مجلة الرسالة/العدد 82/أحمد المتنبي
→ بين القاهرة وطوس | مجلة الرسالة - العدد 82 أحمد المتنبي [[مؤلف:|]] |
فانك مصري ← |
بتاريخ: 28 - 01 - 1935 |
للشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي
1
أحمدٌ كان مثل بحرٍ رحيب ... موجه فوق لُجِّه كالكثيبِ
شغلَ الناسَ منذ كانَ بشعرٍ ... قاله معجِزاً لكل أديبِ
إنْ يكن أحمدٌ تنبّأَ في القو ... م فما إن عليه من تثريبِ
فلقد كان الشعرُ يُوحى إليه ... سُوَرَاً للاصلاحِ والتهذيبِ
إنما معجزاته في معاني ... هـ وفي لفظه وفي الأسلوبِ
كم له من معنىً تراه قريباً ... وهو في نفسِ الأمرِ غير قريبِ
ومن اللفظ ما يكاد من الرق ... ة يجري إلى صميمِ القلوبِ
2
أحمدٌ كان شاعراً وحكيما ... وبأسرار النفس كان عليما
أحمدٌ لا يفنى وإن كان في قب ... رٍ عَفَتْه الأيام عَظْماً رميما
أحمدٌ كان في الزعامة للشع ... ر وفي العلمِ بالحياةِ عظيما
قد أراد الحُسَّادُ للحُرِّ هضما ... فأبى الحُرُّ أن يكون هضيما
جعل الشعر كالنهار مضيئاً ... بعد ان كان الشعرُ ليلاً بهيما
وكأن الديوان في جمعه ما ... قاله كان للنجوم سديماً
قتلوا الشاعرَ العظيم اغتيالا ... وفشا قتله فكان أليماً
3
أيها الشاعر الحفىّ القدير ... باسمك اليوم يهتف الجمهور
أكبر الفضل ما تقّدره الأجيا ... ل من بعد أهله والدهور
إنما قد أصاب شاكلةَ الأمـ ... ة لما أصابك المقدور
ذُمَّ دنيا غرّارة ليس تخلو ... من رزايا يسوء فيها المصير
أفجعُ الحادثات في الغرب والشر ... ق على النابه الأديب تدور قاءل الشعر قد يبور مصاباً ... بُلِمٍّ وشعره لا يبور
حبذا الشعر آتياً من شعور ... إنما يلمس الشعورَ الشعور
4
يا قتيل الآداب إنك باق ... وستحيا في أنفسِ العشّاق
كل بيتٍ قد قلته فيك ارثى ... آهةٌ لي جاءت من الأعماقِ
حَرَم القاتلوك أمتهم من ... كِلمٍ ملء الدهر والآفاق
ولقد صارعتَ الخطوبَ إلى أن ... أطفأتْ منك كوكباً ذا ائتلاق
شاعر العقل، شاعر المجد والفخ ... ر الأثيلين، شاعر الأخلاق
والذي آمنتْ ببعثته النا ... س على خِلفةٍ من الأذواق
جاءت الخيل وهي تنحط إعيا ... ء وراء المحجَّل السبّاق
5
إنما أنت للقريب الجديد ... مثلما أنت للقديم البعيد
لستُ ممن يَقْلُون كل قديم ... غير أني أحبَ كل جديد
أنت في الدولتين كنتَ رسولا ... ذا كتاب تدعو إلى التوحيد
ولقد صاغوا الشعرَ قبلك من لف ... ظٍ ووزنٍ وصُغته من حديد
واحدٌ أنت من عباقرةٍ ما ... توا على الأرض غيلةً للخلود
أنت من جني القريض عليهم ... قَتِلَ الشعرُ كم له شهيد!
كنتَ حيناً كالليث يزأر للبط ... ش وحيناً كالبلبل الغِرِّيد
6
أنت بالشعر إذ هززتَ الشعوبا ... كنت تُرضي النُهى وتُرضي القلوبا
حِكَمٌ للذي أراد صوابا ... ونسيبٌ لمن أراد النسيبا
تلك نارٌ إذا خَبَت فهي تُبقي ... من جديد للمصطلين لهيبا
يتعب الدهرُ في التخِّيرِ حتى ... يهبُ الناسَ شاعراً أو أديبا
قد دعاك العُلا فسرتَ إليه ... ودعوتَ العُلا فكان مجيبا إنه وحده الحبيب الذي قد ... كنتَ منه وكان منك قريبا
ولئن كنتَ للغبيّ بغيضا ... فلقد كنتَ للذكيّ حبيبا
7
أنت فردٌ يا أحمدُ المتنبي ... في قريضٍ نظمته، إي وربّي!
