الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 82/التاريخ الإسلامي

مجلة الرسالة/العدد 82/التاريخ الإسلامي

بتاريخ: 28 - 01 - 1935


للأستاذ علي الطنطاوي

هذه حياة فخمة. . . . ليست حياة واحد، ولكنها حياة أمة، أمة حملت مصباح النور، حين عمّ الكون الظلام، وأرشدت العالم التائه في عُباب الجهل، إلى شاطئ العلم، وكانت حضارتها المدرسة الثانوية التي خرجت العقل البشري وثقفته، كما خرجته المدرسة الابتدائية اليونانية من قبلُ وثقفته. . . فكان لها الفضل على كل إنسان!

حياة أبي بكر هي الصفحة الأولى من التاريخ الإسلامي، الذي بهر كل تاريخ وبذّه، والذي لم تحو تواريخ الأمم مجتمعة بعض ما حوى من الشرف، والمجد والإخلاص.

ذلك لأنه تاريخ الكمال الإنساني على وجه الأرض. . . . تاريخ المعجزة التي ظهرت في بطن مكة على يد رجل واحد؛ فلم تلبث حتى عمَّت مكة، ثم امتدت حتى شملت الجزيرة، ثم امتدت حتى بلغت أقصى الأرض. . . فكانت أكبر من الأرض، فامتدت في الزمان. . . . وستبلى الأرض، ويفني الزمان، والمعجزة باقية:

(كلُّ مِنْ عَلَيْهاَ فَانٍ، وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاِلِ وَألإِكْرَامِ) - (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلنَا الذكْرَ وإِنِّأ لَهُ لَحَافِظُونَ)

ذلك لأنه تاريخ الإسلام، الذي بدا سره في هذه الأمة البادية الجاهلة المتفرقة، فجعل منها أمة لم يكن ولن يكون لها نظير. . . . امتزجت روح الإسلام بأرواح المسلمين وغلبت عليها، ثم استأصلت منها حب الدنيا، وانتزعت منها الطمع والحسد، والغش والكذب، وأنشأت من أصحابها قوماً هم خلاصة البشر، وغاية ما يبلغه السمو الإنساني. . .

أنشأت من أصحابها قوماً يغضبون لله، ويرضون لله، ويصمتون لله، وينطقون لله، قد ماتت في نفوسهم الأهواء، وبادت منها الشهوات، ولم يبق إلا دين يهدي، وعقل يستهدي قوم كان دليلهم الدين، وقانونهم هدى سيد المرسلين، وشعارهم شعار المساكين، وعيشهم عيش الزاهدين، ثم كانت فتوحهم فتوح الملوك الجبارين، وكانوا سادة العالمين؛ لم يمنعهم زهدهم من أن يكونوا أبطال الحروب وسادة الدنيا، ولم يفتنهم ما نالوا من مجد، وما بلغوا من جاه، عن دينهم وتقواهم

قوم ينصب لهم أميرهم قاضياً، فيلبث سنة لا يختصم إليه اثنان! ولم يكونوا ليختصمو وبين أيديهم القرآن، وكل واحد منهم يعرف ما يحق له، فلا يطلب أكثر منه، ويعرف ما يجب عليه فلا يقصر في القيام به، ويحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، ويسعى ليسلم الناس من لسانه ويده: إذا مرض المسلم عاده المسلمون، وإذا افتقر أعانوه، وإذا أحسن شكروه، وإذا ظُلُم نصروه، وإذا ظَلَم ردعوه، دينهم نصيحة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ففيم يختصمون؟

أما إنهم لا يختصمون إلا على مكرمة وإحسان، ولقد كان عمر يتعاهد عجوزاً عمياء، في بعض حواشي المدينة، فكان يجيئها سحراً، فيجد امرأً قد سبقه إليها فبرها وأحسن اليها، واستسقى لها وأصلح من أمرها، فيعجب منه ويزيد في البكور، فلا يسبقهُ فرصده مرة من أول الليل، حتى جاء فإذا هو. . . . . أبو بكر الصديق، وهو يومئذ خليفة

أو بكر وعمر يستبقان إلى بر عجوز عمياء، في بعض حواشي المدينة. . . الله أكبرّ عقمت أم التاريخ أن تلد مثل هذا التاريخ الذي يأتي بسيد الأمة، في ثوب خادم الأمة، حتى يفتش في الليل عن عجوز عمياء، أو رجل مقعد، أو أسرة محتاجة، أو مظلوم ضعيف، أو ظالم عاتٍ - ليخدم العجوز، ويحمل المقعد، ويساعد المحتاج، وينصر المظلوم، ويأخذ على يد الظالم، لا يبتغي على ذلك جزاء ولا شكوراً، لأنه يعمل لله، ولا يرجو الثوب من غير الله. . .

