مجلة الرسالة/العدد 83/الغزو الاقتصادي الياباني لاسواق العالم واثره في
→ في الأدب المصري | مجلة الرسالة - العدد 83 الغزو الاقتصادي الياباني لاسواق العالم واثره في [[مؤلف:|]] |
حول 19 يناير ← |
بتاريخ: 04 - 02 - 1935 |
الاقتصاد المصري
للأستاذ محمد عبد الله عنان
تتمه
استطاع الغزو الاقتصادي الياباني أن يحدث أثره في معظم الأسواق القديمة بسرعة مدهشة. وقد قال مسيو هيرونا وزير الخارجية اليابانية في إحدى تصريحاته الأخيرة إن هذه النهضة الصناعية والتجارية التي تضطلع بها اليابان إنما هي ثمرة العمل والمثابرة، ولا تعتمد على وسائل غير شريفة، وليس وراءها أية نزعة عدائية. وقد بينا في مقالنا السابق ظرفاً من الظروف والأحوال الاقتصادية المشجعة التي تعمل فيها الصناعة اليابانية، ولكن اليابان لا تستطيع بمثل هذه التأكيدات أن تهدئ ما يبثه غزوها الاقتصادي في معظم الدول الصناعية والتجارية من عوامل الخوف على مستقبلها الاقتصادي. ويجب أن نذكر أن النفوذ الاقتصادي إحدى الوسائل القوية التي يعتمد عليها الاستعمار الغربي في توطيد نفوذه وسلطانه في أفريقية وآسيا، وأنه يكون غالياً طليعة الفتح السياسي وذريعته، فاذا اضطربت دعائم هذا النفوذ الاقتصادي، اضطربت دعائم السيادة الاستعمارية التي تقوم عليه؛ والتحرير الاقتصادي دعامة قويه للعمل في سبيل التحرير السياسي. فالدول الاستعمارية التي يزعجها الغزو الياباني لا تقف في مقاومته عند تقدير الاحتمالات الاقتصادية وحدها، ولكنها تنظر الى آثار من وجهة أشد خطراً وأبعد مدى وهي وجهة مستقبلها الاستعماري
ولا ريب أن بريطانيا العظمى في مقدمة هذه الدول، بل هي أولها واسبقها الى التأثر بهذه المنافسة الخطرة التي تهدد نفوذها الاقتصادي والاستعماري في معظم أرجاء امبراطوريتها الشاسعة، وتخلق لها مشكلة امبراطورية في منتهى الخطورة. ذلك أن بريطانية العظمى تسمد كثيراً من أسباب غناها وقوته وعظمتها من نفوذها الاقتصادي وتفوقها الصناعي والتجاري؛ وهذا النفوذ الاقتصادي اقوى دعامة في صرح سلطانها الاستعماري؛ فاذا تقوضت دعائم هذا النفوذ اضطرب بناء الامبراطورية كله. وبريطانيا تشعر اليوم بأ الغزو الاقتصادي الياباني بهذه القوة المدهشة يعرضها لمثل هذا المأزق الدقيق؛ وتشعر باقي الدول الاستعمارية مثل فرنسا وهولنده وإيطاليا، بأنها تواجه نفس الخطر؛ وترى الولايات المتحدة أسواقها القديمة في أمريكا الجنوبية تفلت من يدها لتذهب الى قبضة منافستها الأسيوية؛ وتعمل الدول الغربية جميعاً لرد هذا الغزو كل بواسائها الخاصة، وقد نراها غير بعيد تحاول رده بوسائل مشتركة إذا عجزت من مقاومته منفردة كما حاولت أيام غزو اليابان لمنشوريا وتقدم الاستعمار الياباني في الصين
