الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 832/شعر المعتمد بن عباد

مجلة الرسالة/العدد 832/شعر المعتمد بن عباد

مجلة الرسالة - العدد 832
شعر المعتمد بن عباد
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 06 - 1949


للأستاذ أحمد أحمد بدوي

(بقية ما نشر في العدد الماضي)

وبرغم شهرة شعراء الأندلس بوصف الطبيعة، وغرام المعتمد بها لم نجد له كثيراً من الشعر فيها، اللهم إلا حديثاً عرضياً عن البدر الذي كان يساهره، وهو هانئ بشرب الراح، كما تحدث عن شمعة سهرت معه كذلك وهو يشرب الخمر أيضاً، وقد رأى في نورها ولهبها ممثلاً لجمال ساقية ونار غرامه إذ يقول:

ساهرتها والكاس يسعى بها ... مَن ريقه أشهى من الكاس

ضياءها لا شك من وجهه ... وحرها من حر أنفاسي

ويقف ابن عباد في وصفه للخمر عند حد ما تراه العين، غير متجاوز ذلك إلى الحديث عن وصف أثرها في نفسه كما ترى ذلك في قوله:

لو زرتنا لرأيت ما لم تعهد ... ذوب اللجين خليط ذوب العسجد

ولعل المعتمد قد شغله الجمال الناطق ممثلا في المرأة عن الجمال الصامت ممثلا في الطبيعة.

ووصف المجن عندما طلب إليه أبوه وصفه، وكان قوي الخيال عندما ربط بين منظر المجن وقد أصبح يحكى السماء بما رسم عليه من نجوم وبين بُعد أن تناله طوال الرماح إذ قال:

مجن حكى صانعوه السماء ... لتقصر عنه طوال الرماح

وله قصيدتان تهكميتان بلغ فيهما مبلغاً كبيراً من الإتقان والإجادة، أما أولاهما فتلك التي رد بها على ابن عمار عندما طمع في أن يستأثر ببلنسية، فقال ابن عمار في ذلك شعراً يشيد فيه بمجده ومجد أسرته، ولم يكن ابن عمار من أسرة رفيعة الدار، بل كان خامل البيت، كما يقول مؤرخوه، فما هو إلا أن قال:

كيف التفلت بالخديعة من يدي ... رجل الحقيقة من بني عمار

حتى أنشد المعتمد قصيدة يعرض فيها بابن عمار وآبائه، ويذكر نشأتهم ومنبتهم، ويسخر من فخره بهم في أسلوب تهكمي لاذع بدأه بقوله يكمل قصيدة ابن عمار: الأكثرين مسودا ومملكا ... ومتوجا في سالف الإعصار

والثانية بعث بها إلى ابنه الراضي، عندما أرسل إليه يأمره بالخروج لمحاربة عدو هاجم (لورقة) فأظهر الراضي تمارضاً وانصرف إلى القراءة، فكتب إليه قصيدة تهكمية بدأها بقوله:

الملك في طي الدفاتر ... فتخل عن قود العساكر

وللمعتمد فخر بنفسه وبأسرته في ثنايا قصائد غزله ورسائله إلى أبيه، ولم ينشئ قصيدة للفخر قصداً إلا تلك التي أوحى إليه بها فتحه قرطبة، وإلا ثانية يفتخر فيها بالجود، وإلا ثالثة أنشأها في الأسر وسوف نعرض لها.

ولم يَرْثِ غير بنيه الذين قتلوا وهم يدافعون عن مدنهم، وهو حين يرثي يندفع حيناً وراء حزنه، حتى ليرى من الغدر ألا يفيض جفنه عليهم، ويرى نفسه أحق بالبكاء من تلك القمرية التي أثارها فقد إلفها:

فمالي لا أبكي؟! أم القلب صخرة ... وكم صخرة في الأرض يجري بها نهر

بكت واحداً لم يشجها غير فقده ... وأبكي لآلاف عديدهم كثر

غدرت إذا إن ضن جفني بقطره ... وإن لؤمت نفسي فصاحبها الصبر

وحيناً تتغلب العاطفة الدينية لديه، فيخفف ذلك من وقع المصائب عليه:

مخفف عن فؤادي أن ثكلكما ... مثقل لي يوم الحشر ميزانا

أما عندما كان في الأسر فإنه وجد في رثاء بنيه وبكائهم متنفساً عن آلامه، ووجد في الجزع عليهم تعبيراً عن يأسه وتبديد أحلامه، ولا ريب أن حاله في الأسر هو الذي أوحى إليه بهذا البيت الباكي:

يقولون صبراً، لا سبيل إلى الصبر ... سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري

وهو في هذه القصيدة يرى الطبيعة تشاركه في الحزن، فالبدر والنجوم الزهر في مأتم كل ليلة، والغمام يبكي مشاركة له في مصابه، ولا غرو فذو المنظار الأسود يرى الدنيا كلها سوداء، والمعتمد يناجي ولديه، محدثاً لهما عما خلفه بعدهما في القلوب، من جروح وندوب، وما استحال إليه مجده بعدهما من تبدد وانهيار، حتى إنهما لو عادا لآثرا الموت على أن يرياه مقيداً مأسورا.

فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر

أما شعره في الأسر فكان سلواه، يشكو له بثه، ويندب إليه حظه، ويحدثه بآلامه، ويبكي به مصيره ومصير ملكه.

وقد دافع المعتمد عن عرشه، وخرج بسيفه يذود عن حماه، ولم يستمع إلى رأي ناصحيه الذين أشاروا عليه بأن يتخذ خضوعه للمغيرين سياسة ينتهجها، عساهم يبقونه على العرش، فأبى، ورأى استلاب عرشه أفضل من النزول عن شرفه:

قالوا: الخضوع سياسة ... فليبد منك لهم خضوع

وألذ من طعم الخضو ... ع على فمي السم النقيع

إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع

فالقلب بين ضلوعه ... لم تسلم القلب الضلوع

لم أستلب شرف الطبا ... ع، أيسلب الشرف الرفيع

واستقبل المعتمد أسره لا بالثورة والتهديد والوعيد، ولكن بالبكاء والنحيب، فلم نر في شعره حديثاً عن أنصار سيثورون، ولا عن شعب سينتقم، بل رأينا استسلاما لآسريه، وبكاء على ماضيه. خرج به يوسف بن ناشفين إلى العدوة بعد أن خلعه، فوصل إلى موضع منها، وأهل البلد خارجون للاستسقاء فقال:

خرجوا ليستسقوا، فقلت لهم ... دمعي ينوب لكم عن الأنواء

قالوا: حقيق، في دموعك مقنع ... لكنها ممزوجة بدماء

ولم نره طول مدة مقامه في الأسر متوعداً ولا ثائراً، بل يائساً مستسلماً، ولم يمر به أمل العودة إلى سابق مجده إلى مروراً عابراً كما يمر به في حلم إذ يقول:

فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... أمامي وخلفي روضة وغدير

تراه عسيراً أم يسيرا مناله ... ألا كل ما شاء الإله يسير

ولم نحس بروح الثورة في شعر المعتمد وهو أسير إلا عند ما بلغ نبأ ثورة ابنه عبد الجبار، فهنا يذكر المعتمد السيف الذي طال رقاده في جفنه، والرمح الذي عطش إلى شرب الدماء، والجواد وقد حيل بينه وبين ارتقاب غرة في العدو فينادي قائلاً:

ألا شرف يرحم المشرفي ... مما به من شمات الوثين ألا كرم ينعش السمهري، ... ويشفيه من كل داء دفين

ألا حنة لابن محنية ... شديد الحنين ضعيف الأنين

بل أن ذكرى مجده ومجد آبائه الغابر في القصيدة الفخرية التي أنشأها في الأسر لم تكن لتثير فيه الطموح إلى إعادة هذا المجد، بل يسلى نفسه فيها بقوله.

وإذا ما اجتمع الدين لنا ... فحقير ما من الدنيا افترق

فالسائد في شعره روح الاستسلام لجور الدهر وظلم الأيام: يوصي نفسه بالصبر، ويدعوها إلى تحمل الكرب، ويوطنها على الكره، عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيقول:

اقنع بحظك في دنياك ما كانا ... وعز نفسك إن فارقت أوطانا

في الله من كل مفقود مضى عوض ... فأشعر القلب سلواناً وإيماناً

أما سمعت بسلطان شبيهك قد ... بزته سود خطوب الدهر سلطانا

وطن على الكره، وارقب إثره فرجا ... واستغنم الله تغنم منه غفرانا

كان هذا الأسر القاسي وما عومل به من إذلال فيه، والموازنة بين حاضره وماضيه، مدعاة لإثارة شجونه، وإدماء عيونه، وها هو ذا يصف لنا عيداً حزيناً قد أقبل عليه في منفاه وقد دخلت عليه بناته، يلبسن ثياباً أخلاقا وفي أيديهن المغزل يغزلن به للناس حتى لمن كان لهن بالأمس خادما، فثارت في خاطره أطياف السعادة الماضية، فتمزق قلبه وقال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا ... فساءك العيد في أغمات مأسورا

