مجلة الرسالة/العدد 83/حول 19 يناير
→ الغزو الاقتصادي الياباني لاسواق العالم واثره في | مجلة الرسالة - العدد 83 حول 19 يناير [[مؤلف:|]] |
النزعة العملية في الأدبين العربي والانجليزي ← |
بتاريخ: 04 - 02 - 1935 |
للأستاذ محمد محمود جلال
اليوم تبحر من السويس إحدى الجواري المنشئات في البحر علماً على تقدم وتسخير القوى، تقل الرهط الكريم من رجال الزراعة والاقتصاد غلى بور سودان. وكنت اعد لتلك الرحلة عدتي، حتى حالت فجأة ظروف قاهرة دون ما تعلقت به الأمنية. فاليوم ندعو الله ان يقرن التوفيق بخطاهم، ونسجل لهم هذه اليد سابقين الى الاعتراف سبقهم الى خير العمل
ولعل هذه الرحلة الموفقة باذن الله اولى الخطى، ولعلها بداية حزم ترقبه البلاد من قديم، فتلها خطوات في مختلف ميادين السعي المجدي؛ ولعلها بادرة التنبه، ولعل الله جل شانه حين قدرها شهر يناير موعداً قد اراد ان يسدل على التقصير من ستره، وان يكون في المستقبل ما ينفض عن الماضي الغبار
فلقد مر (19 يناير) وكأن لم يلحظه احد، فلم نر لذكراه الا سطوراً نشرت بالأهرام من هيئة واحدة، هي هيئة الحزب الوطني؛ حتى لكأنه يوم يمر كسواه، وكأنه ليس ذلك اليوم الذي امسى على غصب صارخ، وتفريق مروع، وعبث من القوة بالحق عبثاً لم يرو التاريخ له مثيلاً
وبين (بور سودان) على البحر الأحمر و (بور سعيد) على البحر الأبيض صحيفة من المجد كاد يطويها الزمان لولا كفالة التاريخ، وكوامن من الذكريات والعبر من حق الجيل الجديد علينا أن نبسها وننشرها، ومن واجب الأدب المصري أن يبذل لها أثمن بضاعته وأغلى جهوده. فلم يزل الأديب منذ القدم قواماً على الواجب والفضيلة، يتحسس مواضيعها، ويخرجها في خير الثياب واصدقها غذاء للأمم في حياتها، وإيقاظاً لهمم فيما تحاول من تصحيح وتهذيب
واذا كان الشطر الأول من الاسمين أعجمياً دخيلاً، ففي الشق الثاني من كليهما شفاء ورحمة للمؤمنين
فالمرحوم (سعيد باشا) عزيز مصر أصبح في التاريخ - وبعد أن خلقت سياسة الانجليز (حادثة وادي حلفا وتفتيش الجنود) فاضطرت الخديو عباس الثاني إلى العودة الى القاهرة - آخر من زار (الوجه السوداني) من ملوك مص وقد زخر التاريخ الحديث بفيض من خير الأنباء غن زيارته، فأينما حل ان الاستقبال حافلاً، صادراً من القلوب لا اثر فيه لرياء ولا مصانعة، وحسبك من قرة عين لمليك أن يرى أبنية شاهقة وطرقاً ممهدة وادارة مستقرة حازمة، تعاونت على تأسيسها وتمهيدها وإقرارها أباد من اقاليم الوجه البحري، وأخرى من الوجه السوداني، وثالثة من الوجه القبلي
ولعله رحمه الله أراد أن يختبر ذلك البناء المعنوي المدعم، ويشهد العالمين - وفي مقدمتهم قناصل الدول - حين أشاع عزمه على إخلاء السودان من بني الوجهين البحري والقبلي، فهب أبناء الوجه السوداني في ألم وحيرة يرجون ويلحون في أن يعدل عن فكرة تنافي طبيعة الوجود. فآمن بأساس ملكه وحصل على ما أراد من التجربة
وإني لأذكر في ألم ومرارة كيف أصبح مجلس النواب بالقاهرة خلواً من أبناء السودان وقد كانوا زينة المجالس الأولى؛ فقد كان الوجه السوداني ممثلاً بعدد يوازي نواب الوجه القبلي
وفي عام 1911 أبان المرحوم (أبانا باشا) رئيس الجمعية الجغرافية في بحث له بالمؤتمر المصر أن مقارنة العظام التي عثر عليها في المقابر تثبت أن الذين يقطنون وادي النيل من عنصر واحد
ثم انظر بعد ذل تلق الوحدة في اللغة وتلقها في الدين وتجدها في العرف كما تجدها في العادات
