الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 825/مسرحية (سليمان الحكيم)

مجلة الرسالة/العدد 825/مسرحية (سليمان الحكيم)

مجلة الرسالة - العدد 825
مسرحية (سليمان الحكيم)
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 25 - 04 - 1949


للأستاذ توفيق الحكيم

بقلم الدكتور محمد القصاص

- 1 -

يذكر الأستاذ توفيق الحكيم في مطلع مسرحيته أنه بناها على كتب ثلاثة: القرآن والتوراة وألف ليلة وليلة؛ وأنه سلك فيها مسلكه من استخدام النصوص القديمة والأساطير لإبراز صورة في نفسه. ولعل هذه الكلمة خير ما يلخص مذهب الأستاذ الحكيم ومنهجه في التأليف المسرحي. فماذا أخذ من هذه الكتب الثلاثة وماذا ترك؟ وما الذي أضافه إليها من فنه ومن فكره؟ هذا ما نريد الآن أن نعرفه.

أما قصة القمقم والصياد ففي ألف ليلة وليلة؛ ولكن الصياد فيها، لما رأى من لؤم الجني الذي أراد أن يقتله جزاء تخليصه إياه من سجنه، يحتال عليه حتى يدخله القمقم من جديد ويغلقه ثم يقذف به في البحر كما كان. وهو مسلك لا يتصور غيره من إنسان، لأنه يتفق مع طبيعته وفكرته عن العدالة حتى في أسمى صورها. ولكن صياد سليمان الحكيم لم يفكر في شيء من هذا، بل راح يحاور الجني ويداوره في بلاهة تشبه القداسة، أو قداسة تشبه البلاهة، ليصل معه إلى اتفاق شريف، وهو هادئ الطبع أمام الموت الذي يهدده كأنه سقراط يهزأ بالموت وبالجلاد في سمو يليق بسيد الفلاسفة. وتلك ظاهرة بارزة لدى الأستاذ توفيق الحكيم، وفي الرواية التي ندرسها على وجه الخصوص؛ ظاهرة تنزع إلى إظهار شخصياته الثانوية أكثر تميزاً من أبطاله أنفسهم، فنراهم في كثير من مواقفهم (يسمون على أنفسهم) على حد تعبير المؤلف - عن شعور أو غير شعور. وقد نرجع إليها في مقال آخر. وأما القرآن فهو الذي أمده بالشطر الأكبر من هيكل المسرحية: ففيه قصة الهدهد، وحكاية النمل، وخطاب سليمان إلى بلقيس يدعوها أن تمثل بين يديه، واستشارتها لرجال دولتها، وهديتها لسليمان، ورفض سليمان الهدية، ثم إذعانها لزيارته، وعرض أمرها عليه، وقصة عرش بلقيس، وصرح سليمان، وأخيراً موت سليمان الذي لم يعرف نبأه الأنس والجن إلا بعد أن دلتهم عليه دابة الأرض تأكل منسأته. هذا إلى إطرائه حكمة سليمان، و أوتي من علم وسلطان، وتسخيره للجن، ومعرفته للغة الطير والنمل وسائر الحيوان وما يشبه ذلك من التفاصيل التي تهيئ جو الرواية. والكاتب يسير على نهج القرآن في ترتيب الحوادث وتتابعها، لا يكاد يختلف عنه في شيء - من هذه الوجهة فحسب بالطبع. وإن اختلف القرآن والتوراة أخذ برواية الأول منهما في غالب الأحيان. وجل ما أخذه من الكتاب المقدس من هذه التفاصيل التي قلنا أنها تهيئ الجو المعنوي للرواية وما يسمى في لغة المسرح (بالديكور) زوجات سليمان الألف، وماشيته، وبذخ قصوره الذي لا يحيط به وصف، وثراؤه الذي لا يحده حصر. ولعل الكتاب المقدس هو الذي أوحى إليه بفكرة الرواية ولو من بعيد، أو على الأقل بالخاتمة التي انتهى إليها سليمان. ففيه أن سليمان - وكان يهيم بالنساء - قد حاد في شيخوخته عن سبيل الحكمة بإغراء من نسائه الأجنبيات اللائى حولن قلبه عما كان قد عاهد عليه ربه، فأصر الله على أنه ينتقم لعهده، ولكن لا من سليمان نفسه بل من أبنه. غير أن الكتاب المقدس لا يقول بأن بلقيس هي التي كانت سبباً في سقطة سليمان كما في المسرحية، ولكنه يرجعها إلى ًهيامه بالنساء على كل حال. ومع ذلك فنحن نعلم من قصة أخرى حبشية تتصل بتفاسير العهد القديم، أن سليمان أحب بلقيس، وسواء أبادلته بلقيس الحب أم لم تبادله، فأن هذا الحب قد أثمر مولوداً تنحدر من ذريته سلالة البيت المالك الحبشي. ولكنا لا نعرف أن كان مؤلفنا قد علم بأمر هذه الرواية أم لا.

