مجلة الرسالة/العدد 825/أمم حائرة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 825 أمم حائرة [[مؤلف:|]] |
مسرحية (سليمان الحكيم) ← |
بتاريخ: 25 - 04 - 1949 |
فوضى الآراء والأعمال
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
وزير مصر المفوض بجدة
يحس الإنسان حيثما توجه في هذا العالم قلقاً واضطراباً وسخطاً، ويسمع أينما حل ضوضاء وصخباً وجدالاً. كأن قلق النفوس واضطرابها، أو هذه الضوضاء النفسية التي تدوي في كل فكر وكل قلب - صدى الضوضاء الحسية المستمرة المسلطة على الخلق في هذا العالم، من سياراته وقطاراته وطائراته ومجاهره ومذياعاته؛ أو كأن هذه الضوضاء الحسيه التي لا يجد الناس منها مفراً ولا عنها حولاً، صدى لتلك الضوضاء النفسية. لا جرم أن هذه الضوضاء متصلة بتلك، فالعالم في ضوضاء نفسية وحسية، وفي صخب ظاهر ومضمر، وعيشة الإنسان بين الضوضاء ين شقاء، وجهاده للخلاص منهما عناء.
كل طائفة لها مذهب، وكل إنسان له رأي، وإلى المذاهب والآراء، مآرب وأهواء، لبس فيها الحق بالباطل، والصدق بالكذب.
وقد طويت المسافات، ورفعت الحجب، فصار الإنسان في بقعة من العالم يقرأ ويسمع ما في أقصى البقاع كأنه يعيش فيها، ويقيم بين أهليها. فاجتمعت على الإنسان ضوضاء العالم كله، ونزاعه، وفتنه.
والمسائل الكبرى التي كانت شغل الفلاسفة والعلماء في العصور السالفة وضعت في هذا العصر، بهذه الوسائل، وسائل النشر والإذاعة، أمام كل قارئ، بل كل أمي، فشارك الجهلة العلماء، واستوت الأئمة والدهماء. كل يسمع أو يقرأ ويفكر ويقول. فما ظنك - مع هذا كله - بما تموج به الجماعات من مذاهب وأراء، وأقوال وأفعال؟
كل طائفة وكل فرد يعلن بما فكر وما قدر، وكل قارئ أو سامع يردد ما قرأ أو سمع، وتدعي كل طائفة وكل فرد أن له الحرية كاملة مطلقة في أن يعلن برأيه، وينشره على الناس بشتى الوسائل، ويدافع عنه بكل الطرائق.
فإن أعوزته الحجة، وخذله البرهان، ولم يجد لمذهبه في العقول قبولا، ولا لرأيه في الجماعة مساغاً، فلا بأس عليه أن يكذب ويخدع ويفتري ويلبس الحق بالباطل، ويبذل المال إن استطاع، ويستعين بالشهوات إن قدر، ويتوسل بكل ما عرف الناس من وسائل الدعوة أو الدعاوة.
وإن لم تجد الدعوة، ولم ينفع الخداع والتلبيس، والتسميع والتشهير، فلا بأس أن يوجه حريته إلى الإخلال بالنظام، وإشاعة الفوضى، وعمل كل ما يذهب بسكينة الجماعة، ويخل بأمنها، ويقضي على طمأنينتها، ويصرفها عن عملها، ويذيع بينها التعادي والتنافر، والتخاصم والتقاتل، لتجد آراؤه في هذه الضوضاء مجالاً، وفي هذه الفوضى مسلكاً، وفي هذا القلق طريقاً، وفي هذا الحراب مأوى!
وللداعي من هؤلاء أن يستمسك بحقه في الحرية لنشر رأيه، فيقتل من يخالفه، من فرد أو جماعة، ويهدم الأبنية وينسفها نسفاً ليرغم الناس على الإذعان لرأيه. . . وماذا عليه في هذا؟ أليس حراً في أن ينشر مذهبه كما يشاء؟ هو حر، وليس للمخالف حرية مثله في أن يستمسك برأيه ويدفع عنه؛ بل ليس له الحرية في أن يعيش. وإذا أخذ بجريرته نادى بحقه في الدفاع عن نفسه والاستعانة بالمدافعين، وطالب بحريته في أن يقول ما يشاء، قبل أن يقضى عليه.
صارت هذه الحرية البائسة كلمة تقال في الحق والباطل، وينادي بها في الخير والشر، والصلاح والفساد. وأين هؤلاء الأغرار من أخلاق الأحرار؟ لقد اشتبه عليهم الأمر، والتبست عليهم السبل، فهم في أمر مريج.
هذه فوضى المذاهب والآراء، فوضى الحرية في الدعاء إليها والدفاع عنها!
وفوضى أخرى في سنن الجماعة وآدابها، وعمل الفرد وسيرته: فتحت على الناس أبواب من اللذات، وزينت لهم فنون من الشهوات، ونشأت بجانبها ضروب من التجارة وألوان من المكاسب، اتخذت إليها سبلاً شتى؛ وطرقاً مختلفة، لا يبالي سالكوها بما يقترفون إن أصابوا الربح الذي يبتغون!
افتن تجار المآثم في التزيين والترغيب والفتنة، فهفا كثير من الناس إليهم وعلقوا في شراكهم. وللناس شرائع تعصمهم من المآثم، ولهم آداب ومروءات تمسك بهم عنها، وفيهم إباء وحياء؛ ولكنها لذات فاتنة، وشهوات قاهرة، وخدع غالبة، وفتن محيطة. فيرجع الخادعون والمخدوعون إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها فيقولون: الحرية والجمال والرياضة والفكاهة. . . إلى أسماء أخرى يحتجون بها لما أقبلوا عليه، ويقطعون بها ما يمسك على المعيشة الفاضلة من عقائد وفضائل وآداب ومروءات لتستريح النفوس إلى شهواتها، وتنطلق من قيود الأخلاق والآداب.
ويرى هؤلاء التجار الربح فيزيدون افتناناً في إغراء الناس، ويتنافسون في جذبهم إلى ملاهيهم، وكلما اعتدى الحدود واحد ليغري الجمهور بملهاه، أنف غيره أن يتخلف عن منافسه في تعدي الحدود، وهلم جراً إلى الهاوية.
وعلى قدر حرص هؤلاء المفسدين يقبل الأغرار عليهم، وعلى قدر افتنانهم في آثامهم يقع الشبان في مفاسدهم.
والحرية المظلومة يعتل بها هؤلاء وهؤلاء. وما هي الحرية، ولكنها العبودية، عبودية المال، وعبودية الشهوات.
والجماعات تسير إلى مهالكها سادرة في غفلاتها، والحكومات ذاهلة عن تبعاتها. يحسبون الأمر هيناً وهو يفعل فعله في آدابنا وأخلاقنا وجماعتنا وأسرنا وفي عقولنا وأجسامنا. وإليه فيما أرى يرجع كثير مما نحن فيه من عبث وفوضى وعصيان على القوانين قوانين الأسرة، وقوانين الجماعة، وقوانين الحكومة.
ولا بد للناس من سنن صالحة، وقوانين حازمة، تحمي الأغرار من عبث الفجار، وتصون الناشئين من تضليل المضللين، وتعصم الشبان من التهافت في هذه النيران التي لا تبقى ولا تذر!
هذه فوضى الأخلاق بعد فوضى الأفكار.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام