مجلة الرسالة/العدد 82/كيف صرف الله عني السوء؟
→ التاريخ الإسلامي | مجلة الرسالة - العدد 82 كيف صرف الله عني السوء؟ [[مؤلف:|]] |
بيت الإبرة ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1935 |
بقلم الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
اشتهيتُ أن أقول الشعر في الأسبوع الماضي، بعد أن فطمتُ قلبي سنوات وسنوات، فدخلت مكتبتي - أعني غرفتها لا رفوف الكتب فيها - وأغلقت الباب، وقلت لنفسي (الآن، أمنت أن يزعجني هؤلاء الأطفال الملاعين ويُطيروا عقلي - أو ما بقي لي منه، وهو قليل - بضجاتهم وكراتهم وزماراتهم وأسئلتهم التي لاتنتهي، ومشاكلهم العويصة التي لا تحل، واستبدادهم الذي لا يطاق. إنهم أطفال جديدون وأنا رجل قد شيخت، وهم حركة دائمة، وأنا فتور يزداد على الأيام، وسينتهي - عاجلاً أو آجلاً، بل آجلا إن شاء الله - إلى الركود. وهم استعداد مطلق، وأنا نطاق محدود. وكيف بالله أطيق أن أظل ألاعبهم الكرة، أو أجاريهم في الزمر والوثب والصياح؟؟
وما صبري على هذه الأسئلة التي ليس لها عندي جواب؟؟
سألني أحدهم - أصغرهم - (بابا)
قلت: (نعم)
قال: (هل أنت بابا؟)
قلت: (نعم، وأمري إلى الله يا بني)
قال: (صحيح؟)
قلت: (أو يخامرك شك يا ملعون؟؟ أم لا يعجبك أبوك؟؟)
فجعل يردد كلمة (بابا) مستغرباً ثم سأل (يعني آيه؟)
فلم أجد عندي جواباً حاضراً لسؤاله، وعالجته، وحاورته داورته حتى انصرف عن هذا الموضوع، ولكنه لم ينسه، فهو يكر علي به كل بضعة أيام. فمن كان يعرف لسؤاله هذا جواباً مقبولاً فليسعفني به، وله الثواب من الله
وسألني مرة، ونحن على السفينة الذاهبة بنا إلى بيروت:
(هذا هو البحر؟)
قلت: (هو بعينه - أعني بموجه)
قال: (هل للبحر حنفية؟) قلت: (لا)
قال: (لماذا؟)
فهربت من الجواب لأنه طويل، وكان بي كسل في تلك الساعة، فعاد يسأل:
(ماذا يحدث إذا وقعتُ فيه؟)
قلت: (تغرق فتموت)
قال: (يعني أكون كالسمك الذي فيه؟)
قلن: (كلا. إن السم الذي فيه حي، أما أنت وأنا فأنا نموت إذا وقعنا فيه، لأنا لا نعرف السباحة، ولم نخلق لنعيش في الماء كالسمك)
قال: (نموت كيف؟)
قلت: (نموت ي أخي! سبحان الله العظيم!)
قال: (ولكني أريد أن أعرف)
قلت: (أنا لم أمت، فكيف أعرف؟)
قال: (بابا)
قلت: (يا ساتر استر. نعم يا سيدي!)
قال: (أريد منك شيئاً)
قلت: (على العين والرأس يا حبيبي، قل يا سيدي. تفضل يا روحي!)
قال: (لماذا تتكلم هكذا؟)
قلت: (لأني أعرف أنك ملعون خبيث)
قال: (لا. . . .) وضحك (إنما أريد أن أراك)
قلت: (وهل عميتَ؟ ألستً تراني أمامك؟)
قال بسرعة: (لا لا لا. . . . إنما أريد أن أراك، في. . . . . في الماء!)
قلت: (تعال إلى الحمام، فان فيه حوضاً عظيماً)
قال: (لا) ممطوطة، بازدراء، (في البحر. . .)
