الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 832/الانحراف الجنسي

مجلة الرسالة/العدد 832/الانحراف الجنسي

بتاريخ: 13 - 06 - 1949


أسبابه وعلاجه

للأستاذ عبد العزيز جادو

كان الدكتور سيجموند فرويد، مبتكر التحليل النفسي، أول من وصف الأطفال بأنهم (ذوو انحراف متعدد الأشكال) ولقد أثار بذلك عاصفة من السخط واتهم من جميع الأوساط بقذف الطفولة البريئة وطعنها.

ماذا تعني هذه العبارة؟

إنها تعني باللغة السهلة أن كل نوع من أنواع الانحراف الجنسي ينغمس فيه المراهقون ونتغاضى عنه أو نتساهل فيه، يمكن أن يُبحث في حالات النشاط العادي عند الأطفال.

وإنا إذا قلبنا هذا الأمر على وجوهه المختلفة، فلا يكون أسوأ مما كان، فليس الأطفال هم الذين يتصرفون كالرجال، ولكن الرجال هم الذين يتصرفون كالأطفال. ويقصد بهذا أيضاً أن كل طفل به انحراف جنسي يكون في الغالب الأعم ناقص النمو من جهة غريزته الجنسية. ويرقد ارتقاؤه ونضجه وراء تلك الغريزة الجنسية عند المراهق العادي.

وليس الطفل هو المنحرف الضال، وإنما يعتبر المنحرف طفلاً وكلمة (منحرف) معناها التحول عن المجرى الطبيعي. والمنحرف الجنسي هو الذي لا يستعمل دافعه الجنسي بالطريقة السوية.

وكثير من الرجال لا يستطيعون جعل حياتهم الغرامية متناسقة بقدر الإمكان، لاعتقادهم أن كل شيء يميل عن الطريق القويم إنما هو انحراف. وهناك بالفعل مجال في لعب الحب الأوَّلى لكل نوع من أنواع الملاطفة والتودد.

ويمكن استعمال أي صورة من صور الاتصال التي يحتمل أن تكون مقبولة ومنبهة لكل من الطرفين على شرط أن تؤدي إلى الاختلاط الجنسي ولا تحل محله

والملاعبة للغرض الجنسي يجب أن تظل بمثابة (المشهيات) لا أن تكون الوليمة ذاتها.

وفي الانحراف الجنسي أصبحت الملاعبة غاية في حد ذاتها، وليس الامتزاج أو الصلة بشخص من الجنس الآخر هي الغاية المشتهاة.

فلكي ندرك كيف يحدث هذا، علينا أن نرجع إلى الطفل فليس هناك من يقرر بأن الطفل، بما له من أعضاء ناقصة النمو وبما يحتاجه من إفراز غددي، يكون في حالة جنسية كحالة المراهق أو البالغ؛ ولكنه قادر من أول أمره على جلب المتعة عن طريق الاحساسات الجسدية، وهذه هي خلاصة اللذة الجنسية ولو أنها لا تهم الغرض الجنسي في شيء.

وهكذا نرى أن المصَّ ليس وسيلة فحسب لتخفيف الجوع وتهوين أمره، ولكنه يمسي لذة في حد ذاته. وهذا ما يلمسه أي فرد من مشاهدته طفلا يلعب بدميته. ويقتنع معظم الناس بأن التدخين، سواء بالغليون أو بالسيجار يدين بشيء من جاذبيته إلى تخلف اللذة أو بقائها في الشفة، وتكون هذه اللذة في الغالب كلذة التقبيل سواء بسواء.

وهناك في الواقع عدة أجزاء في الجسم تلتقي فيها المحتويات الداخلية أي الغشاء المخاطي بالجلد الخارجي. وجميع هذه المناطق ذات حساسية وشعور باللذة. والفم - كما ذكرنا - أحد تلك المناطق، كما أن الثغرة التي في الطرف المقابل للقناة الهضمية منطقة هي الأخرى.

وموضع الأعضاء التناسلية في كل من الذكر والأنثى متشابه. وكلما اطرد التحسن وتدرج النضج وصلت تلك الأعضاء إلى درجة أعلى من المناطق الأخرى. ولو أن هذه المناطق لن تفقد حساسيتها جميعاً ويمكن أن تقوم بدورها في الحياة الجنسية.

ولقد امتدت هذه الحساسية إلى أن بلغت بشكل واضح الأرداف. أما كيف أحاطت هذه الحساسية بتلك المنطقة حتى أن اللذة والألم صارا أكثر تمييزاً فيها، فهي مسألة لم يصل العلم إلى حلها. ولكن لا ريب في أن وظيفة الأم المحبوبة عند اعتنائها بنظافة رضيعها شيء له أهميته. كما أن ملاطفات المرأة الفاتنة غير المتزوجة عند إعجابها بالطفل لها أهميتها أيضاً. ومما لا شك فيه أن مثل هذه العادات تقوي اللذة الأصلية المكتسبة وتعززها.

وقليل من الناس في حاجة إلى أن يعرفوا أن هذه الطاقة من اللذة والألم كائنة. وفي النزوات التي تصحب العادة السرية يحتل الجلد المكانة الأولى. وليس بعجيب أن تأخذ تلك النزوة هذه الهيئة، إذ أن تخيل تجربة ماضية أسهل من التوسل إلى وصف شيء ليس للمرء معرفة شخصية به؛ وهذا هو الوضع العادي للاستمناء الصبياني بالنسبة إلى الامتزاج الجنسي.

ولا يكون الاستمناء انحرافاً إلا حينما ينم في حياة المراهق بإيثاره إياه على حياة جنسية كاملة ممكنة. وإنه لنشاط عادي للصبي المنقب تنقيباً اختيارياً ليس فيه أي ضرر إلا عندما يأتي القلق والخوف والجزع ليتجمع ويتركز حوله.

وكثير من المراهقين الذين يعوقهم الطبع أو الظروف عن الزواج ولا يمكنهم التمتع بالعملية الجنسية المحرمة، ربما يكون هذا هو الحل السوي للحافز الجنسي عندهم. ولكن يجب أن نذكر ونضع نصب أعيننا الحقيقة التي تتركز في الفعالية الذاتية فهي تشبع الشعور الذاتي إلى حد يصبح فيه معتلاً.

واقتران الجلد باللذة الجنسية هو السبيل الذي يمكن أن يوصِّل إلى القمم الوهمية، ولذا فقد أصبح عبادة منظمة ذات آداب خاصة وحياة اجتماعية سفلية.

وله، كما أسلفنا القول، أسس طبيعية. ولا ينبغي أن يلتبس علينا الأمر بينه وبين السادية؛ فالسادية حالة لا يمكن أن تأتي فيها الهزة أو الرعشة الجنسية إلا إذا كانت مصحوبة بالتعذيب والتشويه والبتر، وتنتهي في أكثر الحالات بموت الضحية. ويكفي بقاؤها لتذكيرنا بأنه لا وجود لنوع من الرعشات لا يمكن أن يكون ملتوياً في صالح الغريزة الجنسية.

وبينما نرى احد الأشخاص في حاجة إلى التحكم في الباعث على رغبته أو مشاغبته والاستبداد به أو تعذيبه، نرى آخر يختبر اللذة الجنسية الكاملة ويتذوقها حين يكون مغلوباً أو عندما يُهان ويؤذي ويحتقر. وهذا الأخير هو الذي يطلق عليه: (مازوكي)

ومتوسط الرجال والنساء يمكنهم أن يكشفوا في أنفسهم جراثيم الاتجاهين ولا حاجة بهم إلى القلق والانزعاج من هذه المعاينة. والملاعبة يمكن أن تضيف صنفاً منسوجاً في مصلحة الحب بدون خطر من أن يغدو انحرافاً.

والفيتيشية انحراف جنسي آخر يأخذ صوراً غريبة. ومعناه في الأصل أن الباعث على التهيج الجنسي ليس شخصاً بعينه أو أشخاصاً معينين ولكنه بعض شيء. وقد يكون هذا الشيء حذاء أو جورباً أو معطفاً من الفرو أو أي شيء ذا وبر أو خصلة من الشعر أو أي أداة من أدوات الملبس. كما أن أصل الفينيشية في جميع الانحرافات قد يرجع إلى بعض تجارب صبيانية

يقول الشاعر (ما الحب إلا للحبيب الأول) وهي حقيقة سيكولوجية؛ ذلك أن سلوك الطفل في أزمة من الأزمات الانفعالية يمكنه أن يصنع نموذجاً من السلوك حينما تتلاقى فيما بعد بعض الحالات بميل انفعالي يماثلها.

وطبيعي أنه كان ينبغي أن يغير اللبيدو، وهو تيار الحب حينما كان قصده كلما ترعرع الفرد. فهو في البداية يتركز بكليته في الذات، ولكن وظائف الدم تبعث على تحويل التيار إلى نفسها فتغدو محبة لشخص آخر.

وهذا التعلق الأول بالأم جنسي بأوسع معنى الكلمة - ليستبدل به فيما بعد حباً يقوم على تبادل المنفعة والاستحسان.

وإن لم يحوَّل هذا التعلق الأساسي كما يجب، يحار الفرد في ارتقائه الجنسي، ولا تكون شهوته طليقة كما يجب أن تكون لكي تنفذ أو تمر من الأم إلى رفيق الدراسة أو صديق من الجنس ذاته إلى أن تجد أخيراً حبيباً ورفيقاً في شخص ما من الجنس الآخر. وإنه لو تحرر الدافع الجنسي من الأم، لكان عرضة لمقابلة الكبت في اي مرحلة من مراحل النضج والارتقاء؛ ومن ثم يرتد راجعاً إلى الوراء، كمجرى من الماء وضعت أمامه السدود، وينتشر في مساحة أوسع. ويمكن إذن أن يكون الفرد مراهقاً في كل شيء ما عدا الحافز الجنسي الذي يظل في المستوى الصبياني مضافاً إلى ذلك الشذوذ. وقد يكون نوع الكبت موضحاً بواسطة حالة ثابتة.

يضبط صبي في السادسة من عمره وهو يقارن هيكله بهيكل أخته التي تصغره، وبدلاً من أن يتغاضى والداه عن هذا الأمر باعتباره دافعاً طبيعياً للاستطلاع ويوجهانه التوجيه الصحيح بتعليمه الحقائق الواضحة، نراهما يردَّانه عنه بغضب وسخط.

إذن فالارتقاء الجنسي في الولد قُطع دابره من أول الأمر، وبعد ذلك حين يأخذ النشاط الغددي في تنبيه الغريزة والتأثير فيها لازدياد النمو يشعر نفسه (بعدم الأهمية) فالحادث الأصلي يضاف إليه الشعور بالخطيئة والندم وتأنيب الضمير، كل هذا لابد أن ينسي وإلا سيجعله قليل الاهتمام بالجنس الآخر، وبالتالي تقمع شهوته.

وقد ينجذب وراء تعلقه بأمه واتصاله بها. ولكن بما أنه من غير المعقول أن تظهر في نزواته، فإنه يجد بديلا من ذلك في بعض أشياء في لا شعوره يقرنها بأمه. وربما تكون رائحة معطفها أو لمسه إياه حين يكون على انفراد هو الذي يؤنس وحدته. وربما يكون الحذاء الذي تركته خارج باب حجرة نومها هو الذي يؤكد له أنها في الداخل وأنها على استعداد للترحيب به في سريرها.

وكما أن أي شيء يتناسب غالباً مع ما يشاركه في العاطفة، كذلك تأخذ الحياة الجنسية لهذا الشاب صورة العادة السرية تحت المؤثرات الفيتيشية، وربما لا يرجع إلى عهد بعيد، ولكنه يرجع إلى أواخر طفولته عندما شعر في نفسه بمؤثر سارحين قاده حب الاستطلاع إلى النظر من خلال ثقب مفتاح (الحمام) وقت أن كانت أخته الكبيرة تغتسل.

واحتمال آخر هو أنه قد يصير محباً لإظهار جسده لغيره غير قادر على اللذة الجنسية السوية، ولكن يتوق إلى عرض نفسه على بنات المدرسة - وأخيراً ينقاد لبعض نماذج من السلوك المخزون في الماضي.

هذه كلها أمثلة للانحراف الناتج عن النكوص ولكننا لم نشر إلى التفسير بعد.

ومتوسط البنين والبنات الذين تتراوح أسنانهم بين الحادية عشرة والخامسة عشرة على جهة التقريب يكونون في مرحلة حب الجنس للجنس حيث يتركز اللبيدو على واحد من الجنس ذاته. وليس معناه هذا أن كل صغير ينغمس في اللذة الجنسية، ولكن معناه أن الاهتمام المتيقظ وأوهام أحلام اليقظة تتركز حول بعض زملاء اللعب أو المدرسين.

وهذه الحالة إن كانت في صورة تبلغ من الصحة والعافية منتهاها يكون صاحبها فيه (شبه بطل) أو يكون (ذا بطش شديد). وهذه المرحلة تندمج بطبيعة الحال في المرحلة الثانية والأخيرة من ميل الجنس إلى الجنس الآخر وضبط اللبيدو وأوصده عن تقدمه كما يحتمل أن يحدث من خوف في الحياة الجنسية ناتج من مشاهدته مشاجرات عائلية، أو عن أي سبب من مئات الأسباب المحتملة للأغراض اللاشعورية، ربما يوقفه (أي اللبيدو) عند مرحلة حب الجنس للجنس. وهنا أيضاً نجد اختلافات وفوارق في الدرجة والطبع.

ويجد بعض محبي الجنس ذاته أن تصور الامتزاج بواحد من الجنس الآخر يبعث حتماً على النفور والاشمئزاز. وآخرون يغالبون شعورهم بكل جهد ليتزوجوا وينسلوا أطفالا.

وبعض الذكور من محبي نفس الجنس تبدو على هيأتهم الذكورة كاملة، ومزاولة الانحراف الجنسي بين هؤلاء كان يشجع عليها قدماء اليونان إذ كانوا يعتقدون أن هذه الارتباطات إنما جعلت للتدريب الصحيح وللجنود الطيبين. ولقد قيل إن حب الجنس للجنس يقابل اليوم بمثل هذا التشجيع في بلدان أخرى ولأسباب مماثلة.

وفي الطرف الآخر من السلم يوجد نموذج (اليانسيه) المخنث، والمرأة المسترجلة. ويوجد غالباً في مثل هذه الحالات خطأ ما في الارتقاء الغددي والجسدي. والتقارير الطبية الأخيرة في أثر تأدية هرمونات الجنس، فتحت باب الأمل لمثل أولئك الناس؛ لكي يكونوا عاديين وفي حالة سوية.

ومحبو الجنس ذاته، من جهة أخرى ليس لديهم الرغبة ليعالجوا ويشفوا وسيجادلون بعد زمن في تحبيذ طريقهم في الحياة.

ويجب أن يكون واضحاً للقارئ الآن أن الانحراف الجنسي عصاب جوهري ناشئ عن أسباب مماثلة، وأنه سهل الانقياد لمعالجة مماثلة شأنه شأن العصابات الأخرى.

والأسباب في كل الحالات مخبوءة في اللاشعور. وفي قدرة التحليل النفسي أن يحرر اللبيدو ويجعله يرقى إلى طرق سوية. ولكن هذا ليس من الميسور عمله ما دام الانحراف الجنسي يتنحى عن المسئوليات ويتملص منها. والعلاج لابد أن تصحبه الرغبة في مواجهة حياة نقية تقية. وليس هناك بالطبع من يرغب رغبة أكيدة في الشفاء ويترك اليأس يستولي عليه.

عبد العزيز جادو