وقد يكون الغزو الاقتصادي الياباني من هذه الناحية أعنى من ناحية العمل على تقويض نفوذ الدول الغربية الاقتصادي في أفريقيا وآسي وإضعاف سلطانها الاستعماري بذلك، خليقاً بعطف الأمم الشرقية وتأييدها، خصوصاً وأنه لا يبيت وراءه مطامع استعمارية، - واليابان تقف بأطماعها الاستعمارية عند الصين وسيادة الباسفيك -، وهو خليق بعطف الأمم المغلوبة بقدر ما يحدث للأمم الغربية الغالبة من صعاب ومتعب تفت في بنائها الاقتصادي وسيادتها الاستعمارية؛ ولكن العطف على جهود اليابان من هذه الناحية العامة، يجب ألا يحول بيننا وبين تقدير العوامل والآثار الاقتصادية الضارة التي تترتب عليها من الوجهة المحلية؛ وما يعنينا قبل كل شيء هو بحث هذه الآثار في اقتصادنا المصري، فقد أخذت طلائع الغزو الياباني تحدث أثرها في السوق المصرية بسرعة، وتثير من العوامل والاحتمالات ما قد يعرض مستقبلنا الاقتصادي الى أخطر النتائج إذا لم تتخذ الوسائل اللازمة لتوطيده وحمايته
ذلك ان محصول مصر الرئيسي ونعنى القطن يرتبط أشد الارتباط في انتاجه وفي تصريفه بصناعة القطن البريطانية؛ هذا ومن جهة أخرى فان في مصر الآن صناعات قطنية هامة يجب حمايتها وتشجيعها على التوسع والنمو؛ والصناعة القطنية اليابانية تتقدم بسرعة ويحدث هذا التقدم أثر السيئ في الصناعات القطنية البريطانية التي تستهلك أعظم كمية من القطن المصري؛ ومن الغريب أن اليابان مع كونها لا تنتج سوى قليل من القطن الرديء، استطاعت أن تتقدم في الصناعة القطنية حتى أصبحت في انتاجها ثالثة دول العالم بعد الولايات المتحدة وانكلترا؛ ويبلغ ما تصدره اليابان من البضائع القطنية نحو 20 % من مجموع صادراتها، واليابان تستورد كميات عظيمة من القطن الرديء من الهند والولايات المتحدة ولا تستورد سوى كمية ضئيلة من القطن المصري. وقد بلغت قيمة ما استوردته في سنة 1930 من القطن فقط 362 مليون ين (نحو 24 مليون جنيه)
ولكي يستطيع القارئ أن يقدر مدى تقدم التجارة اليابانية في مصر نضع أمامه الأرقام الآتية عن قيمها في الأعوام الأربعة الأخيرة:
سنة 1930193119321933
ج. م 1. 732 , 077 1 , 535 , 282 2. 152 , 140 2. 873. 131
ففي أقل من عامين زادت الصادرات اليابانية إلى مصر نحو 40 %، وأصبحت التجارة اليابانية في مصر سنة 1933 تعدل نحو 12 % من مجموع تجارة مصر الخارجية (وقد بلغ في هذا العام 26 , 766 , 991)
وتمثل البضائع القطنية والحريرية أكبر نسبة في الصادرات اليابانية إلى مصر؛ وقد نمت نسبة الصادرات القطنية بسرعة مدهشة في الأعوام الثلاثة الأخيرة كما يتضح من البيان الآتي:
مقدار ما ورد إلى مصر من البضائع القطنية والحريرية اليابانية مقدراً بالجنيه
سنة
1931
1932
1933
بضائع قطنية مختلفة
761 , 234 ج. م
1. 104. 673
1. 834. 877
بضائع حريرية مختلفة
. . . . . . . . . . .
626. 874
501. 920 ومن ذلك يتضح أن الصادرات القطنية اليابانية إلى مصر بلغت نحو ثلاثة أمثالها في ظرف عامين؛ ومن المحقق أن هذه النسبة قد ارتفعت في العام الحالي (الذي لم ينته بعد) وسوف ترتفع باطراد إذا استمرت الامور على حالها.