الله أكبرّ ضل قوم زعموا أن الإسلام إنما أنتشر بالسيف، لا والله! إنما انتشر بمثل هذه الأخلاق السماوية، إنما فتح المسلمون ثلاثة أرباع العالم المتمدن، بهذا الإيمان الذي ملأ قلوبهم، وهذا النور الذي اشرق على نفوسهم، وهذه القوة التي عادت بها عليهم عقيدة التوحيد.

علموا أن الله هو الفعال لما يريد، وانه المتصرف في جميع الأكوان، وأن كل شيء بقضاء منه وقدر، وأنهم إن غُيِّب عنهم القدر، وخفي عليهم علمه، فقد أنزل عليهم القرآن، ووضح لهم سبيله فاتبعوه القرآن، ووقفوا عن أمره ونهيه، فكتبوا في سجل القدر من السعداء

والمؤمن الذي يعلم أن الله هو الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأنه لا يجير عليه من نبي ولا رسول، ولا يشفع عنده ألا بأذنه، وليس بينه وبين العبد واسطة ولا نسب، ويعلم أن الله ينصر من ينصره، وأنه لا يضع أجر من أحسن عملاً، لا يسأل إلا الله، ولا يستعين إلا بالله، ولا يبالي بشيء إذا كان مع الله، ولا يطمع في جوار أحد إذا كان جاراً الله، ولا يحفل بالدنيا وما فيها إذا باع نفيه من الله راضياً مختاراً، بأن له الجنة. . . .

كانت هذه العقيدة أصل كل خير ناله المسلمون الأولون، وكان وهنها في النفوس اصل كل شر نال المسلمين المتأخرين الذين أفسدوا عقيدة التوحيد بما شرعوا لأنفسهم من البدع والعقائد، فتفرقوا أيدي سبا، وذلوا في أرضهم، وهوجموا في عقر دارهم، وحفظ المسلمون الأولون على هذه العقيدة صفاءها وجمالها. ففتحوا ما فتحوا، وكان فتحهم أعجوبة التاريخ، يقف أمامها العقل خاشعاً للعظمة والجلال، حائراً للغموض والخفاء.

أمة بدوية على غاية ما تكون عليه الأمم البادية من الخلاف والجهل، لا دين يوحد قبائلها ويهذب من نفوسها، ولا جامعة تجمعها، ولا حكومة تدير أمورها، اللهم إلا حكومة في العراق تخضع لملوك العجم، وحكومة في الشام تطيع ملوك الروم وتلبث على ذلك عصوراً. . . . ثم تنهض نهضة الأسد، تحمل في يمناها نور القرآن، تضيء به للشعوب طريق المجد في الدنيا، والسعادة في الآخرة. وفي يسراها السيف تردُّ به الضالين المعاندين، المصرّين على الضلال، إلى سبيل الحق والهدى

ويبدو فيها سر الإسلام بيّناً جلياً، فإذا هذا التفرق وهذه الجاهلية، أخوة في الإسلام، وتمسك بالفضائل، وإذا هذا الضعف قوة لا تعدلها قوة، وإذا هذه الحمية الجاهلية تواضع لله، ورضا بأحكامه، ونزول عند أوامره ونواهيه، وإذا بدوي من بني وهيب يكون بسر الإسلام - قائداً من أعظم قواد الدنيا - يهدُّ أقوى صرح للظلم، ويدك أكبر بنيان للجور على وجه الأرض، ويغرس في (القادسية) مكان الجبروت الفارسي بذور الحضارة الإسلامية التي نمت وازدهرت حتى أظلت الدنيا

وإذا بدوي قاسٍ غليظ من بني عدي يكون بسر الإسلام عظيماً من عظماء التاريخ، يبرز في العلم والسياسية والبلاغة، ويكون له القدح المعلى، في فنون الفكر، وفنون الحرب، وفنون القول، ويسوس وحده الجزيرة وسورية والعراق ومصر وإفريقية فلا يعرف التاريخ أعدلَ ولا أقوم ولا أفضل منه - حاشا رسول الله ﷺ وصاحبه في الغار

وإذا تاجر من تجار مكة يكون بسر الإسلام، أعظم العظماء، بعد الأنبياء هذه أعجوبة التاريخ، وهذا هو الفتح الأعظم!

أجل! إن الفتح الإسلامي لهو الفتح الأعظم، الذي لم يعرف التاريخ فتحاً مثله. وكثيرٌ هم الفاتحون، الذين فتحوا بلاداً واسعة بسيوفهم، وأخضعوها بجندهم، وحكموها بقوتهم وسطوتهم، ولكن ليس فيهم مثل المسلمين، الذي فتحوا البلاد بإيمانهم، وفتحوا القلوب بعد لهم، وفتحوا العقول بعلمهم، فكانوا أصحاب السلطان، وكانوا دعاة الإيمان، وكانوا بُناة المجد والحضارة والعمران

طبقوا في القرن السابع قواعد الحرب الإنسانية - التي علمت بها أوربة في القرن التاسع عشر وسعت إلى تطبيقها في القرن العشرين، فلما لم تفلح وغلبت طباعها الذئبية على إنسانيتها المصطنعة، اكتفت منها بتسطيرها في كتب الحقوق الدولية واخذ المجددون من الشرقيين. . . . . ببريقها ولمعانها!

لقد فتحنا ثلاثة أرباع العالم المتمدن، ولكنا كنا نحمل العلم والهدى، والعدل والغنى، إلى البلاد التي نفتحها، وكنا لا نعمد إلى الحرب إلا إذا اختار أعداؤنا الحرب، وأبوا أن يلبوا داعي الله - ثم لا نخون ولا نغدر، ولا نغل ولا نمثل، ولا نقتل رسولاً ولا نهدم منزلاً، ولا ننازل عُزلاً، ولا نهيج معتزلاً، ولا نمس عابداً متبتلاً.

ثم إذا صالحنا أعداؤنا، ودخلوا في ذمتنا، حميناهم مما نحمي منه أولادنا وأهلينا، وإذا أسلموا كانوا إخواننا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لا يفرق بين المسلمين عرق ولا لغة، ولا جاه ولا نسب، ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى

فأين هذه الفتوح من فتوح الاستعمار التي أثارتها أوربا؟ فتحنا البلاد فتركنا أهلها أحراراً في دينهم ومعابدهم، أحراراً في قضائهم ونظمهم، أحراراً في أموالهم وأولادهم، فملكنا بالعدل قلوب الناس وأسعدناهم بالعلم، وبسطنا عليهم ظلال الأمن، ونشرنا فوقهم لواء الحضارة، حتى لقد صار أهل البلاد يستصرخون المسلمين على حكوماتهم، ويبذلون لهم عونهم على ملوكهم لا بغضاً لملوكهم ولا عداء لأوطانهم، ولكن حباً في العدل، ورغبة في السلام، وشوقاً إلى العلم والحضارة والعمران

فتحنا الحيرة فأهدى أهلها طائعين مختارين هدية إلى أبي بكر فقلبها وعدها من الجزية عدلاً منه وتعففاً، وخشية أن يظلم أهل ذمته، أو أن يكلفهم شططاً، وتفتحون البلاد فَتَبْتزون أموالها ابتزازاً، وتمتصون دماءها امتصاصاً، وتمدون أيديكم إلى كل خير فيها

هكذا كانت فتوحنا وهذه فتوحكم:

مَلكْناَ فكانَ العْدَلُ مِنَّا سَجِيَّةً ... فلمَّا مَلَكْتُمْ سَالَ بالدَّمِ أَبْطَحُ

وَحَلَّلْتُمُ قَتْلَ الأسُارى وَطالَما ... غَدَوْنَا عَلَى الأَسْرى نَمُنُّ وَنَصفَح

فَحَسْبُكُم هذَا التَّفَاوُتُ بَيْنَنَا ... فَكُلُّ إِنَاءٍ بالَّذِيِ فِيهِ يَنْضَحُ

ولم يظهر سر الإسلام في الفتوح، وفي الخلفاء والأمراء فقط، بل لقد ظهر في المسلمين جميعاً، فجعل من نفوس النساء والعجائز والأطفال مناراً يهتدي به الناس، ومثلاً أعلى للنفوس الكبيرة، حتى أن أبا بكر ليقسم مالاً بين النساء، ويبعث إلى عجوز من بني النجار بقسمها من هذا المال، مع زيد بن ثابت فتقول:

- ما هذا؟ - فيقول: مال قسمه أبو بكر بين النساء

- فتقول: أترشونني عن ديني - فيقول: لا

- فتقول: أتخافون أن أدع ما أنا عليه؟ - فيقول: لا

- فتقول: والله لا آخذ منه شيئاً

لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لم تسلم رغبة ولا رهبة، ولكنها أسلمت لله، فهي تبتغي ما عند الله

لا تأخذ منه شيئاً، لأنها لا تحب أن يدخل بينها وبين ربها فيشغلها عن الإخلاص لدينها، ويطمعها المال في المال، فتزيد في العبادة، وتبالغ في التدين، فتكون كأنما تعبدت للمال، وعقيدة التوحيد، التي استقرت في نفس هذه العجوز، كما استقرت في كبار الصحابة وعلمائهم، تدفعها إلى أن تعمل لله وحده، وتسأل الله وحده، وتؤمن بالله وحده

وتجتمع فئة من المسلين معارضة تريد أن تستأثر بالحكم، لأنها ترى لها فيه حقاً، ولا تقبل في ذلك هوادة، ثم يأتيها ثلاثة رجال من الفئة التي تعارضها، وتجتمع لتناوئها، فترجع عما اعتزمته بكلمة واحدة تبصر فيها ضياء الحق

قال عمر للأنصار يوم السقيفة:

- ألستم تعلمون أن رسول الله ﷺ قدم أبا بكر للصلاة؟

- قالوا بلى

- قال: فآيكم تطيب نفسه أن يتقدم من قدمه رسول الله ﷺ؟ - قالوا: لا أحد!

- ثم قاموا يبتدرون البيعة

فأين هذا من منازعات الأحزاب على الحكم في الدولة الراقية في القرن العشرين؟ وأين ديمقراطية أوربة ودعواها الخلاص من الحكم الفردي من ديمقراطية المسلمين الأولين؟

أما إن استبداد لويس الرابع عشر، هو استبداد روبسبير، وهو هو استبداد هلتر، لم تنج أوربة من الاستبداد في الحكم يوماً واحداً، ولم يحقق النظام البرلماني شيئاً من أمانيها الديمقراطية ومبادئها البراقة التي تخدع بها الأطفال الكبار من الشرقيين

أما نظام الحكم في الإسلام، فهو النظام الديمقراطي الصحيح، الذي لا يجعل من أمير المؤمنين أكثر من منفذ للقانون الإلهي الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو أبعد شيء عن النظام الملكي الوراثي. وكان المسلمون الأولون يفهمون هذا النظام أصح فهم وأجودّه، وكأن العامل من عمالهم يعلم أنه إنما يسأل عن عمله بين يدي الله، وإنما يقوم به لمصلحة المسلمين لا لرضاء أمير المؤمنين، وقد يبالغون في ذلك حتى أن مُعاذ بن أيمن يقدم المدينة بعد وفاة رسول الله ﷺ، فيقول له أبو بكر: ارفع حسابك. فيقول: أحسابان: حساب من الله وحساب منكم؟ والله لا ألي لكم عملاً أبداً

ويطلب أمير المؤمنين عثمان من خازنه مالاً، فيأباه عليه.

فيقول: (إنما أنت خازن لنا، إذا أعطيناك فخذ، وإذا سكتنا عنك فاسكت)

فيقول الخازن لأمير المؤمنين: (ما أنا لك بخازن، ولا لأهل بيتك، إنما أنا خازن المسلمين: ثم يجيء يوم الجمعة وأمير المؤمنين يخطب فيقول (أيها الناس: زعم عثمان أني خازن له ولأهل بيته، وإنما كنت خازناً للمسلمين، وهذه مفاتيح بيت مالكم) ويرمي بها. . .

هذا هو تاريخ المعجزة التي جاء بها سيد العالمين محمد رسول الله ﷺ، وهذا هو تاريخ الإنسانية الكاملة، تاريخ المسلمين الأولين، خلاصة البشرية. فطالعوه يا شبان المسلمين، وتدارسوه، واسعوا لتكتبوا هذا التاريخ مرة ثانية على صفحة الحياة. . . وتقولوا للعالم بأفعالكم لا بأقوالكم: نحن أبناء أولئك الآباء. . . .

على طنطاوي