ولكنك حين نبحث في القاهرة وهي قلب البلاد تأخذ قلبك حسرة لاذعة. فلست تجد فيها بين مظاهرها المختلفة مظهراً واحداً يدل على تل الوحدة الطبيعية ويشير إلى هذه الروابط الوثيقة
بين ظهرانينا نخبة من الشعراء، سجلوا كثيراً من الحوادث ذات البال، حتى امتد فضلهم إلى شؤون تبعد عن مصر، وقد خلت دواوينهم من ذكر السودان وشؤونه، بل لم تنوه قصيدة بتلك التجربة التي قام بها المرحوم سعيد باشا، وفي عرفي انها وحيدة في التاريخ الحديث
أعرف أن المنظر والمعاشرة أكثر العوامل إيحاء. ولكن التاريخ ما يزال للكثير من الكتاب والشعراء مصدر وحي من أغزر المصادر بتناول الفريقان من كأسه دهاقاً من روعة وفيضاً من غذاء
بل إن الروعة المعنوية لحادث كبير او تصرف حصيف، او خلق كريم، لتكون في كثير من الاحيان اوفر مادة واكرم اثارة من مظهر مادي
وإذا كانت الجزيرة ببساتينها وقصورها، والروضة بحافل تاريخها، والأزهر الشريف بماضيه، تأخذ باللب وتلهم القائل، ففي جزيرة السودان، وفي غاباته، وفي منابع النيل السعيد الكريم، وفي مجاري مياهه الأولى وروافده سمة للفكر والقول، وأي سعة؟
لقيت في إحدى سفراتي ضابطاً شهماً اقام بالسودان، اخذ يحدثني عن رحلات قام بها في ربوعه، والضابط اقرب الناس إلى اختصار القول وأبعدهم عن زخرفه؛ ومع ما بيني وبين ما يصف من شقة بعيدة، فقد ظلت طوال الرفقة أخيذ القلب بالصور الرائعة يعرضها واحدة تلو اخر حتى دونت منها كثيراً، وحتى تمنيت لو كنت شاعراً فأصوغها نظمياً أقوم به ببعض الواجب نحو بلادي
وكم يكون من خالص التوفيق أن تدعو (الرسالة) إلى رحلة فريق من الأدباء في العام القادم، يصلون ما انقطع في عالم الأدب
ثم انظر بعد لك الى المسارح!! فلن تجد رواية حدثت وقائعها بالسودان. بل إنك واجدها حافلة بالمناظر الأوربية، وبكثير من مناظر القاهرة وبعض القرى، دون أن يحظى بصرك بمنظر واحد يمثل لك الخرطوم قائمة شاهقة على الأيدي الثلاث، ولا منابع النيل إليك حقيقة الأواصر في الوحدة المباركة، ولا بمثال الشجاعة وكرم الخلق الذي تسير على نوره الركبان
إنا حين نقول في أدبنا القومي عن اهل الوجه البحري، إنهم أولو ذوق سليم، وعن الوجه القبلي إنه موطن الكرامة والكرم وجب أن نقول عن أهل السودان إنهم أهل الوفاء والشجاعة
كان الأمير (علي بن دينار) ممتعاً بكثير من مظاهر الحكم، وليس أغنى من الانجليز ولا أسخى منهم يداً وقت الحرب، وهم المسيطرون حواليه، ولكن ذلك لم يكن مغرياً له، فهو لم يفتأ يذكر أنهم نكبة وادي النيل وهو منه، فما ثار إلا عليهم وفاءً لحق النيل وواديه، وظناً منه بسنوح الفرصة وفي السودان علماء، وذكاء أهله غير منكور، ولا نعرف في العاصمة عنهم إلا قليلاً، حين تذكر الصحف قدوم بعضهم للاستشفاء أو لتبديل الهواء، ومن واجبنا أن نبحث عن مؤلفاتهم وأن نتناولها بتعليق يجعل من الأمتين في العالم الأدبي كتاباً واحداً؛ ولاشك أن في السودان شعراء، فما زلنا نحس باقوال (سر الختم) و (علي عبد اللطيف) في محاكمتهم سنة 24، روح الشاعرية ممزوجة بالوفاء والشهامة. ومن واجب صحفنا وجماعاتنا الأدبية أن تبحث بما أوتيت من وسائل الصحافة عن تلك الكنوز
ليقم الأدب وجماعاته وصحفه بهذا الواجب، وليس العيب أن يكشف الزمان عن نقص ولا أن نعترف بالنقص، ولكن العيب أن نقعد عن تلافيه
ولنقل من اليوم: الوجه البحري، والوجه القبلي، والوجه السوداني. وليس عند اله جهد ضائع، ولكن في الدنيا كسل مضيع
محمد محمود جلال