ما دعوتَ القوافي الغُرّ إلا ... وهي عند الدعاء جاءت تلبّي
كثر الناقدو قريضك بالبا ... طل ستراً لصدقه بالِكْذبِ
رُبَّ بنت للشعر قد وأدوها ... في ربيع الصبا على غيرِ ذنبِ
غير أن الأيام قد ضربتهم ... بعد حرب تأججت أيّ ضربِ
شاعرُ أنت للعروبة جمعا_ء ... برغم الحُسّاد في كل حقبِ
ولقد قالوا ما لأحمدّ قبرٌ ... كذبوا، إن قبر أحمد قلبي
8
لك في الشعر عزّةٌ قعساء ... عَجَزَتْ عن بلوغها الشعراء
إنهم ضلوا في ظلام الليالي ... وهدتك المجرّة البيضاء
إنما قالة القريض كثير ... وقليلٌ من بينها النبغاء
بين من راضوا الشعر أو قرضوه ... ليس إلا لاسم الزعيم البقاء
القريض الشريف ممن أهانو ... هـ بما أسندوا إليه بَراء
ليس من حظ العبقريّ إذا بَرْ ... رَزَ إلا العِداء والبغضاء
ليس بالشعر ما خلا من شعورٍ ... وإن احلولى لفظه والبناء
9
فاق شعرٌ به نطقتَ مبينا ... غُررَ الأولين والآخرينا
كان يحكي اليراعُ منك حساماَ ... كلما احتل من يديك اليمينا
كنت تسطو فيه فَيُبدي زئيراً ... ثم تشكو به فيُبدي أنينا
ضحكوا غِرَّةً فأسبلَت دمعا ... كنتَ تبكي به على الضاحكينا
ضمّ ديوانك الذي هو فِرَدو ... سٌ من الشعر البِكر حوراً عينا إنني كلما له جئت أتلو ... أقرأ الحُسْنَ والهدى واليقينا
ولقد أبصرُ الكماةَ أمامي ... وأرى قسطلاً فأُغضي العيونا
10
كان ليلٌ يدجو كان صباحُ ... تتغذّى بضوئه الأرواح
أنت في بحر كنتَ تسبح والبا ... قون في حوض ماؤه ضحضاح
بك ليلُ القريض بعد ظلام ... لاح للعين صبحه الوضّاح
ثم زاد المقصرون صناعا ... تٍ إليها الأديب لا يرتاح
ثم كان الغواة فيه فريقي ... ن لكلٍّ عتادُه والسلاح
ففريقٌ مٌقلدٌ لسواه ... وفريقٌ أباح ما لا يُباح
ثم شّبتْ بين الفريقين حربُ ... كثرت في الغِمار منها الجِراح
11
واحدٌ أنت من ملوك المعاني ... ما له في سلطانه من ثان
شاعر العقل والعواطف في النف ... س وما في قرارها من أماني
لا يدانيك ناقدُ قد تحدّى ... إنه هادمٌ وأنت الباني
ما لهم في البلاغة اليوم أرضٌ ... ولك المشرقان والمغربان
أنت ما كنت ترسل الشعرَ إلا ... بعد نضج في العقل أو في الجنان
بعد ألفٍ من السنين تقضّى ... أكبرتْكَ الأقوامُ في مهرجان
تعتري السامعي قريضك منهم ... هزةٌ في الأرواح والأبدان
12
إنما جاءت الوفودُ ترامى ... لتحييك ركُعاً وقياما
إنهم يُكبِرونَ منك زعيما ... اقعد الناسَ شعرُه وأقاما
أنهم لبّوا دعوةَ الشَعبِ لما ... قدموا أفواجاً فكانوا كراما
لك يا أحمدٌ الإمامة في المو ... ت كما كنتَ في الحياة إماما
حبذا أبياتٌ بها كنت تشدو ... فَجَرَت أمثالاً تزين الكلاما سكت البلبلُ الذي كان يشدو ... كلَ صبحٍ فيوقظ النواما
محسنُ للتجديد أحمدُ في البد ... ء فَمَنْ ذا سيحسن الأتماما؟
(بغداد)
جميل صدقي الزهاوي