وقد كانت منتوجات لانكشير (انكلترا) القطنية حتى أعوام قلائل تحتل المكان الاول في مصر، كما ان لانكشير اكبر عميل لمصر في شراء قطنها؛ ولكن المنافسة اليابانية كانت شديدة الوطأة على الصناعة القطنية البريطانية في مصر والهند وفي معظم الاسواق الامبراطورية؛ وقد اصابت هذه المنافسة تجارة لانكشير في الهند بخسائر فادحة؛ ورفعت حكومة الهند الرسوم الجمركية على البضائع القطنية اليابانية مراراً حتى بلغت 75 %، ومع ذلك فان ذلك لم يحقق للتجارة البريطانية ما كانت تتمتع به في الهند من التفوق؛ واضطرت بريطانيا أن تجري في ذلك السبيل مع اليابان مفاوضات خاصة وان تعقد معها اتفاقاً تجارياً خاصاً تحصل به على بعض المزايا خاصاً تحصل به على بعض المزايا نظير تحديد المنسوجات القطنية اليابانية الصادرة الى الهند باربعمائة مليون ياردة تحصل عنها رسوم جمركية قدرها 50 % من قيمتها. أما في مصر فما زالت تجارة لانكشير في انحطاط مستمر، وقد هبطت تباعاً في الأعوام الثلاثة الاخيرة بسرعة يوضحها البيان الآتي:
مقدار ما تستورده مصر من المنسوجات والبضائع القطنية من انكلترا
سنة
1931
1932
1933
ج. م
1. 742. 000
1. 56. 466
1. 232. 811
ويتضح من ذلك ان ما استوردته مصر سنة 1933 من البضائع اليابانية يزيد عما استوردته منها من انكلترا بنحو ستمائة ألف جنيه؛ وأن اليابان أصبحت تحتل المكان الأول في الصادرات القطنية إلى مصر بعد أن كانت انكلترا تحتله باستمرار
ومن ذلك نفهم مدى جزع لانكشير من تدهور مركزها في السوق المصري؛ وهو جزع يبدو فيم تعلق به الصحف الانكليزية على هذا الموقف، وفيما ينذر به أقطاب الصناعة البريطانية من وقوع رد الفعل على مص ذاتها حيث تضطر المصانع البريطانية أن تقلل من شراء القطن المصري إذا استمرت الحال على ذلك. وهذه هي أخطر نقطة في الموضوع بالنسبة لمصر. ذلك أن ما تستورده مصر من مصنوعات انكلترا القطنية لا يتناسب مع ما تشتريه انكلترا من القطن المصري؛ وإليك مقدار ما اشترته انكلترا من قطننا في الأعوام الاخيرة:
193119321933
ما قيمته6. 469. 204 5. 527. 393 8. 767. 280ج. م
ويقابل ذلك ما تشتريه اليابان وهو:
ما قيمته1. 213. 162 1. 078. 681 1. 168. 528 ج. م
فانكلترا تشتري من قطننا في العام نحو 40 % منه بينما لا تشتري اليابان اكثر من 6 او 7 %، ومع ذل فان اليابان تصدر إلى مصر من البضائع القطنية أكثر مما تصدره انكلترا
والنتيجة المحتومة لذلك، إذا استمر هذا الوضع الشاذ، هي ان لانكشير ستضطر غلى أن تقلل شيئاً فشيئاً من استهلاكها للقطن المصري مادامت لا تجد اسواقاً لتصريف منتوجاته؛ وعندئذ يقع الضرر المحقق على المنتج المصري
هذا من جهة، ومن جهة اخرى فان في مصر صناعة قطنية ناشئة تضطلع بها شركة مصر، وتوظف فيها ملايين عديدة من الاموال المصرية؛ وقد قطعت شركة مصر لغزل القطن ونسجه خطوات كبيرة في أعوامها القلائل واصبحت اعظم منشأة صناعية في مصر؛ وهي تستهلك كل عام مقداراً كبيراً من القطن المصري وتمد السوق المحلية بكميات عظيمة من المنتوجات القطنية المتقنة الصنع المعتدلة الثمن مع ذلك. وكان ما يستهلكه سنة 1931 من القطن المصري 22. 308 قناطير فزاد في العام الثاني إلى 50. 775 قنطاراً وفي الذي يليه الى 97. 143 قنطاراً، ثم زاد في العام الماضي (1934) الى 152 ألف قنطار. وزادت منتوجاتها من الغزل والنسيج تبعاً لذلك زيادة كبيرة حتى وصلت (سنة 1934) الى 13 مليون رطل من الغزل، والى 35 مليون ياردة من النسيج.
