيلها؟

ولقد ضحى فعلا بابنه إسماعيل وبطوسون وبإبراهيم، وأخيرا بروحه هو نفسه.

وهكذا أعطى مصر اكثر مما أعطته، ومنحها اكثر مما منحته واصبح اسمه علما على نهضتها وعظمتها في تاريخها الحديث. لقد اخلص محمد علي في حبه لمصر لمعشوقته الحسناء، وفتاته الهيفاء، حتى الرمق الأخير. . .

فلا عجب إذا احتفلت قلوب المصريين بذكرى المؤسس الأول الخالد في سجل الخالدين وهي تهتف بلسان واحد:

حقا لقد كان عبقريا!

كمال السيد درويش

مدرس بالرمل الثانوية - الإسكندرية ليسانسيه الآداب بامتياز

ودبلوم معهد التربية العالي وعضو الجمعية التاريخية لخريجي

جامعة فاروق