قلت: (يعني تريد أن أغرق، وأموت؟)
قال: (آه! لأجل خاطري. ألست تحبني؟) فلولا أدركتني أمه، لوجب علي أن أغرق تحت عينه.
وهكذا إلى أخر ذلك إن كان لما يتقاضاني آخر يعرف
فقالت لي نفسي: (اسمع يا مازني. انك قليل العقل، ما في هذا شك)
قلت: (أشكرك. فهل تسمحين أن تبيني السبب؟)
قالت: (نعم. هذا أنت تخلو بي، لتنظم شعراً، فبدلاً من أن تتناول القلم وتكتب، تذهب تتمثل ما يدور بينك وبين أولادك، فتضيع الوقت في غير طائل ولا تصنع شيئاً. فإذا لم تكن هذه قلة عقل فانه يسرني أن أعرف ماذا هي؟)
قلت وأنا مغيظ: (استدراك! إني لا أخلو بك لأقول الشعر، أعني أنك - ولا مؤاخذة - ليت الباعث على قول الشعر)
قالت: (لا تكن قليل الذوق أيضاَ!)
قلت: (إنها الصراحة والحق، لا قلة الذوق. ثم إنك مخطئة. فأني لم أدخل هذه الغرفة لأنظم شعراً، بل إني اشتهيت هذا، فأنا أريد أن اهتدي إلى الوسيلة التي تعينني عليه)
قالت: (الوسيلة؟ أية وسيلة؟ تناول القلم واكتب!)
قلت: (يا سلام؟ ما اذكاك! لو كان هذا كل ما يتطلبه قول الشعر لما عجز أحد عنه)
قلت: (أذن ماذا تبتغي؟)
قلت: (اسمعي أقل لك. . . إني اصفيتُ، أو على الأصح انقطعت عن النظم لأنك خلية، فأنا أريد الآن أن أشجوك، أعني أن أملأك)
قالت: (كيف؟ فإني غير فاهمة؟)
قلت: (لك العذر، فقد صرت كالصحراء، التي نسيت الماء من طول ما انحبس عنها)
قالت: (ألا تقول وتوجز؟)
قلت: (إذن أقول إني أريد أن يعمر قلبي الخرب، وبعبارة أخرى أقرب إلى فهمك الكليل، أريد أن أحب)
قالت: (تريد؟ هه؟)
قلت: (أه أريد! وأي غرابة في ذلك؟)
قالت: (لا فائدة من الخلاف فانك مكابر، وماذا تنوي أن تصنع؟) قلت: (أنوي؟ ليس أسهل من ذلكّ أدور بعيني حتى تقع على واحدة تستحق أن أحبها - هذا ما أنوي أن أصنع) فمطّت شفتها - مجازاً - وأشاحت عني بوجهها، فقلت في سري، والله لأغيظها! وخرجت ألتمس الحب، وأدور بقلبي على النساء، وأفتحه لمن شاءت أن تقع منهن فيه، وكنتُ مستعداً - لأكيد لنفسي - أن أحب عشرين امرأة دفعة واحدة، ولم لا؟ إن كل ما يعينني، وما أبغيه، هو الحب، لا المرأة، وأثره لا وسيلته وأداته، فكلما كانت النار أقوى، واللهب أعلى كان ذلك خيراً لي، ثم إني أريد أن أجرب كل حب، أعني الحب من كل صنف، ولون، حتى الذي يعقب الخبل ويورث الجنون، والذي يحرق الثياب، ويترك القلب عارياً
وصرت كلما رأيت سرباً من الفتيات، أقول لهن
(ادخلن يا فتيات!)
