مجلة الرسالة/العدد 841/البلاغة العربية في دور نشأتها
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 841 البلاغة العربية في دور نشأتها [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 15 - 08 - 1949 |
تأليف الدكتور سيد نوفل
بقلم الأستاذ علي العماري
هذا الكتاب يؤرخ الدور الأول للبلاغة العربية، وقبل ان أتحدث عنه أحب ان أقول ان البلاغة العربية تنوء بظلم فادح، فكل فن ينال قسطا غير يسير من عناية العلماء، وهي وحدها التي ظلت قرونا عديدة تضطرب في دائرة ضيقة من قواعدها السكاكية، فدراستها في معاهد التعليم على اختلاف أنواعها في مصر وفي غير مصر لا تبعد كثيرا عن هذا المنهج القديم، والتأليففيها مشدود إلى هذا المنهج نفسه بأمراس كتان، حتى الطريقة الأدبية التي عنى بها بعض العلماء، وخصوصا قبل العصر السكاكي لا تنال حظها من الدراسة والتأليف، ولهذا فكل كتاب يؤلف في علوم البلاغة على نمط جديد نعتبره خدمة جليلة لهذه العلوم، والكتب المؤلفة فيها معدودة تعد على أصابع اليدين وبعضها لا غناء فيه، فلا تزال البلاغة العربية مجاهل يسلكها طلاب المعرفة من غير دليل، ويعتسفون مثانيها ومحانيها على غير الهدى، ولا بد من جهود جبارة ومن عمل دائب، مع إخلاص وصدق حتى ان تعقد على أسس قويمة خالصة من تلك الشوائب الكثيرة التي تعقد مسائلها، وتعكر مناهلها.
والكتاب التي نحن بصدد الحديث عنه عالج شأنا من شؤون البلاغة المهمة، عالج البلاغة في أبان نشأتها، وتحدث عنها في لفائف المهد تباركها أيد قليلة وتربت عليها برفق وحنان وتفديها بما تستطيع ان تقدمها لها في العهود البعيدة والكلام في تاريخ نشأة البلاغة ليس حديث العهد بالدراسة، ولكن أقلاماتناوله، وأظن ان أول من تناول هذا التاريخ صاحب المعالي الأستاذ الشيخ عبد الرزاق في كتاب الأسماء (الأمالي) ومن الذين كتبوا فيه الأستاذ الشيخ أمين الخولي أستاذ البلاغة العربية في الجامعة المصرية في كتابه (فن القول).
وقد قرأت رسالة في هذا الموضوع للأستاذ الشيخ أبي الوفا المراغي مدير المكتبة الأزهرية، غير ان الدكتور نوفل زاد على هؤلاء انه ركز موضوعه في البلاغة عند الجاحظ، والكتاب مقسم إلى قسمين: القسم الأول تحدث فيه عن البلاغة قبل عصر الجاحظ، وقد سجل فيه جهود العلماء والأدباء والمتكلمين والمعلمين ومجالس النقد في نشأة البلاغة، والقسم الثاني تحدث فيه عن جهود الجاحظ في البلاغة، وهذا القسم يعتبر جديدا، ويا حبذا لو اقتصر المؤلف على هذا القسم، فانه موضوع بكر، وقد بسط القول ووفاه، ولو كتابه (البلاغة عند الجاحظ) لأصاب المحز، وطبق المفصل - كما يقولون - على ان القسم الأول من كتابه جاء تكرارا لما كتبه العلماء، وفيه بسط يعتبر من فضول القول، فقد اخذ الأستاذ على نفسه ان يترجم لكل من له حكمة في البلاغة أو إشارة إليها من قريب أو بعيد، ترجم لأبي بكر وعمر ومعاوية، وترجم للعتابي وسهل بن هارون وشبيب بن شبة وعبد الحميد والمقفع، وجعل كلامهم في فصل مستقل، وكان يمكن ان يكتب فصلا يذكر فيه آراء هؤلاء في البلاغة، ومدى تأثير هذه الآراء في نشأة علومها، وهل يترجم لواصل بن عطاء لأنه ألف كتأبين يحتمل ان يكونا في البلاغة، أو لان الجاحظ نسب إليه العلم بان الخطابة في بحاجة إلى البيان التام واللسان المتمكن والقوة المتصرفة؟ فإذا تجاوزنا الرجال إلى الموضوعات وجدنا فصولا لاحاجة بالكتاب إليها كالفصل الذي عنوانه (العصر الجاهلي) ولو نقل منه كلمة أكثم بن صيفي، واصطناع الكهان للسجع إلى الفصل السابق لاستغنى عن هذا الفصل، وكذلك الفصل الذي يليه لا حاجة إليه، وما دخل حديث القران أو الرسول عن البيان في نشأة البلاغة ليس فيه ما يمس البلاغة إلا الحديث عن مذهب الرسول في القول، وهو كلمات، ولو انه صح لنا ان نرسم للمؤلف المنهج لقلنا: ان القسم الأول الذي ينتهي بالصفحة 92 كان يكفي فيه عشر صفحات، فصل يجمل فيه القول عن اثر النقد في البلاغة، وأظن المؤلف لن يزيد شيئا عما كتبه الدكتور طه إبراهيم في كتابه (تاريخ النقد عند العرب) - كما فعل - مع شئ كثير مما لا حاجة إليه، وفصل يتحدث فيه عن المدارس التي درجت البلاغة قي ظلها، ويكتفي في هذا الفصل بجهود المتكلمين واللغويين والنحاة والأدباء. إماالفصل الثالث فيتتبع فيه آراء السابقين للجاحظ في البلاغة، ويترجم لاثنين منهم أو ثلاثة كأبي عبيده، ثم يتحدث عن كتابه، وكل هذا لا يستغرق عشرين صفحة، وقد استغرق فيه المؤلف تسعين صفحة!
على ان المؤلف فاته ان ينوه بأثر عالمين جليلين في البلاغة، وهما من أوائل العلماء قولا فيها، أحدهما الخليل بن أحمد وقد تحدث عن الجناس والمطابقة والاستعمال المجازي، والآخر سيبويه وقد تحدث في (الكتاب) عن مجاز الحذف، وعن التأخير والتقديم، إلى مباحث أخرى تمس البلاغة.
إماالقسم الثاني، فهو لب الكتاب، وقد بيت القصيد في كتابه، فانه قال في المقدمة: (لما كان الجاحظ هو مؤسس علم البلاغة العربية وجامع مسائلها لم يكن مناص من اتخاذه الأساس الأول لهذه الدراسة). وقد وفق كل التوفيق في دراسة البلاغة الجاحظية وبلغ الغاية، ولا نملك إلا الثناء المستطاب على هذا الجزء من الكتاب، ولو أردنا ان نصور عمله لما وجدنا أوفى من تصويره وهو لمجهوده قال: (ولما كان - يريد الجاحظ - أكثر معاصريه استطرادا، أبعدهم عن مراعاة النظام في التأليف، فقد كان من العسير على من يبحث موضوعا عنده ان يركن إلى كتاب معين، وكان لابد لدارس بلاغته من قراءة جميع كتبه، وجمع المتفرق فيها، والمقابلة بينه وتفسيره، إذ كثيرا ما يبدو متناقضا، وهذا ما صنعت، قرأت ما بأيدينا من كتبه، وجمعت النصوص التي ورد فيها ذكر البلاغة أو أي اصطلاح من اصطلاحات علومها، أو لفظ من ألفاظها، أو معنى من معانيها، وحاولت ان أصور هذه الاصطلاحات كما تدل عليها تلك النصوص المبعثرة). ولم يفته ان يتحدث عن بعض معاصري الجاحظ وعن بعض الذين جاءوا بعده، وان كان حديثه إشارات عابرة.
وقصارى القول في جملة هذا الكتاب ان الجزء الأول منه سابغ فضفاض، وكان من الواجب ان يركز ويقتصر فيه على الأغراض الرئيسية في الموضوع. إماالجزء الثاني، فقد بلغ فيه الغاية، أجاد أفاد، لكن بقيت لنا تفصيلات نحب ان نراجع المؤلف فيها ونطرحها للبحث والدراسة، وسنغض الطرف عن الأغلاط الجزئية، وإنما نتناول مسائل ذات أهمية:
تحدث المؤلف عن قصة نقد النابغة لحسان بن ثابت في بيته المشهور: لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى=وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
وما كان من قول النابغة له: أقللت جفاتك وأسيافك، وقلت يلمعن بالضحى، ولو قلت يبرقن بالدجى لكان ابلغ في المدح؛ وقلت يقطرن من نجدة دما، ولو قلت يجرين لكان اكثر لانصباب الدم؛ ثم يقول المؤلف: (وقد يقال ان هذه الروايات ضعيفة - على ما قرر ابن رشيق من شهرة حديث النابغة، لكنها تلائم طبيعة الحياة الفنية، فيمكن الاطمئنان إلى وقوعها).
ونقول ان الحديث مشهور، ومشهور كذلك انه موضوع، ولسنا نلف وندور، ولكنا نضع هنا قول الدكتور طه إبراهيم في هذه القصة، فلعل فيه بلاغا؛ قال بعد ذكر هذه القصة واختلاف وجوه النقد فيها: (وكل ذلك تأباه طبيعة الأشياء، وكل ذلك يرفض رفضا علميا من عدة وجوه:
1 - فلم يكن الجاهل يعرف جمع التصحيح، وجمع التكسير،
وجموع الكثرة والقلة، ولم يكن له ذهن علمي يفرق بين هذه
الأشياء، كما فرق بينها ذهن الخليل وسيبويه، ومثل هذا النقد
لا يصدر الا عن رجل عرف مصطلحات العلوم، وعرف
الفروق البعيدة بين دلالة الألفاظ، وألم بشيء من المنطق.
علي العماري