هذه قصة الملك سليمان أو نبي الله سليمان كما وردت في الكتب المقدسة والأساطير القديمة. فماذا صنع بها توفيق الحكيم؟ كيف خلق منها بفنه وفكره شيئاً جديداً، عملاً أدبياً ورواية تمثيلية؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال نفضل أن نشير إلى بعض المسالك التي يسلكها المؤلفون عادة في استخدامهم للأساطير وحوادث التاريخ في الأدب القصصي والتمثيلي، لنرى أيها اختار توفيق الحكيم:

قد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي فيصوغه صياغة جديدة ليجعل منه قصة أو رواية فنية، دون أن يضيف إليه شيئاً من لدنه غير الصياغة والأسلوب القصصي أو التمثيلي، اللهم إلا أن يعمد إلى بعض نقط لم تكن بارزة في النص الأصلي، وإن كانت مما يسلم به ولو ضمناً، فيبرزها ويضخمها، أو إلى بعض الأبطال فيبالغ في إظهار بطولتهم ويشيد بفضائلهم، ولكنه لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن وجهة نظر النص الأصلي؛ بل إن كان هناك اختلاف فهو اختلاف في الكم (والرتوش). وقد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي أو الاسطورة، فيفسرهما تفسيراً جديداً يختلف عما هو شائع من تفسيرهما، بل وعما يعطيه نصهما، كما فعل شوقي في مصرع كليوباترة أو كما أراد أن يفعل. وقد يناقض هذا التفسير الجديد مرمى النص القديم على خط مستقيم، كما فعل جان بول سارتر في أسطورة أورست لما أتخذ منها مادة لمسرحيته الخالدة (الذباب).

ومسلك ثالث، هو أن يتخذ الفنان من الحادث التاريخي أو من الأسطورة إطاراً يحيط به أفكاره الخاصة، إناء فارغاً يصب فيه مذهبه في الميتافيزيقا أو الأخلاق أو المجتمع أو غيرها، وقد تكون فكرة المؤلف لا تمت بسبب إلى ما في الأسطورة. ولكنه يتخذ من حوادثها المادية آلة ينشر عليها خيوطه وخاماته لينسج منها الثوب الذي يريد، ومن أشخاصها أبطالاً يتقمصون أفكاره لتحيى في نفوسهم، وتتجلى في أفعالهم وأقوالهم. وهذا هو المسلك الذي سلكه توفيق الحكيم لما خلق بفكره وفنه رواية (سليمان الحكيم) من النصوص التي تكلمنا عنها.