فيقلن: (أين؟)
فأقول: هنا في قلبي. . إنه عظيم! شيء مهول جداً. يسعكن جميعاً ويسع مائة من أمثالكن. البدار البدار، فانها فرصة لا تعوض فيتضاحكن ويمضين عني - لا أدري لماذا. كأنما لهن طلبة في الحياة غير الحب، أو سبيل إلى طلبتهن غيره؟
ألاقي غيرهن. فأدق الناقوس، وأستوقفهن وأسألهن: (ما قولكن؟)
فيقلن: (في أي شيء؟)
فأقول: (في أن أحبكن جملة؟)
فيقلن: (مجنون؟)
فأقول: (أطعنني، فأني أعرف ما لا تعرفن! هذا قلبي قد فتحته لكُنَّ، على آخره، فادخلن فيه، أنتن ومن تخترن غيركن من صواحباتكن، فلن يضيق بكن، فانه أعمق وأرحب من البحر الأعظم. . أزخرنه لي، وغصن في أعماقه، وأمددن لي أيديكن بالدر المكنون الذي لا تبلغه يداي)
فيمضين عني ولا يعبأن بي، فيهبط قلبي، وتفتر دقاته، وتهي نبضاته، وألمح النفس تبتسم ابتسامة الشماتة، فيستفزني ذلك، فأكر إلى البحث
ولا أطيل. . . . . لقيتُ أخر الأمر فتاة قالت لي: (هل تريد أن أحبك؟)
قلت: (لا. . . إنما أريد أن أحبك أنا)
قالت: (وماذا يمنعك؟)
قلت: (صحيح! أما والله إني لمغفلّ وماذا منعني أن أحب نساء الدنيا كلهن؟؟ أم تراني كنت أحسب أن الأمر يحتاج إلى استئذانهن؟)
فقالت وهي تضحك: (أنت تحبني - هذا حسن. . .)
فقاطعتها قائلاً: (لا تغلطي يا فتاتي، إني (أريد أن أحبك)
قالت: (لا بأس. أنت تريد أن تحبني، هذا حسن، وأنا ماذا أصنع بنفسي؟)
قلت: (لا شيء. أو إذا شئت، فان في وسعك أنت أيضاً أن تحبينني)
فضحكت وقالت: (أهو شيء بالإرادة؟)
قلت: (إنك سخيفة كنفسي، ولا مؤاخذة!)
فقالت: (ولماذا تريد أن تحب؟)
قلت: (لأني أريد أن أقول شعراً، وعلى أن هذا شيء لا يعنيك، فدعيني وما أريد، والباقي عليّ، فلن يكلفك شيئاً)
فتركتني لرأيي، وجعلت وكدي بعد ذلك أن أحبها، وذهبت أقنع قلبي بأنه قد اصبح عامراً ولكن نفسي - قبحها الله، أو زادها قبحاً - كانت تخرج لي لسانها هازئة، فيهيجني هذا منها، يسخطني عليها، فأغافلها أحياناً وأتحسس قلبي بيدي لأستوثق، وأضع راحتي على بطني لعلي أشعر بالنار التي يجب أن تكون مضطرمة فيها، فلا أحس أن النبض أسرع أو أقوى، ولا ترتد راحتي إلا باردة كما كانت. فأقول لفتاتي:
(أسمعي. هاتي أذنك، فأني أخشى أن تسمعني نفسي فتشمت بي)
وأسر إليها أني لا أحس شيئاً من مظاهر الحب، وعلاماته، فأنا آكل كالمنهوم، وأنام كأني حقنت بالمورفين، ولا أراني أفكر في شيء غير ما يتفق أن أكون فيه،. . . لا خفقان في القلب، ولا اضطراب في الصدر، ولا شوق، ولا شيء ما يصفه المحبون غيري، بل أنا أنسى اسمك، واسميك كل يوم، كما تعرفين، اسماً جديداً، فأي حب هذا؟ خبريني!
فقالت: (لا أدري - هو حبك، على طريقتك إذا كان صحيحاً أنك تحب) فأسألها: (ولكن هل تظنين أني أحب؟)
فتقول: (وكيف أعرف أنا؟)
فأسألها مستغرباً: (ألم يقولوا إن بين القلب والقلب رسولاً، فكيف ضل الرسول يا ترى؟)
فتول: (لم يأن أن تحب يا صاحبي. ولست بفتاتك على ما أرى؟)
فأقول: (ولكنك الفتاة الوحيدة التي وافقتني على ما اقترحت؟)
فقالت: - وأدهشتني - (نعم. وافقت ورضيت، بأن تحبني إذا شئتَ، فبقيت أنت لا تحب، ووقعتُ أنا)
فصحت بها: (ايه؟ ماذا تقولين؟)
قالت - بهدوء -: (لقد سمعت. . . .)
