مجلة الرسالة/العدد 84/من أقاصيص الجاهلية
→ القصص | مجلة الرسالة - العدد 84 من أقاصيص الجاهلية [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 11 - 02 - 1935 |
2 - حرب البسوس
بقلم اليوزباشي أحمد الطاهر
(عود علي بدء)
قتل كليب فعمت الملأ فتنة عمياء، وهبت عليهم عاصفة هوجاء، ونزع الشيطان بين العشيرتين
هنا قلوب تقطر حزناً، وحزناً يدفع إلى اليأس وإلى الموت، وهنا نفوس تتواثب إلى الانتقام، وتستعذب في سبيله الحمام. وهناك قلوب تجب من هول ما أقدمت عليه، وتستشعر الندم لمقتل كليب، تهمس به في غسق الليل، وتخفيه نهاراً، ضنا بالكرامة وأنفة واستكباراً، وهناك فتية يحترقون للقتال، ولكن لا يثقون بنصرة الرجال، ويخشون أن يتخاذل النصراء عند نزول الخطب ويستخذي الرجال عند اشتداد الكرب، وبين هؤلاء وهؤلاء كهول وشيوخ يسيرون في الليلة الظلماء على قبس الحكمة ونور الأناة، ويتابعون السير في مدلهم الحوادث، يبتغون مخرجاً من الكوارث. فعقدوا عن الحرب في صمت ووجوم، ولم يعينوا ظالماً على مظلوم، ومن هاماتهم الفند الزماني، والحرث بن عباد فارس النعامة
ولكن طغت على القوم ثورة الغضب. وانساقوا إلى الحرب ورداً يؤزهم الشيطان أزّا
ولم يطلب لبني شيبان المقام بأرض فيها مذلة، ولهم فيها ذلة، فارتحلوا ونزلوا (بماء النهى) ولحقت جليلة بأبيها مرة ابن ذهل. وعلى رأس بني شيبان الحرث بن مرة أخو جساس وعلى رأس بني ثعلب المهلهل بن ربيعة أخو كليب واستحر القتال بينهم بماء النهى ودارت الدائرة على بني شيبان، وكانت الغلبة لتغلب؛
ولما أصبح القوم على مدرجة من سيل الحوادث، قال قائل منهم:
(هلموا إلى الكهنة نستلهمهم الصواب، علهم يكشفون الكرب أو يحجبون البلاء) وقال آخر: (ما للكهنة وهذه الكروب؟ إنما يلوون ألسنتهم بالقول كأنما نزل عليهم من السماء، فان تدبرت في قولهم لم تفهم منه شيئاً محدوداً، ولا رأياً مقصوداً، وإن فهمت فقد تفهم من القول معنيين لا تدري أيهما تأخذ وأيهما تدع.) واستقروا على أن يستشيروا الكهنة والكهنة فان عجزوا عن هديهم اعتصموا بعجزهم عن لوموبعثوا إلى الكهنة رسولاً منهم
وعاد الرسول يتلو عليهم قول الكهنة (يا للمحنة ويا للشقاء! ريح نكباء، وكرب وبلاء، وحرب ضروس، وسيوف تطيح بالرءوس، والقوم أحرص على الموت من حرص الموت على النفوس. قتل كليب ولابد مما كان، والرأي عند الفوارس لا عند الكهان)
- (أفهمتم من قولهم شيئاُ يا قوم؟)
- (أنهم يأمرون بالقتال!)
- (أنهم لا يأمرون بالقتال!)
ومضى القوم في صخب ولجب، وقاموا إلى المهلهل بن ربيعة أخي كليب يعجمون عوده، ويغمزون قناته. فإذا هو في فريق من أهله منهم عتاب بن سعيد بن زهير، وكعب بن زهير. والقوم بين ثائر يدعو إلى القتال وينفخ في ناره، وعاقل يجنح إلى السلام ويدعو الى داره، وفيهم من دسه بنو بكر، ليتنسم الأخبار، ويكشف عن النوايا الستار
وقام المهلهل على شرف واتكأ على رمحه وقال:
كليب لا خير في الدنيا ومن فيها ... إن أنت خليتها فيمن يخليها
كليب أي فتى عز ومكرمة ... تحت السفاسف إذ يعلوك ساقيها
نعى النعاة كليباً لي فقلت لهم ... مالت بنا الأرض أو زالت رواسيها
الحزم والعزم كانا من صنيعته ... ما كل آلائه يا قوم أحصيها
القائد الخيل تردى في أعنتها ... زهواً إذا الخيل لجت في تعاديها
من خيل تغلب ما تلقى أسنتها ... إلا وقد خضبوها من أعاديها
نروي الرماح بأيدينا فنوردها ... بيضاً ونصدرها حمراً أعاليها
ليت السماء على من تحتها وقعت ... وانشقت الأرض فانجابت بمن فيها
وكأن المهلهل لم يغب عنه أن في الجمع الذي انتظم عنده أفراداً من بكر يتجسسون، فقذفهم بقوله:
لا أصلح الله منا من يصالحكم ... ما لاحت الشمس في أعلى مجاريها
فألقموا حجراُ وقاموا إلى أهلهم يتميزون. وبقي التغلبيون، فقال لهم المهلهل: (يا قوم! أما الحرب فانه لا يقف في سبيلي إليها خوف أو جزع، ولا يتكاءدني في طريقي إليها خور أو فزع، والقوم قد لجوا في عتو ونفور، وسأخسف بهم الأرض فإذا هي تمور. فلما استيأسوا منه خلصوا نجياً، قال كبيرهم (إن المهلهل لا ينثني. والرأي عندي أن نبعث نفراً منا إلى بكر يعرضون عليهم. الفداء مشتطين فيه حتى لا يكون لبكر قبل بأدائه، ولا يجدوا سبيلاً إلى وفاءه، فان عجزوا - وسيعجزون - كان لنا في حربهم سبب ومعذرة) وابتلوا من بينهم ثلاثة بالسفارة إلى مرة بن ذهل ابن شيبان وهو أبو الحرث وأبو هام وأبو جساس وأبو جليلة.
قالوا له (إنكم أتيتم عظيماً بقتلكم كليباً بناب من الأبل، فقطعتم الرحم، وانتهكتم الحرمة، وإنا كرهنا العجلة عليكم دون الاعذار اليكم، ونحن نعرض خلالاً أربعاً لكم فيها مخرج ولنا مقنع)
فقال مرة (وما هي؟) قالوا: (تحيى لنا كليباً! أو تدفع إلينا جساساً قاتله فنقتله. أو هماماً أخاه فانه كفء له، أو تمكنا من نفسك فان فيك وفاء من دمه) قال: (أما إحيائي كليباً فهذا ما لا يكون، وأما جاس فانه غلام طعن على عجل ثم ركب فرسه فلا أدري أي البلاد احتوى عليه، وأما همام فانه لن يسلمه الى أبناؤه العشرة، ولا أخوته العشرة، ولا أبناء أخوته العشرة أولئك جميعاً لا يدفعون به إليّ ولا إليكم، وهم فرسان قومهم لتقتلوه بجريرة غيره، وأما أنا فهل هو إلا أن تجول الخيل جولة غداً فأكون أول قتيل بينها، فما أتعجل من الموت ولكن لكم عدني خصلتان: أما إحداهما فهؤلاء بني الباقون فعلقوا في عنق أيهم شئتم نِسْعَةً فانطلقوا به الى رجالكم فاذبحوه ذبح الجزور، وإلا فألف ناقة سوداء المقل أقيم لكم بها كفيلاً من بني وائل)
قالوا: (لاّ) بملء أفواههم , وأصروا واستكبروا استكباراً
وارحمتاه لهذا الشيخ المنكود مرة بن ذهل، هذه ابنته جليلة قد قتل زوجها فعادت إليه مكلومة الفؤاد مهيضة الجناح، وهذا ابنه جساس قد قتل زوج أخته وفر لا يعلم له مستقر، وهذا ابنه الحرث بن مرة فر من الموت في وقعة النهي فأدركه الموت في وقعة الذنائب إثر طعنة من كعب بن زهير، وهذا ابنه همام طلب للموت يوم عرض الفدية فضن به أبوه، وطلبه الموت يوم (واردات) فما استطاع أبوه للموت رداً وعزيز علي القوم أن يموت همام أبو العشرة وأخو العشرة وعم العشرة. ولقد أصاب موته الوتر الأرن من قلب المهلهل، والمهلهل قد علمت غليظ القلب مصدور، شديد البأس موتور، وقف عند همام وهو طريح تسيل دماؤه على الأرض وتصعد روحه الى السماء تشكو الى بارئها ظلم الإنسان للإنسان وقال: (والله ما قتل بعد كليب قتيل أعز على فقداً منك)
وتحدث القوم عن موت همام، وعن نكبة أبي همام وقد ابيضت عيناه من الحزن، وقال الملأ: (أما لهذه الويلات من آخر؟ هذا المهلهل يقطر قلبه حزناً لقتل همام ولكنه يمضي في بغية واستئساده كأنما رءوس بكر زرع قد وكل بحصاده)
ولم تكن الحرب سجالاً بين الفريقين حتى اليوم، بل كانت الغلبة لتغلب، أما غداً فسيكون لها شأن آخر
أخرجها: احمد الطاهر