وهي تسير بسرعة في سبيل التقدم وتتخذ الأهبة لمضاعفة أعمالها ومشاريعها، بحيث يتضاعف ما تستهلكه من القطن المصري عاماً بعد عام ويتضاعف ما تنتجه من الغزل والنسيج
ولكن هذا الصرح الاقتصادي العظيم يجد نفسه اليوم أمام غزو البضائع القطنية اليابانية الرخيصة للسوق المصري، وهو غزو يشتد أثره يوماً بعد يوم، وتجد هذه البضائع الرخيصة في السوق إقبالاً سريعاً تشجعه وتذكيه الازمة الاقتصادية؛ وقد بينا كيف تعمل الصناعة اليابانية في ظروف مدهشة تمكنها من هذا الغزو، والصناعة القطنية اليابانية تستعمل القطن الرديء الرخيص، الهندي او الامريكي، في حين أن شركة الغزل المصرية لا تستعمل سوى القطن المصري، لكي تعاون بذلك على استهلاكه، وتحقق الاغراض الاقتصادية القومية التي قامت من اجلها، فاذا استمر هذا الغزو الياباني دون اتخاذ ما يجب لرده، واستمر إقبال المصريين على البضائع القطنية الرخيص، عرضت الصناعة القطنية المصرية لمصاعب تحد من نموها وتقدمها، وعرضت الملايين المصرية التي توظف فيها، والايدي المصرية العاملة التي تقوم بها، الى عواقب لا تحمد ولا يرضاها اي مصري
وما نريد ان ننوه به بنوع خاص، هو أن الأمر هنا لا يتعلق بالناحية القومية والواجب القومي في تشجيع الصناعات القومية، ولكنه يتعلق باعتبارات اقتصادية خطيرة. ذلك أن هذه المنسوجات الرخيصة تستهلك لرداءتها بسرعة، في حين أن المنسوجات الجيدة التي تنتجها الصناعة المصرية من القطن المصري تمتاز بالمتانة وبطول استعمالها، فهي بذلك أجدى وأفر على المستهلك الذي يقدر مصلحته الحقيقية. هذا ومن جهة أخرى فان الصناعة المحلية تستهلك قطناً مصرياً، وتعاون المنتج المصري بذلك على تصريف اقطانه، فاذا لم يعاونها المصريون من جهة أخرى باستهلاك منتوجاتها، فانها تعجز عن المضي في تحقيق هذه المعاونة الاقتصادية الجليلة.
ولهذا كله يجب على مصر أن تقطن لما يهدد مستقبلها الاقتصادي من جراء هذا الغزو المفاجيء، وان تبحث في وسائل الحماية السريعة لصناعاتها الفتية. وعبء هذه الحماية يقع على عاتق الحكومة والامة معاً. فاما الحكومة فمن واجبها وفي مقدورها ان تلجأ الى مضاعفة الحماية الجمركية لتحمي المنتوجات المحلية من هذا السيل الداهم؛ على أن هذه الحماية وحدها لا تكفي كما أثبتت التجارب الاخيرة في مصر وغير مصر؛ وإنما يجب ان تقرن في الوقت نفسه بمعاونة الأمة وتفضيلها للمنتوجات القومية على سواها؛ وهي بهذه المعاونة لا تحقق واجباً ونياً فقط، وإنما تخدم في الوقت نفسه مصالحها الاقتصادية
محمد عبد الله عنان المحامي