الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 833/أمم حائرة

مجلة الرسالة/العدد 833/أمم حائرة

مجلة الرسالة - العدد 833
أمم حائرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 20 - 06 - 1949

8 - أمم حائرة

المرأة في هذا العصر أيضاً

لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك

وزير مصر المفوض بالمملكة السعودية

قال الفريق الأول: أتبغون المرأة حبيسة في دارها، منقطعة عن دنياها، محجوبة عن الطرق والأسواق، ممنوعة من الأندية والمجامع، محرومة من المسارح والملاهي؟ أتبتغونها قعيدة بيت لا تعرف إلا ما حوته الجدر من دارها ودور جيرتها وأهلها؟ أكذلك تبغونها أيها الظالمون؟

فيقول الفريق الآخر: كلا كلا. لقد بينا قبلا مكانة المرأة من نفوسنا، وأعربنا عن إعظامنا بل تقديسنا إياها، ودعونا إلى أن تبلغ من العلم والخلق الدرجات العليا، وهي اعز علينا واكرم من أن تحبس أو تحجب أو تمنع وتحرم.

إننا نريدها أميرة دارها، وملكة أسرتها، قوامة على أولادها، في الدار عملها، وفيها جهادها، وفيها عبادتها، وفي الأسرة يتجلى علمها وأدبها، ثم لا حرج عليها بعد هذا أن تخرج إلى الأسواق، وتسير في الطرق، وتغشى المجامع؛ ولكن مسير السيدة الكريمة ربة الأسرة التي تخرج من دارها لشئونها ثم تسرع الأوبة إليها.

نريد أن تكون خارج دارها ملء الناظر إعجابا وإكبارا، وكرامة ومهابة، يخسئ العيون عنها تصونها وكبرياؤها، ويرد السفهاء استقامتها في طريقها، وسمتها في سيرها.

كذلك نود أن تكون المرأة حيثما توجهت، وأينما سارت، ونود أن تحيطها البيئة بأدب يزيدها كرامة وعزة، وتلقاها بأخلاق تيسر لها السيرة الكريمة، والخطة القويمة، والمنزلة العالية. لا كما تعرفون في شوارعكم وأسواقكم ومجامعكم وملاهيكم، فنحن لا نخالفكم على الحرية، ولكن على الأخلاق والآداب والكرامة والصيانة.

وليس الذي ندعو إليه محالاً ولا عسيرا. نحن لا نزال في أول الطريق ونخشى العاقبة التي ينتهي إليها هذا المسير، والنهاية التي تؤدي إليها هذه البداية. وكم رأينا في بلاد شرقية وغربية المرأة الوسيمة المتجملة جادة في طريقها، مستقيمة إلى وجهتها، توحي إلى كل من يراها الإجلال والإكرام والأدب والحياء. وكثيرا رأينا هؤلاء عامدات إلى مسجد أو كنيسة معهن أولادهن، كأنما هن في معبد على الطريق إلى المعبد. فكذلك نريد النساء.

وعلى ذكر المساجد والكنائس نقول: هؤلاء الداعون والداعيات إلى ارتياد كل موطن، وغشيان كل مجمع، والمزاحمة في كل مضيق - لماذا لا يدعون إلى حق النساء في المساجد؟ لماذا لا يطالبن بأن يغشين المساجد مشاركات للرجال أو منفردات، ليصلين ويستمعن إلى المواعظ بل ليعلم بعضهن بعضاً من علوم الدين والدنيا؟ لماذا لا يطالب بأن يكون للنساء مدرسة دينية لتخرج عالمات في الفقه والحديث والتفسير وآداب الدين؟ لماذا تتوجه الدعوة وجهة واحدة؟ ولماذا تذكر الحقوق في جانب وتنسى في جانب؟ أليس الأمر محاكاة وتقليداً أو إيثارا للدعوى المدوية.

هذا فصل المقال بيننا وبينكم أيها المجادلون: تريدون خروج المرأة عن طبعها، وهجرانها دارها، وابتذالها في الأسواق والمجامع؛ ونريد لها الحياة على طبيعتها، والاعتصام بدارها، والصيانة والكرامة في كل سبيل، وكل مكان، وعلى كل حال.

قال الفريق الأول: إن دعواكم ينقض بعضها بعضاً، ويكذب آخرها أولها. تقولون لا نضيق على المرأة ولا نحجبها ولا نمنعها غِشِيان المجامع، وتقولون أن عملها في دارها، لا نخرجها منها إلا لضرورات، وتحرمون عليها العمل في المصانع وتولي المناصب، بل كل عمل خارج البيت، وهذا التهاتر في أقوالكم هو صورة الاضطراب في أفكاركم، وتزلزل الأدلة وراء دعاويكم.

ويقول الفريق الثاني: لو فقهتم ما قدمنا، وبلغتم غور ما أسلفنا، لم ترمونا بالتناقض في القول والاضطراب في الفكر.

إن الكلمة الجامعة في رأينا أن المرأة للدار، ويحرم الدار تدبيرها محرم عليها إلا ما اضطرتها إليها الضرورات، والضرورة شر ينبغي دفعه، وفساد في الجماعة يجب إصلاحه. وللمرأة أن تتولى كل عمل يلائمها ولا يقطعها عن أسرتها، ولا يخل بشؤون بيتها، ولا يحرم أولادها تربيتها ورعايتها، ولا يسلب زوجها إيناسها وإسعادها، والأعمال التي على هذا الشرط كثيرة.

للنساء مجال فسيح في أعمال البر والرحمة من تربية الأيتام، والقيام لهم مقام الآباء والأمهات بالشفقة والحنو، والعمل لتعليمهم وتهذيبهم، ومواساة الأسر الفقيرة وإنقاذها من العوز والمرض، وإمدادها سراً بما يحفظ كرامتها ويصون سمعتها، وإنشاء الملاجئ وما يتصل بها لصيانة الصبايا المشردات الآتي لا يجدن من يأخذ بأيديهن في هذا المجتمع المائج ومن يسمع شكواهن في هذا العيش الصاخب.

كل أولئك وأمور أخرى مثلها المرأة بها أولى، وبدخائلها أدرى، وهي احسن قياماً عليها بالرأفة والشفقة واللين والرفق والحلم والصبر.

فلسنا ندفع المرأة عن هذه الأعمال وما أكثرها، وما أعظم العمل فيها، براً بالأمة وإحسانا إلى الجماعة. ويستطيع النساء أن يعملن هنا ما يعجز عنه الرجال عملا دائباً في غير دعوى ولا جلبة، ولا جدال ولا خصومة. ولكن كثيراً من نسائنا مولعات بالقال والقيل، مغرمات بالبطولة والزعامة، يؤثرون الأمور الصغيرة التي يثور فيها الخلاف، ويشتد النزاع، وتذكر الأسماء، ويلتمس الصيت، فراراً من الأمور المجدية الشاقة التي يقوم بها الدأب والصبر والصمت وجهاد الأفكار والأيدي لا الألسن والأقلام.

ورحم الله الغزالي! كان يسمي المسائل التي يشتد فيها الجدل ويتمادى عليها النزاع (بالطبوليات)، ويرى أن كثيراً من فقهائنا يؤثرون هذه الطبوليات الجوفاء على العلم النافع والعمل الصالح والجهاد الخالص لوجه الله.

فما أشد ولوع بعض نسائنا ورجالنا بالطبوليات، يملأ بها الجو ضوضاء، وتشتغل الأمة عما هو أجدى وأعظم وأولى بسعيها وجدها وإعدادها فيما تتصدى له من الخطوب، وما يحيط بها من الحادثات، وما تضطلع به من أمور الإصلاح الكبار، وشئون التدبير الجسام.

(للكلام صله)

عبد الوهاب عزام