مجلة الرسالة/العدد 84/من روائع الشرق والغرب
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 84 من روائع الشرق والغرب [[مؤلف:|]] |
دعاء ← |
بتاريخ: 11 - 02 - 1935 |
مغرب الشمس في البحر
لأمير النثر الفرنسي (شاتو بريان)
من كتابه (عبقرية المسيحية)
بقلم أحمد حسن الزيات
كانت السفينة التي كنا نعبر بها المحيط إلى أمريكا فوق سوية الأرض اليبس؛ فلم يعد أمامنا مد الفضاء، غير طبقين من زرقة البحر وزرقة المساء! فكأنما كان نسيجاً أعده مصور فنان ليتلقى عليه آية إلهامه وإبداع فنه. وكان لون الماء قد ارتد إلى لون الزجاج المذوب؛ وقد سرت في الموج رعدة قوية جاءته من ناحية المغرب، مع أن الريح كانت تهب حينئذ من جهة المشرق، ثم ثارت من الشمال إلى الجنوب أمواج عالية، كانت تفتح في ثنايا أوديتها فُرجاً طويلة يقع النظر منها على صحاري المحيط. كانت هذه المناظر المنتقلة تختلف وجوها في كل لحظة: فتارة تكون سلاسل من الربى المخضرة، كأنها أخاديد الأحداث في مقبرة واسعة، وتارة تكون إرسالا من الموج تتراغى أعإليه فتحكى قطعاناً من الغنم البيض قد انتشرت في حقول الخَلنْج؛ وغالباً ما ينطبق الفضاء فلا ينطبق عليه تشبيه، فإذا ارتفعت موجة على متن المحيط، وانخفضت لجة فصارت كالساحل البعيد، ومر رَعيل من كلاب البحر في خط الأفق، انفتح الفضاء أمامنا فجأة. إنما كنا نتصور اتساع المدى وانفساح الطرف إذا ما تسحب على وجه البحر ضباب خفيف، فكأنما كان يزيد في سعة الافق، ويدفع في امتداد الجو!
آه! لشد ما كانت صور الأقيانوس في تلك الساعة مظهر عظمة ومثار حزن! ولله تلك الأحلام التي يلقيك فيها ويغمرك بها! سواء بايغال الخيال في بحار الشمال بين الصقيع والزوابع، أو بإرسائه في بحار الجنوب على جزر الرخاء والغبطة؟
كان غالباً ما يحدث أن نهب من النوم بعد وهن من الليل فنجلس على ظهره السفينة حيث لا نجد إلا ضابط النوبة وبعض البحارة يدخنون غلايينهم في سكون وصمت، وكان كل ما يقع في الأذن إذ ذاك إنما هو صوت السفينة تشق بحيزومها عباب المحيط، على حين ك شرار من النار يجري مع الزبد الأبيض على جانبي المركب. سبحانك اللهم!! لقد نقشت في كل شيء آي قدرتك، ولا سيما في أطباق اللجج وأعماق السموات: ملايين من النجوم تشع في القبة الزرقاء، وبدر ثم يتألق في كبد السماء، وبحر لًجى من غير ساحل ولا حد، ولا نهايةٌ في السماء وعلى الماء! أبداً ما هزت قلبي عظمتك بمثل ما هزته في هذه الليالي، وأنا معلق بين الكواكب والأقيانوس، فوق رأسي سعة لا تحد، وتحت قدمي سعة لا تقاس
أنا لست شيئاً، إنما أنا ناسك ساذج. ولطالما سمعت العلماء يجادلون في (الكائن الأول) فلم أفهم عنهم. ولكني لاحظت أن هذا الكائن المجهول يستعلن وجوده في قلب الإنسان كلما نظر في المشاهد العظمى للطبيعة
ففي ذات ليلة ساجية الجو هفافة الريح، وجدنا أنفسنا في تلك البحار الجميلة التي تنضح شواطئ (فرجينينا)، وكانت الشرُع كلها مطوية؛ وكنت أنا مشغولاً داخل السفينة حين سمعت الناقوس يدعو البحارة الى الصلاة، فأسرعت مع رفقاء السفر أمزج دعواتي بدعواتهم، وأضم صلاتي إلى صلواتهم. وكان الضباط والركاب قد أخذوا مواقفهم على كوثل السفينة، والقسيس في يده كتابه قد وقف من دونهم قليلاَ، والملاحون قد انتشروا على ظهر المركب. وكنا جميعاً واقفين ووجوهنا شطر قيدوم السفينة وهي ناظرة إلى المغرب. وكان قرص الشمس وهو على أهبة المغيب في الماء، يتراءى من خلال الجبال في وسط الفضاء، فكان يخيل إلي من نوسان كوثل السفينة أن الكوكب المضيء يغير أفقه في كل لحظة! وكانت قطع من السحاب قد انتثرت على غير نظام في المشرق، والبدر البازغ قد أخذ يرتفع بطيئاً في الأفق، وكانت بقية السماء صافية الأديم سافرة الوجه؛ وفي جهة الشمال انبعث من البحر إعصار يتألق بألوان المنشور الزجاجي كأنه عمود من البلور قامت عليه قبة السماء، فتألف منه ومن كوكب النهار وكوكب الليل مثلث باهر الجلالة!
إن الرجل الذي لا يدرك جمال الله في هذا المشهد ليستحق الرثاء والرحمة! أسبلت أوراق عيني على الرغم مني حين حسر الرفاق قبعاتهم المقطرنة عن رءوسهم وأنشدوا بصوت أصحل أبح نشيدهم البسيط: (سيدتنا صاحبة المعونة وحامية البحارة)
لشد ما أثر في نفسي صلاة هؤلاء الرجال وقد وقفوا وسط المحيط على لوح هَشٍ من الخشب يتأملون الشمس وهي تغرب في اللجة: فالشعور بحقارتنا أمام عظمة اللانهاية، وأناشيدنا المرسلة على الأمواج، ودنو الليل بويلاته ومكائده، وسفينتنا العجيبة في بحر مسجور بالعجائب، وفريق من البحارة استولى على قلوبهم الإعجاب والخوف، وقسيس جليل عاكف على الصلاة، والله الذي تجلى للبحر فأمسك بإحدى يديه الشمس على حجاب المغرب، ورفع بالأخرى القمر من مهاد المشرق، وهو يسمع من خلال الفضاء المطلق أصوات خلقه، كل أولئك لا يستطيع قلم أن يصوره، ولا قلب مهما دق شعوره أن يتصوره!
الزيات