قلت: (أعيديه على مسمعي. . .)
قالت: (كلا. . . هكذا أحلى!)
فكاد الفرح يذهب بلبي، فما عرفت أن أحداً أحبني في هذه الدنيا مذ جئت إليها، ولا ذق في حياتي هذه اللذة، ولم يكن ذنبي أني حرمتها، ولا ذنب النساء أيضاً، وأحسب أن عيونهن تتخطاني - لقصري - فلا يرينني، ولو رأينني لأحبني بلا شك - كما فعلت هذه الفتاة الكريمة، بعد أن جلست!
وعدت إلى بيتي، وخلوت بنفسي في المكتبة، وقلت لها وأنا أكاد أرقص (والآن يا نفسي، يمكنك أن تطقي من الغيظ وتنفلقي من الكمد) وأحسست بالشعر يجيش في صدري، وشعرت كأنه ليس علي إلا أن أدهور لساني في شدقي، أو أن أرفع سن القلم على الورقة، فإذا به يجري وحده بالكلام المونق المعجب
وجئت بورقة، وبريت القلم، ووضعت تلك على رجلي، وهذا ما بين أصابعي، وتوكلت على الله، وأقمت القلم على الورقة، وإذا بنقر على الباب، فكدت أجن، ونهضت ففتحته بكرهي فدخل صاحب لي فلما رأي تجهم وجهي قال:
(هل أنت مشغول؟)
قلت: (تسأل البحر هل فيه ماء؟)
قال: (معذرة. على كل حال لن آخذ من وقتك إلا دقائق، إنك تعرف. . .) وذكر اسم الفتاة - فتاتي التي تحبني بارك الله فيها - فصحت به (آيه؟)
فقال: (إني أتكلم بلغة عربية فيما أظن؟)
قلت: (ألا توجز؟ ما لها؟)
قال: (حسن. سأوجز. إني سعيد)
قلت: (وأنا مالي!)
قال: (هنئني!)
قلت: (بماذا؟)
قال: (لقد قابلتها - للمرة الثالثة - ولم أخبرك لأنه لم يكن هناك ما يستحق أن يقال. ولكنها اليوم قابلتني - أعني استقبلتني بعد أن خرجت أنت من عندها، فكان مما قالته لي (إنك شاب، وأنا شابة، وأنا أصبو إليك كما تصبو إليّ، صحيح أني أقول لبعض معارفي من الكهول إني أحبهم، ولكني مضطرة إلى هذا لأحتفظ بودهم، أما أنت فشيء آخر - أنت شاب مثلي!)
فما قولك في هذا؟
قلت: (قولي؟ أنا؟)
قال: (نعم؟ ما رأيك؟)
قلت: (صدقها!)
فسألني: (هل كذبت عليك يا ترى كما كذبت على غيرك؟)
قلت: (علي أنا؟ لا! وهل يستطيع أن يخدعني أحد؟ والآن أذهب. . . . . .)
قال: (بسرعة؟ هكذا!)
قلت: (نعم فأني أريد أن أمزق دواوين الشعراء التي عندي)
قال: ألا يكفيك أن تكف أنت عن الشعر؟)
قلت: (كلا. . . . وسأحرقها أيضاً بعد تمزيقها؟ الشعر! يا للسخافة!. . . . .)
قال: (أعطنيها ولا تمزقها)
قلت: (كلا. . . إنك شاب. وحرام علي أن أسيء إليك وأن أضلك. . . . اخرج. . . اخرج. . . مع السلامة. . .) إبراهيم عبد القادر المازني