فما هو فن الأستاذ توفيق الحكيم في هذه المسرحية؟ وما هي الفكرة التي أراد هذا الفن على أن يحملها عنه إلى جمهوره، قراء كانوا أم متفرجين؟ الفكرة، بل الدعوى التي يجعل الأستاذ توفيق الحكيم من قطعته عرضاً لها ودفاعاً عنها، هي وجود قوة خفية، قوة عليا تسيطر على أعمال الإنسان وتختار له كما تشاء هي لا كما يشاء هو، حتى إذا ما سار في الطريق الذي اختطت له أو التي حملته على السير فيه دون إرادة منه، وضعت أمامه من العراقيل ما لا يستطيع التغلب عليه، أو ما لا ينبغي له أن يتغلب عليه، ما دامت تلك مشيئة الأقدار. وكأن هذه الأقدار أو القوة الخفية - إذا سلمنا بمنطق الأستاذ الحكيم - لا تبغي من وراء ذلك إلا العبث والسخرية من بني الإنسان. ولا أظن كاتباً يطمع في تصوير الإنسان في صورة من التفاهة والاحتقار أكثر مما عمل أو مما أراد أن يعمل مؤلف سليمان الحكيم. والميدان الذي أختاره الأستاذ المؤلف لإبراز فكرته وتحقيق صدقها هو ميدان الحب، ميدان القلب والعاطفة لا ميدان العقل والفكر؛ لأن شخصية الفرد - على ما تريد المسرحية أن تظهره - تتكون من واديين منعزلين: وادي العقل والذكاء وفيه الإنسان سيد نفسه ولكنه قليل الخطر في حياته وحياة العالم. ووادي القلب، وادي الحب والبغض، موطن السعادة والشقاء، ومفتاحه في يد الأقدار، في يد تلك القوة الخفية التي تديره وتدير معه الإنسان (من خارجه) ولا سلطان لغيرها عليه. وتمزيق شخصية الإنسان على هذا النحو قد يرضي الأمثال المأثورة والحكم العامية، ولكن عقل المفكر قد ينبو عنه بعض الشيء. لأن الحب مثلاً قد يكون مبعثه الإعجاب والتقدير الشعوريين أو غير الشعوريين؛ وقد يكون منبعثاً عن أشياء أخرى كثيرة كامنة في عقل المحب الباطن، وعدم إطلاعنا عليها لا يبرر حكمنا عليها بالعدم. ولكن المؤلف يجعلنا نرى سليمان - ذلك الشيخ المتصابي، ذلك الزواج الذي يقتني في قصوره ألف امرأة - يهيم ببلقيس بمجرد أن سمع أسمها من الهدهد، وكأنه مدفوع إلى هذا الحب بتلك (القوة الخفية) التي تديره دون أن تختلط بنفسه والتي لا قبل له بها.

ويكشف لنا سليمان عن هذا الحب (الشيطاني) بدعوتها لزيارته، وفي قلقه وهو ينتظر مقدمها في قصره، حتى لكأنه جالس عل أحر من الجمر، وفي غيرته من منذر لما (حدثته بصيرته بأنه المالك لقلب الملكة دونه. وهو الذي (شم عطرها وبينهما بحار من رمال، ودعاها وبينهما آماد طوال). وما تكاد تستقر في ضيافته حتى (يفاوضها) في أن (تنزل) له عن قلبها، بعد أن صرحت له بهيامها بغيره. فإذا أنس منها إعراضاً راح يبهر عينها بمساعدة العفريت، ويمخرق لها بشعوذته وألاعيب سحره. قد يعترض علينا معترض بأن هذه الأشياء موجودة بالفعل في النصوص القديمة، وأن المؤلف لم يفعل غير أن استغلها في إبراز فكرته ودغمها ولكنه على أية حال استغلال غير موفق. بعد هذا عماذاً تنجلي التجربة، أو المعجزة إذا شئنا؟ عن إصرار بلقيس على ألا (تبيع) إلى سليمان، وإمعانها في حب منذر، إذ (لو كان قلبها في يدها ما زال حرا لمنحته إياه مرة أخرى) (هذه المرة دون تدخل القوة الخفية!!). ثم عن حب مكتوم ولكنه متبادل بين منذر وشهباء وصيفة بلقيس، كشف يفاجئ بلقيس فيكاد يقضي عليها بقسوته، ويهيئ بذلك الفرصة (لنبي الله) ليضاعف من شماتته بها وضحكه من خيبة أملها. أليس هو الذي يقول واصفاً لهذا المنظر: (استخدمت وسائل فظيعة لقهرها وتعذيب قلبها. . . لقد أردت التشفي من صدها برؤية دماء نفسها تشخب وجراح فؤادها تسيل. . . حتى انهدت بين يدي وانهارت وأنا أرسل في وجهها الشاحب الضحكات). وأي ضحكات؟ ضحكات تدوي بها أرجاء القصر، مما لا نتصور صدوره من شخص أضناه الحب وأذله.

(لها بقية)

محمد القصاص

دكتوراه الدولة في الآداب من جامعة باريس