مجلة الرسالة/العدد 833/الأدب والفن في أسبوع
→ تعقيبات | مجلة الرسالة - العدد 833 الأدب والفن في أسبوع [[مؤلف:|]] |
البَريدُ الأدَبي ← |
بتاريخ: 20 - 06 - 1949 |
للأستاذ عباس خضر
أثمان الكتب في وزارة المعارف:
أوضحت في الأسبوع الماضي موضوع اختيار الكتب للقراءة الأدبية في المدارس الثانوية وما أثير حوله في وزارة المعارف، كما أبديت ما عنَّ لي من الملاحظات في شأنه. وأريد أن أعرض اليوم لمسألة أثمان تلك الكتب، وغيرها من الكتب المدرسية المؤلفة وفق المناهج الرسمية.
أما كتب المطالعة الأدبية فقد كانت الوزارة تشتريها من السوق الحرة بأثمانها التي تباع بها الجمهور أو بما ينقص قليلا عن هذه الأثمان، إذ كانت الوزارة تكتب إلى المكتبات ودور النشر، تطلب موافاتها بالثمن الأصلي وبمقدار ما هي مستعدة أن تنقصه من أصل الثمن من أجل الوزارة. .
وفي فبراير الماضي قررت الوزارة أن تثمن الكتب بحسب نفقات طبعها وورقها وحبرها وتغليفها وما إلى ذلك، وتقدر هذه النفقات لجنة خاصة في الوزارة تضم بعض الفنيين في الطباعة والنشر، وبطبيعة الحال تحصى اللجنة عدد الصفحات والسطور والكلمات والحروف لتقدر ما تكلفته المطبعة في إعدادها. ويضاف إلى هذه النفقات ستون في المائة منها، للناشر والمؤلف حسبما يتفقان.
وقد كان يقوم بنفسي إزاء الذي كان متبعاً من قبل، أنه لا يليق بالوزارة أن تطلب من الناشرين وأصحاب الكتب معاملتها معاملة خاصة من حين إنقاص الثمن بنسبة معينة، فهذا أشبه بالمساومة التي يرتفع عنها كثير من الناس، ولم تشتري الحكومة بثمن غير الذي يشتري به الناس؟ وهل هي عندما تشتري السلع الأخرى تطالب بمثل هذا (الخصم)؟
ولكن ذلك شيء يسير، يشغلنا عنه الآن هذا القرار الأخير الذي جب ما قبله، والذي أربى عليه غبنا. ويظهر أن (حرفة الأدب) تدخلت في الموضوع، فبغت - كدأبها - أن ترزئ أهلها: الأدباء. . .
وقل لي بربك هل تشتري الحكومة العلف من تبن وشعير وبرسيم لما تملكه من بهائم، بحسب نفقات الإنتاج، في غير ما يدخل التسعير العام للجمهور؟ فما بالها تتخذ هذه الطريقة في غذاء العقول ومنتجات قرائح أصحابها من الطبقة الممتازة في الآدمية؟
ولم يرتح أصحاب الكتب المقررة إلى تلك الطريقة التي تقرر اتباعها في تثمين كتبهم، ومن أوجه الضرر التي تلحق بهم أن الوزارة حينما تشتري الكتاب بثمن بخس وتأخذ منه عشرة آلاف أو عشرين ألفاً أو ما بين ذلك، ترخصه في السوق، فقد يعود إليها بعد التوزيع على الطلبة بثمن أقل. ويرون أن الأمر غير لائق من الوجهة الأدبية كما هو مجحف من الناحية المادية يقول بعضهم: هل نحن نعتصر أفكارنا لتقدر بسعر ما تكتب به من الحبر؟
وقد حدث أن قدرت اللجنة الجزء الأول من كتاب (الأيام) بسبعة قروش وهو يباع للجمهور بعشرين قرشاً؛ ولما علم الدكتور طه حسين بك مؤلف الكتاب بهذا التقدير، رأى الامتناع عن بيعه للوزارة، فزيد التقدير عدة مرات إلى أن وصل التقدير إلى ثلاثة عشر قرشاً، حتى رضى الدكتور. وهذا مثل يطلعنا على ما عساه أن يكون لذلك القرار من جرائر وما يسود تنفيذه من اعتبارات. .
ومما يوجه إلى طريقة تثمين الكتب بنفقاتها المادية، أنها تسوى بين كتاب وكتاب قد يكونان مختلفين في القيمة الأدبية، وتلك الطريقة لا تكون عادلة إلا في بيع الكتب المتخلفة عن الرواج حينما توزن بالأقات والأرطال. .
ومما يذكر في هذا الصدد، أن الكتب التي تقرر لمكتبات المدارس تطبق في تثمينها الطريقة الأخيرة، فيما يؤخذ منه أكثر من ثلاثمائة نسخة، أما ما دون ذلك فيشتري بأثمان السوق أو بما ينقص عنها قليلا كما تقدم.
أما الكتب المدرسية المؤلفة وفق المناهج الرسمية فلها قصة أخرى: كانت الوزارة تطبع هذه الكتب بالمطبعة الأميرية، وتوزعها على طلبة المدارس الأميرية. وقد جرت على أن تعطي المؤلف مكافأة نحو مائة أو مائتين من الجنيهات، وكثيراً ما يكون للكتاب عدَّة مؤلفين، وقد يكون له عدا المؤلفين مراجعون ولم تكن المكافأة في نظر المؤلفين والمراجعين شيئاً مذكوراً إنما كان ربحهم من طبع الكتب في مطابع أهلية بنفقات أقل من نفقات المطبعة الأميرية وبيعها بالثمن المقدر رسمياً على أساس هذه النفقات، لطلبة المدارس الحرة في مصر، ولبعض وزارات المعارف والمدارس الحرة في الأقطار العربية الشقيقة. وفي فبراير الماضي قررت وزارة المعارف أن توزع الكتب المدرسية على المدارس الحرة كما توزعها على مدارسها.
ورأت دور النشر في هذا القرار ما يهددها في أرحب مجال لعملها وخاصة في هذا الوقت الذي قل فيه الإقبال على الكتب وتعذر إصدارها إلى الخارج. فشكت إلى الوزارة ما ينالها من جرائه وما يؤدي إليه من تعطيل عمالها، وشاركها في ذلك المؤلفون إذا رأوا أن كل كسبهم من تأليفهم ينحصر في المكافأة الضئيلة الهزيلة التي تمنحها الوزارة لهم، وقد قرر بعضهم الامتناع عن التأليف المدرسي مادامت هذه الحال.
ومما لاشك فيه أن امتناع المؤلفين الممتازين عن التأليف وقيام غيرهم به ممن يرضى بالقليل يؤدي إلى ضعف التأليف للمدارس وانحطاط مستواه. وقد تولى وزارة المعارف معالي الأستاذ علي أيوب، وتلك الحال قائمة، وقد تلقى شكايات واستمع إلى وجهات نظر مختلفة. والأمر - في كل ما يتعلق بالكتب مدرسية أو أدبية عامة - بين يدي معاليه قيد البحث والنظر، ولا شك أن روح القاضي التي يعالج بها معاليه أمور وزارة المعارف منذ وليها، يبعث الطمأنينة في نفوس المهتمين بالأمر وذوي الغيرة على الصالح العام.
اليوم خمر:
هي حياة امرئ القيس، وهي تتلخص في هاتين الكلمتين (اليوم) و (خمر) فقد كان يعيش في يومه عيشاً كله خمر، فلم يعبأ بالغد ولم يجدَّ فيما نازعته، إليه نفسه أحياناً من أمر، فهو يلهو بالشرب والصيد ومغازلة الحسان، حتى إذا قتل أبوه وبلغه نعيه وهو عاكف على لهوه لم يثنه ذلك عن شرابه ولعبه وأعلن أن (اليوم خمر وغداً أمر) فإذا نال من قتلة أبيه بعض الشيء أعلن فك الحظر واستأنف يومه وخمره، وأعرض عن غده، وأعياه أمره. وتعرض له فكرة الرحلة إلى القسطنطينية للاستعانة بقيصر على استعادة ملك أبيه، فيحزم أمره على الرحلة عندما يعلم ما في القسطنطينية من خمر معتقة ومن فيها من حسان فاتنات. وهناك يستبدل حانة ميخايلوس بدارة جلجل، وأين عذارى الغدير من لا ريسكا ومينورقا وابنة القيصر؟
تلك هي حياة الأمير الشاعر امرئ القيس بن حجر الكندي كما صورها الأستاذ محمود تيمور بك في مسرحيته الجديدة (اليوم خمر) وقد عنى فيها بتصوير الصراع في نفس امرئ القيس بين حياة اللهو والمرح وبين المجد المؤثل، ويغوص الأستاذ في طوايا هذه النفس ليستخرج حقيقة معدنها، فإذا هي نفس جادة إذا هرلت وهارلة إذا جدت!
والمعجزة الكبرى في هذه المسرحية، هي تطويع الجزالة العربية لأسلوب العصر وصب الفحولة الجاهلية في قالب الرشاقة العصرية، وقد مزجت بعض العبارات الأصلية المأثورة بأسلوب المؤلف فلا تميزها إلا بمعرفتك إياها من قبل، ومع هذا لا يذهب بك بعيداً عن لغة عصرنا هذا برقتها وسهولتها. . وأعتقد أن الأستاذ تيمور بك توخى لذلك أن يستكمل تصوير عصر المسرحية بأسلوب أشبه بلغته، وقد بلغ بذلك ما أراد مع تجنب الإغراب وترك ما ليس مأنوساً في هذا العصر.
وتعرض المسرحية صورة صادقة للحياة العربية البدوية الأولى - كما نتخيلها - وتبرز شيمها وطبائعها التي تنزع نفوسنا إليها باعتبارها أصلاً من أصولنا، ولا نزال نترسمها في مثلنا وحياتنا. وفيها تعبير عن معان وحقائق إنسانية خالدة. وهي تتسم بالجمال، جمال البيان، وجمال التنسيق في عرض الحوادث والمناظر، وجمال الصدق في التعبير عن خلجات النفوس ومفارقات الحياة.
وقد آثرت أن أمسك عما لاحظته في المسرحية مما أظنه مآخذ، إلى أن نلتقي بها في المسرح، ولعل الفرقة المصرية تفتتح بها موسمها القادم على مسرح الأوبرا، وتهيئ لنا بذلك لقاءها هناك.
نجيب الريحاني:
توفى يوم الأربعاء الماضي، الممثل الكبير الأستاذ نجيب الريحاني، وقد بعث نعيه الحزن في كافة الطبقات، فلم يكن فقيد طبقة أو طائفة دون أخرى. إنما هو فقيد أمة، عاش لها وخدمها بفنه ظل حياته على المسرح يضيء لها، وأخيراً احترق.
كان رحمه الله فناناً ساخراً، يسخر من الحياة وممن يعقدون أمورها على أنفسهم وعلى الناس، وطالما حل مشكلاتها بحكمته الضاحكة، وطالما بعث المسرة إلى القلوب بفكاهته الرائقة، وأخيراً أسدل الستار على المأساة إذ فارق الحياة. وقد كان يكشف بحاسته الفنية ما في الحياة من سخف وتفاهة، ولعله بمفارقتها قد بلغ نهاية الفن. . . إذ أشرف روحه على مهازل الأحياء فسخر منهم السخرية الكبرى.
ووفت له الجماهير، إذ احتشدت في تشييع جنازته التي هرع الناس إليها من جميع الطبقات فكانت جموعهم ودموعهم مرثية رائعة مطلعها مندوب جلالة الملك.
كانت صحة الفقيد الكريم قد اعتلت أخيراً، ولكنه ظل يعمل على المسرح لأنه لم ير للعيش طمعاً مع اعتزال الفن والخلود إلى الراحة، ولكن الراحة الكبرى سلبته الاختيار، فخلى مكانه في المسرح، وأسلم الراية مكرها.
كان الريحاني مدرسة في فن التمثيل تهدف إلى الأغراض الإصلاحية، وتؤدي إلى هذه الأغراض بطريقة فكاهية محببة إلى الخاصة والكافة، فكان المجتمع يتلقى عليه ويستفيد منه وهو يستمتع بفنه ويطرب لدعابته.
فما أشد فاجعة المسرح في الريحاني، وما أفدح خسارة الأمة في فنانها العظيم.
عباس خضر