مجلة الرسالة/العدد 829/تيتو والشيوعية (القومية)
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 829 تيتو والشيوعية (القومية) [[مؤلف:|]] |
قطرات ندي ← |
بتاريخ: 23 - 05 - 1949 |
للأستاذ عمر حليق
يقف المارشال تيتو سيد يوغسلافيا موقفاً فريداً إزاء هذه التيارات الجارفة التي تهب عليه من المعسكرين المتطاحنين: السوفيتي والغربي.
فهذا الخليط من الأقليات العنصرية والطائفية والتي تؤلف (اتحاداً جمهورياً من الشعب اليوغسلافية) يمر في فترة غريبة في خطورتها. ذلك لأن موقف التحدي الذي يقفه المارشال تيتو من الإدارة المركزية للشيوعية الدولية (الكومنفورم) الذي يعمل يوحي من موسكو جلب عليه غضب المعسكر الروسي في شرقي أوربا وأواسطها في البلقان، ولم يكسبه - إلى الآن على الأقل - بركة حلفاء الغرب ومؤازرتهم ونصرتهم. وتيتو على رغم ذلك قوى العقيدة في صلاح الماركسية الأصلية كما تنص عليها تعاليم ماركس ولينين كأساس للحياة السعيدة، وهو كافر بالنظم التي يعيش عليها المعسكر المعادي للشيوعية.
وماركسية تيتو ليست اشتراكية معتدلة على غرار المجتمعات الاسكندنافية مثلاً، أو تلك التي تحاول توطيدها في بريطانيا حكومة العمال.
فالنظام الذي يصوغ به تيتو حاضر يوغسلافيا هو نظام شيوعي أصيل في وسائله وأهدافه. وليس خلافه مع موسكو والكومنفورم يمس العقيدة الماركسية وإنما يمس تفسيرها والوسائل لتدعيمها وتحقيق مراميها.
والواقع أن تيتو (سوفياتي) أكثر من ستالين؛ فإن جوهر الخلاف بين يوغسلافيا وموسكو يعود إلى إصرار تيتو على الاعتقاد بأن نجاح الماركسية ورسوخها في الفكر والمسلك لن يتحقق في هذه المركزية الدقيقة الصارمة التي تفرضها موسكو بواسطة الكومنفورم على الأحزاب والجماعات الشيوعية التي تعيش خارج الاتحاد السوفياتي؛ بل أنه يؤمن بأن لك مجتمع ظروفاً خاصة ومؤثرات خاصة ونزعات عاطفية وتكويناً خلقياً خاصاً، فلا يمكن أن تصهر جميعا لتكون
لينة مطاوعة لتوجيهات دقيقة تصدر عن موسكو أو الكومنفورم وتمس المصلح القومية للذين اختاروا الاشتراكية نظاما للحياة.
وقد انقضت أكثر من عشرة أشهر على انفصام عرى الوئام بين المارشال تيتو وبين موسكو والدول الشيوعية الأخرى، واتخذ هذا الخلاف صورة جدية في الأسابيع الأخيرة عندما حشدت ألبانيا وبلغاريا بعض قواتها على الحدود المشتركة مع يوغسلافيا ولكن هذه الحالة السيئة لم تضعف من مركز تيتو ولم تقلل ثقة الشعب اليوغسلافي بزعامته.
وتركز النظام الحالي في يوغسلافيا يعود إلى أسباب، منها أن الأغنياء ومترفي الطبقة الوسطى بالرغم من استيائهم من الاشتراكية التي حققها تيتو هم الآن مشلولو النشاط ليس لديهم من الآمال والأنصار ما يستطيعون بواسطته إقصاء تيتو عن الحكم. وعامة الشعب من المزارعين والعمال لا مفر لهم في يوغسلافيا من اختيار أهون الشرين: فإما ستالين وإما تيتو. وهذه الوضعية كذلك تنطبق على المثقفين. ويبدو جلياً أن الكثرة من كلا الفريقين قد رضيت بالمارشال تيتو مواطنهم. وقد فر أنصار موسكو والكومنفورم إلى خارج البلاد، ولم يعد لهم أثر في السياسة والحياة العامة.
والصعاب التي تواجه تيتو جمة؛ فقد قطعت الحكومات الشيوعية المحالفة لروسيا صلاتها الاقتصادية مع يوغسلافيا؛ وتحفظ حلفاء الغرب في تعاملهم مع تيتو في السياسة والاقتصاد. وبقي هذا الاشتراكي العنيد مصراً على ألا يساوم طرفاً من الطرفين (السوفياتي والغربي) على حساب الاشتراكية القومية التي يعمل لتوطيدها في وطنه. فتيتو يرى أن الوسائل التي يتبعها السوفيات وحلفائهم من الدول الشيوعية الأخرى لتحقيق الماركسية الصحيحة هي طريقة خاطئة تخالف تعاليم لينين من حيث أنها تراعي الخصائص الفردية لكل مجتمع، ولا تحاول أن تفرض على العالم بأسره نظاماً موحداً لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات وما هي عليه من تباين في كثير من الطبائع والميول والاتجاهات. ومع أن الماركسية تصر على بلشفة العالم في المراحل النهائية من التطور، فإن لينين رأى أن يراعي طبيعة هذا التباين الاجتماعي عندما انكب على توطيد الماركسية في الاتحاد السوفياتي أولاً تاركاً العالم الخارجي وشأنه، وهذا على عكس ما جرت عليه السياسة الروسية في سنوات ما بعد الحرب.
وتيتو كذلك لا يرى أن من الخير ليوغسلافيا أن تترك التجربة الاشتراكية الناجحة التي توطدت فيها الآن لترتمي في أحضان الرأس مالية.
وخلاف تيتو مع موسكو لا يقتصر على المبادئ الفكرية وتفاسيرها، بل أنه يمس التعامل الاقتصادي كذلك.
فان سيطرة موسكو على منطقة نفوذها في شرقي أوربا تستدعي أن تنسق يوغسلافيا إنتاجها الزراعي والصناعي بحيث لا ينافس الصناعة والإنتاج الروسيين وإنتاج الدول الشيوعية الأخرى لئلا تنقصم عرى الوحدة الاقتصادية في منطقة النفوذ الشيوعي وتيتو لا يرى أن من المصلحة القومية أن يحصر إنتاج بلاده ونشاطها الاقتصادي في أصناف معينة أو مقادير محدودة مراعاة لمصلحة موسكو والدول الموالية لها. وهو يرى إن يوغسلافيا تستطيع أن تحقق إنتاجاً وافراً دون قيود والتزامات اختيارية أو اضطرارية فتستفيد وترفع مستوى معيشته سكانها بدل أن تضحي بذلك إرضاء لتعليمات الكومنفورم.
ويقول تيتو صراحة إن بلاده لم تتحرر على يد الجيش الروسي أو الجيوش الحلفاء من النير الطلياني والألماني، وإنما الذي حرر يوغسلافيا هم أبنائها من الثوار ورجال المقاومة السرية، ولذلك فليست يوغسلافيا مدينة لأحد، وهي ترفض الانصياع لأوامر موسكو والاستسلام لرغبات الغرب.
هذه العزلة الاقتصادية والسياسية التي اختارها تيتو لنفسه ولبلاده قد استوجبت التزامات ثقيلة. وقد أصر تيتو على أن يلمس بنفسه طبيعة هذه الالتزامات وانعكاساتها على طبقات الشعب فقام يجوب إنحاء البلاد ليتعرف مطالبها ويقف على مشكلات الأقليات العنصرية والطائفية المختلفة الميول والنزعات.
وكان لاختبار تيتو حالة الشعب ووسائل الإنتاج اختباراً شخصياً أثر بليغ في تفهمه لحقيقة الوضع ومواطن الضعف وإمكانيات القوة. كما إن اتصالاته الشخصية قد عززت مكانته في قلوب الشعب تعزيزاً متيناً. وتيتو هو أول زعيم شيوعي مسؤول يترك قصره المحاط بالحراس ويندفع في طول البلاد وعرضها يدرس ويتعرف عن كثب.
ولقد اكتشف تيتو البون الشاسع بين وضع المشروعات والبرامج على الخرائط والورق وبين حقيقة تنفيذها. فقد وجد إن العمال في المصانع والمزارع التي تملكها الدولة بطيئو النشاط قليلو الإنتاج منحطو المعنوية بسبب الظروف الصعبة التي تحيط بالحياة العمالية فعمل تيتو جاداً لزيادة نشاطهم وإنتاجهم ورفع معنوياتهم عن طريق التحسين في شؤون العمل وظروفه وشروطه الصحية وساعات الراحة وحصة في الأرباح وجوائز التفوق وغير ذلك من المؤثرات النفسانية التي يعلمها المعنيون بشؤون العمل والعمال.
وقد أفاد تيتو كثيراً من الجولات في طول البلاد وعرضها للتعرف على الاتجاهات السياسية ومبلغ مناصرة الشعب له في موقف الضغط السوفياتي الشرقي ومن السلبية الغربية.
والظاهر أن موسكو والكومنفورم لن تترك تيتو يطبع الشيوعية بطابع قومي محلي وينفر من المركزية الصارمة التي استنتها موسكو لنفسها ولحلفائها. فبالإضافة إلى حرب الأعصاب وتجمع الجيوش الشيوعية على الحدود اليوغسلافية وحملات الدعاية والتشنيع الذي تتعرض له يوغسلافيا وعاهلها فإن تيتو يواجه حركة جدية من المعسكر السوفياتي تبتغي اقتطاع أجزاء واسعة من الأرض اليوغسلافية وضمها إلى قطاعات يونانية وبلغارية وألبانية لتأليف دولة بلقانية شيوعية جديدة تعرف باسم (مقدونيا)
وهذا التحدي السوفياتي لتيتو يلاقي منه صلابة حازمة. والى الآن لم يطلب تيتو معونة من حلفاء الغرب. ولا يبدو أن الحلفاء قد عرضوا عليه هذه المعونة، وكل ما طلبته يوغسلافيا من الحلفاء وغيرهم من الدول الحيادية هو زيادة التبادل التجاري دون التقيد بالتزامات سياسية أو عسكرية.
ومن الجدير بالإشارة إليه أنه بالرغم من هذا الاختلاف الجدي بين تيتو وموسكو فإن الوفد اليوغسلافي في الأمم المتحدة لا يحيد مطلقاً عن الأخذ بوجهة النظر السوفياتية والتصويت بجانب الكتلة السوفياتية في القضايا المعروضة على الأمم المتحدة.
وللمرء أن يتساءل عن المدى الذي قد يستطيع تيتو أن يثبت فيه على هذه الصلابة، وهل سيدفع في هذه المراحل النهائية لمحالفة المعسكر الغربي أم سيخضع لموسكو؟
الجواب في هذه الأيام الحبالى التي تلد كل عجيب. . .
(نيويورك)
عمر حليق