ترى بناتك في أغمات من عُدُم ... يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

برزن نحوك للتسليم خاشعة ... أبصارهن حسيرات مكاسيرا

يطأن في الطين، والأقدام حافية ... كأنها لم تطأ مسكا وكافورا

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلا ... فردك الدهر منهياً ومأمورا

وكثيراً ما كان يتذكر قصوره بالأندلس فيحن إليها، ويحسن كأنها تبكي أيامه الزاهرة، ولياليه المتلألئة، ويشعر على البعد بما ارتدته من الذل والوحشة بعده.

ومما ضاعف أساه، هذا القيد الذي غلت به قدماه، وشعره مليء بالحسرة التي تمزق قلبه لهذا القيد الثقيل الذي يراه يتلوى كالحية الرقطاء، وذا أيد وبطش كالأسد، ومن أروع شعره في ذلك حديثه إلى القيد، وقد دخل عليه ابنه أبو هاشم فارتاع له: قيدي، أما تعلمني مسلما ... أبيت أن تشفق أو ترحما

دمي شراب لك، واللحم قد ... أكلته لا تهشم الأعظما

يبصرني فيك أبو هاشم ... فينثني القلب وقد هشما

ارحم طفيلا طائشاً لبه ... لم يخش أن يأتيك مسترحما

وارحم أخياتٍ له مثلهَ ... جرعتهن السم والعلقما

ولم يكن هناك بصيص من أمل في النجاة والحرية ينفذ إلى قلبه، وكان الهم يحطمه والأسى يوهنه، واليأس يمصر قلبه، فكان يشعر بدنو أجله، بل كان يتخيل هذا اليوم قد حل، ولعله كان يراه آلامه وأحزانه، فرثى نفسه بأبيات أوصى أن تكتب على قبره، لم يشر فيها لغير ماضيه، وكأنه يريد بذلك أن يمحو من ذاكرة التاريخ ما بلاه من الأسر والشقاء حيث يقول:

قبر الغريب، سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأشلاء ابن عباد

بالطاعن الضارب الرامي إذا اقتتلوا ... بالخصب إن أجدبوا بالري للصادي

نعم هو الحق وافاني به قدر ... من السماء، فوافاني لميعاد

ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادي فوق أعواد

فلا تزل صلوات الله نازلة ... على دفينك لا تحصى بتعداد

وقبل أن أختم هذا الفصل أشير إلى صلة المعتمد بالشعراء في منفاه، فقد استقبله في طنجة الحصري الشاعر، وأقبل عليه يلح في طلب العطاء ورفع إليه شعراً، فبعث إليه المعتمد بأكثر ما كان معه من مال قليل، واعتذر إليه بقطعة من الشعر، فأخذ الحصري ما أرسل إليه، ومضى مستقلاً للعطاء، مهملاً للمعتد؛ ولما سمع الشعراء بعطاء المعتمد أقبلوا عليه يسألونه، فعجب من أمرهم وقال:

سألوا العسير من الأسير وإنه ... بسؤالهم لأحق منهم فأعجب

لولا الحياء وعزة لخمية ... طي الحشا لحكاهمو في المطلب

ووفى له ثلاثة من شعرائه هم أبو بكر الداني، وابن حمديس، وابن عبد الصمد، وأبى كرم المعتمد إلا أن يرسل إلى أولهم عندما زار أغمات بالقليل الذي كان يملكه، فأبى الداني أن يأخذ على وفائه أجراً، وأما الثاني فقد أقبل يريد زيارته فصرفه بعض الخدم، فأرسل المعتمد إليه قصيدة يعتذر فيها. ولعله كان يرجو أن يرى في شاعره صورة من مجده الغابر، وأثراً من آثار عظمته وسلطانه، وأما ابن عبد الصمد فإنه مضى إلى قبر المعتمد بعد صلاة العيد مع ملأ من الناس يتوجعون له ويترحمون عليه ثم أنشد قصيدة طويلة أرلها:

ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي

لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد

أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد

وخر يبكي، وبعفر وجهه في تراب قبره.

- 4 -

أهم ما يتصف به شعر المعتمد الوضوح الذي يدل على وضوح التجربة لدى الشاعر، فلا تعثر في شعره علىغموض ولا التواء. ومما ساعد على هذا الوضوح الوحدة في شعره؛ فكل مقطوعة أو قصيدة تتحدث عن خاطر من نفس المعتمد، وتتضافر الأبيات في إيضاح هذا الخاطر وتسير في اتساق ونظام.

وكثير من شعره في عهد الإمارة والملك مقطوعات تدل على انفعال يكفي هذا القدر في تصويره، مع قدرة المعتمد على الإطالة إذا أراد.

أما موسيقاه فمناسبة لهذه الانفعالات، ولذا ترى أكثر أوزان الغزل مطربة سارة سريعة كقوله:

يا بديع الحسن والإح ... سان، يا بدر الدياجي

يا غزالاً صاد مني ... بالطلا ليث الهياج

قد غنينا بسنا وجـ ... ك عن ضوء السراج

وترى شعره في الأسر يلتزم البحور الطويلة التي تدل على التأمل والأناة لا على الثورة والجموح. وليس في شعره في هذا العهد موسيقى تشعر بالسرعة إلا قطعته التي قالها في أثر ثورة ابنه عبد الجبار؛ فهي من المتقارب السريع الحركة؛ لأنها تعبر عن انفعال سريع، وحركة تضطرم في صدره، كما اختار البحور الطويلة لذلك في رثائه.

وتشبيهات المعتمد مألوفة، ولكن يزينها ما يضفيه على الشعر من تناسب كقوله:

يا هلالا، إذ بدا لي تجلت ... عن فؤادي دجنة الكربات فأنت ترى التناسب بين الهلال والدجنة. وحينما يفصل التشبيه في الغزل زيادة في بعث اللذة بتصوير من يحب حين يقول:

يا هلالا حسن خد، يا رشا ... غنج لحظ، يا قضيباً لين قد

ولا يتخذ المعتمد الغزل مقدمة لقصائد مدحه لأبيه، كما كان يفعل الشعراء السابقون.

ويميل المعتمد إلى الجمال الطبيعي في شعره، فقل أن يلجأ إلى الصناعة. وإن كنت لا تعدم أن ترى هنا جناساً، وهناك طباقاً وهنالك لفاً ونشراً، وغيرها، ولكنه مع ذلك يحسن الصوغ، فلا تحس بنبوّ ولا قلق، وإن كنت لا أنكر أثر الكلفة في قوله، يدعو بعض زملائه إلى الشراب:

أيها الصاحب الذي فارقت عي - ني ونفسي منه السنا والسناء

نحن في المجلس الذي يهب الرا - حة والمسمع الغنا والغناء

نتعاطى التي تنسيك في اللذ - ة والرقة الهوى والهواء

فأنه تلف راحة ومحيا ... قد أعد لك الحيا والحياء

وزادت الصناعة من جمال قوله يتحدث عن قمرية تنوح:

وناحت وباحت واستراحت بسرها ... وما نطقت حرفاً يبوح به سر

ولم تغض الصناعة من جمال مقطوعته الغزلية التي جعل في أول كل بيت منها حرفاً من حروف زوجه اعتماد.

والمعتمد دقيق ذو ذوق مرهف في اختيار ألفاظه التي توحي إلى القارئ بخاطره. وخذ مثلاً لذلك كلمة الأوار التي توحي إليك بلهيب النار وقد دل بها على نيران المعركة، وكلمة شخيص المصغرة وهي توحي بضآلة جسم ابنه أبى هاشم، وهذا في البيتين اللذين أوردناهما في معركة الزلاقة، وتأمل كلمة (مسيحا) في قوله يسترضي أباه:

سخطك قد زادني سقاما ... فابعث إلى الرضى مسيحا

لترى ما توحي به إلى نفسك من مقدرة المسيح على الإبراء، وما في الكلمة نفسها من دلالة على مسح آثار الداء، وهو يصف الليل باعتكار، ويضيف الوسواس للحلي، ويصف النَّفَس بالنرجس في قوله:

فلاقتك بالنفَس النرجسي ... ولاقتك بالملبس المسجدي وكل ذلك دليل الدقة في اختيار الألفاظ.

وقوافي الشاعر محكمة في أبياتها، لا تشعر فيها بقلق، ولا اضطراب؛ بل هي مستقرة مطمئنة تشعرك بقدرة الشاعر على تذليلها، إذا استثنينا كلمة كبد في قوله:

أغائبة عني وحاضرة معي ... لئن غبت عن عيني فإنك في كبدي

فالمحبوب مكانه القلب لا الكبد.

وبعد فإن على شعر المعتمد بن عباد مسحة من الحسن تأسر النفس، وتملك الحس، لصدق العاطفة التي انبعث عنها، وجمال الأسلوب والذي صيغ فيه.

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول