مجلة الرسالة/العدد 819/تعقيبات
→ وفاء وحنان. . . | مجلة الرسالة - العدد 819 تعقيبات [[مؤلف:|]] |
الأدب والفنّ في أسبُوع ← |
بتاريخ: 14 - 03 - 1949 |
للأستاذ أنور المعداوي
أدعياء الأدب في الصحافة اليومية:
يأخذ على بعض القراء هذا العنف الذي ألقى به الحياة الأدبية فيما أكتب من تعقيبات؛ والواقع أنني لا ألجأ إلى هذا الاتجاه حباً فيه ولا ميلاً إليه، ولكن الحياة الأدبية هي التي تدفعني دفعاً إلى أن أسلك هذا الطريق وترغمني إرغاماً على أن أسير فيه! وما ذنبي إذا كنت أقع على أشياء تجافي الحق والذوق، وتصدم الخيال والواقع، وتخالف منطق الحياة والأحياء؟! وما ذنبي إذا مددت عيني إلى صحيفة من الصحف أو مجلة من المجلات فرأيت ناقداً يكتب في غير مجاله، أو أديباً يطمس الحقائق بسخف خياله، أو شاعراً يفرض شعره على الناس وهو محروم من نعمة الشعور؟!. . .
يا من تأخذون على العنف في معالجة القضايا الأدبية، تعالوا واقرءوا معي هذه الكلمات؛ إنها من مقال كتبه في (المصري) الأستاذ عبد الرحمن الخميسي تحت عنوان (لعنة القلم). . اقرءوها معي لتعلموا إلى أي حد تثيرني بعض الأقلام حين تتناول مشكلات الأدب والفن هذا التناول الذي يبعث على الضحك والعجب والإشفاق! يقول الأستاذ الخميسي:
(ألم تبدل موسيقى فاجنر الألماني اتجاه الحياة في ألمانيا تبديلاً عظيماً؟ إن فاجنر الفرد الواحد، الذي تغلغلت موسيقاه في نفوس الألمان والذي طبعت أنغامه بوحشيتها وقوتها روح الشعب الألماني، والذي حفزت ألحانه الناس إلى الاستعلاء وإلى التحليق، هذا الفرد الواحد كان يكتب بقلمه موسيقاه حروفاً صماء على الورق، ثم يشعل بهذه الحروف حين يعزفها الأوركسترا أرواح الملايين ويبهرها، ويجلوها، ويرتفع بها إلى عليين!. . كانت موسيقى فاجنر الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة الشاعر الفيلسوف أروع قصائده وأبسل أغانيه، وكانت هي الأفق المجيد الذي استلهمه فاجنر صورة الإنسان الأعلى. وهكذا ترى أن موسيقى فاجنر هي التي فتقت أكمام العبقرية في نيتشة، وهي التي مهدت الطريق للمذهب النازي. . الخ)!
بجرة قلم فتقت موسيقى فاجنر أكمام العبقرية في نيتشة. . . من أين جاء الكاتب بهذا الرأي الذي يذوب خجلاً أمام الحقيقة؟ لا أدري ولا المنجم يدري كما يقول المازني! يبدو أن موجة الإعجاب بسحر هذا التعبير (فتقت أكمام العبقرية) هي التي طغت برنينها العذب على جوهر الواقع فشوهته في غفلة من أعين الرقباء!
إن المثقفين في كل مكان يعلمون أن موسيقى فاجنر قد لقيت من قلم نيتشة أعنف وأبشع ما لقيته موسيقى فنان من قلم فيلسوف!. من يصدق أن فاجنر قد فتق أكمام العبقرية في نيتشة، نيتشة الذي رمى موسيقاه بكل نقيصة، وأذاق فنه من ألوان الهدم والسخرية ما أذاق، ورفع في وجهه معول التدمير يهوي به في ضربات قاسية لا تعرف ليناً ولا هوادة؟!
فاجنر في رأي نيتشة مثال فذ للشخصية المنحلة، وموسيقى فاجنر في ذوق نيتشة نموذج صادق للموسيقى المريضة، وفن فاجنر في ميزان نيتشة همجية تختلط فيها الشعوذة بالجنون!. . إن فاجنر كما يقول نيتشة: (لا يستطيع أن يهز بموسيقاه إلا أعصاب النساء، وهكذا تفعل الموسيقى المريضة! إن فنه يستند إلى دعائم زائفة لا يمكن أن يرضى عنها إلا كل منهوك القوى منحل الشخصية محطم الأعصاب. . إن الفيلسوف الرابض بين جوانحي ليثور على كل ما هو مريض ومنحل! إن القدرة على خلق فن منحط أهون بكثير من القدرة على خلق فن رفيع؛ ومن هنا استطاع فاجنر إن يرضي الأذواق الفاسدة، الأذواق (الفاجنرية) المنحرفة!. . إن هذا العصر الذي نعيش فيه ليدين بشروره وآثامه إلى شخصية فاجنر، هذا المتلف الهدام)!
هذه هي الموسيقى التي قال فيها نيتشة ما قال، وقال عنها عبد الرحمن الخميسي إنها كانت الأفق المجيد الذي استنزل منه نيتشة أروع قصائده وأبسل أغانيه!. . . إنني أنصح قراء (الرسالة) إن يصدقوا نيتشة، أما قراء (المصري) فلا بأس من أن يصدقوا عبد الرحمن الخميسي إذا قال لهم إن موسيقى فاجنر هي التي خلقت عقلية هتلر وفون مولتكه وبسمارك. . . وفريدريك الأكبر!!
ترجمة تحتاج إلى تصحيح:
تحدث الدكتور عبد الرحمن بدوي في عدد (شباط) من مجلة الأديب اللبنانية عن مسرحية الأيدي القذرة للكاتب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر. . ولقد استوقفني ما جاء بمقاله من ترجمة خاطئة لبعض كلمات رأيت أن أصححها، حتى لا تبعد الشقة بين أصلها في الفرنسية وبين ما يقابلها في العربية: ترجم الدكتور بدوي هذه الكلمات وهي عنوان مسرحية لسارتر (بالعاهر المهيبة)؛ وهنا يبدو شيء من الانحراف في الترجمة لا يستقيم معه المعنى سواء أكان منسوباً إلى عنوان المسرحية أم كان منسوباً إلى الفكرة التي بنيت عليها!. . . إن المهابة كما يدل عليها موضوع المسرحية وكلمة لا تنسب إلى (العاهر) وإنما تنسب إلى المحيطين بها عشاق الجسد، أولئك الذين كانت ترحب بهم وتحتفي بمقدمهم؛ وإذن تكون الترجمة الصحيحة هي (العاهر الحفية). أما (العاهر المهيبة) فلا يقابلها في الفرنسية غي هذه الكلمات:
وترجم الدكتور بدوي عنوان مسرحية أخرى لسارتر ترجمة خاطئة أيضاً وهي مسرحية حيث قابلها بكلمة (القرف) مع أن ترجمتها الدقيقة هي (الغثيان). . والفارق بين الترجمتين بعيد!
أما قوله بان (الأيدي القذرة) هي خير ما أنتج سارتر إحكام صنعة فنية وبراعة حوار وإبداع تسلسل، فلا أجد في الرد عليه خيراً من رأي الدكتور طه حسين بك في هذه المسرحية، وهي أنها أقل أعمال سارتر الأدبية توفيقاً في مجال العمل الفني الذي يقوم عليه بناء التمثيلية الحديثة، وهو رأي جهر به الدكتور طه - كما قال لي - في وجه مديرة المسرح الفرنسي الذي مثلت عليه مسرحية سارتر، يوم أن سعت إليه السيدة تسأله عن رأيه في (الأيدي القذرة). . ومما هو جدير بالذكر أن المحيطين بالدكتور قد حاولوا في شيء من اللباقة أن يخففوا من وقع رأيه على شعور السيدة الفرنسية، ولكن صراحته المعهودة أبت إلا أن تؤكد للمرة الثانية ما سبق أن أفضي به، وهو أن هذه المسرحية عمل فني يعوزه التوفيق!
بين طه حسين وتوفيق الحكيم:
لم يسعدني الحظ بالاستماع للمحاضرة القيمة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك عن (قصة أوديب في الآداب المختلفة)، والتي تناول فيها بالنقد والتحليل بعض الأعمال الفنية التي أعقبت أوديب سوفوكل. . ولقد حدث أن خرج بعض المستمعين لمحاضرة الدكتور وقد وقع في ضنهم أن الأستاذ توفيق الحكيم قد ناله رشاش من التهكم حين جاء ذكر مسرحيته في سياق الحديث! هذا ما فهمته من بعض الذين لقيتهم عقب المحاضرة ومما أورده صديقي الأستاذ عباس خضر حين عرض لها في الأسبوع الماضي بالتلخيص والتعقيب.
ومن العجيب أنه قد وقع في الظن أيضاً أن علاقات الود والصداقة بين الدكتور والأستاذ الحكيم تجتاز مرحلة من الفتور، ليس أدل عليها من هذا الذي قيل وتعرض فيه صاحب (أوديب الملك) لشيء من السخرية!
أود أن أؤكد هنا أن كل ما تبادر إلى الأذهان من ظنون لا يستند إلى دعامة واحدة من دعائم الحقيقة، فعلاقات الود والصداقة لا تزال تربط بين الرجلين بأقوى رباط. . وإذا كان الدكتور طه قد لجأ في حديثه إلى شيء من العنف أو إلى شيء من القسوة، فمرجع ذلك إلى صراحته المعهودة التي لا تجامل صديقاً على حساب القيم الفنية والموازين النقدية، وتلك ناحية أكدها لي الدكتور حين فاتحته في هذا الأمر منذ أيام. ومما يؤيد هذا القول تلك القصة الطريفة التي أتيت على ذكرها في الكلمة السابقة، والتي تمثل بوضوح صراحته السافرة عندما سألته مديرة المسرح الفرنسي عن رأيه في مسرحية (الأيدي القذرة) ولا أظن أن أحداً يستطيع أن يتهم الدكتور طه بأنه كان يسخر من فن سارتر أو يتهكم عليه. . وإذا كان الأستاذ الحكيم قد تعرض في ثنايا المحاضرة لشيء من العنف فقد تعرض فولتير لهذه العبارة القاسية، وهي أنه في تناوله لقصة سوفوكل قد أمعن في سخف لا يطاق!
لا أدري لم يعد الناس هنا قسوة النقد تهكماً وصراحة الناقد سخرية، ولم يميلون في مثل تلك المواقف إلى الظن بأن بين الناقد والمنقود أسباباً من الجفاء يفسرها الوهم بالتحامل ويردها الخيال إلى محاولة النيل من الأقدار؟! ألا يجدر بنا أن ننظر إلى الأمور من خلال منظار آخر يهيئ لنا رؤية الحقائق في جولا يكتنفه هذا الضباب؟ إنني أود أن تتحقق هذه الأمنية في يوم من الأيام!
درس آخر في أدب القصة:
يبدو أنني لن أفرغ من هذه الدروس التي تلقى علي من حين إلى آخر في أدب القصة؛ فبعد أن عقب أحد الأدباء على ما كتبت حول مسابقة المصور للقصة القصيرة، وبعد أن رددت عليه بكلمات أعتقد أنها وضعت كل شيء في مكانه، بعد هذا كله هب (أستاذ) آخر ليمدني بنصائحه ويزودني بمعلوماته وهو الأستاذ نصري عطا الله!
إنني أرحب بأن أكون (تلميذاً) مخلصاً على شرط أن يكون (أساتذتي) على شيء من العمق والإحاطة. . . وأشهد أنني لا أضيق بالتوجيه والإرشاد ولو صدر من أديب لم أسمع به من قبل على شرط أن يكون في توجيهه وإرشاده ما يهديني إلى أشياء تدق على فهمي المتواضع؛ ولكن الذي أضيق به، هو أن يتحدث الأستاذ عطا الله عن فن القصة القصيرة بهذه اللهجة التي تذكرني بخالدي الذكر (تين وسانت بيف وأرنولد)، ثم لا أخرج من كلمته بشيء يمكن أن يدفع بي إلى الصف الأول من صفوف تلاميذه!
ينكر الأستاذ عطا الله أن مجال العمل الفني في القصة القصيرة مجال محدود، فهل يأذن لي بأن أقدم إليه هذا التعقيب الطريف الذي أدلى به الأستاذ توفيق الحكيم في حديث دار بينه وبيني يوم أن قطعت بهذا الرأي؟ لقد قال الأستاذ الحكيم: (أنا معك في أن العمل الفني في القصة القصيرة لا يمكن أن يقاس إلى نظيره في القصة الطويلة، إلا إذا أمكن أن يقاس سباق القطط إلى سباق الخيل؟!
ومن العجيب أن الأستاذ عطا الله يحرم على القارئ الشرقي أن يحكم على شخصيتي موباسان وتشيكوف لأن ما نقل من أدبهما إلى العربية أقل من القليل، ومع ذلك فقد أباح لنفسه أن يتحدث عن موباسان وتشيكوف بلهجة تذكرني أيضاً بخالد الذكر بندتوكروتشه. . ألم أقل لك إن ما يباح للأساتذة يحرم على التلاميذ؟!
هذا هو كل ما يستحق التعقيب في مقال الأستاذ عطا الله. . . ومعذرة يا (أستاذي) فقد علمت من آخر صفحة في عدد (الرسالة) الماضي أنك قد فزت بجائزة من جوائز الدرجة الثانية في مباراة القصة القصيرة التي أقامتها وزارة المعارف؛ ومعنى هذا أن هيئة التحكيم التي لم تقدر فنك كانت أجدر مني بهذا الدرس القيم في أدب القصة!
أين العلوم في الرسالة؟:
يسألني الأديب الفاضل الأستاذ عبد المنعم العزيزي في رسالة بعث بها إليَّ عن مكان العلوم في (الرسالة) مع أنها تحمل هذا الشعار: (مجلة أسبوعية للآداب والعلوم والفنون). . . ثم يعقب على سؤاله بقوله إن المهتمين بالبحوث العلمية يجب أن يخصص لهم في (الرسالة) بعض الصفحات، أسوة بعشاق النقد والقصة والفلسفة والسياسة والاجتماع ممن تقدم إليهم مجلتنا الرفيعة من أسبوع إلى آخر فنوناً من هذه المعارف المختلفة. . . ثم يقول في ختام كلمته إنه يود أن تستجيب (الرسالة) لهذا الرجاء حتى تكتمل لها رسالتها المثلى في خدمة الأدب والعلم والفن، وبخاصة في هذه الأيام التي يقوم فيها العلم بأخطر أدواره في توجيه حياة البشر ورسم الطريق أمام مستقبل الإنسانية!
الواقع أنه لو كان الأمر بيدي لاستجبت لرجاء الأديب الفاضل لأنني أوافقه على هذه الآراء الناضجة. . . وكم كنت أود أن يكون لي في رحاب العلم قطرة من فيض العالم الجليل الأستاذ نقولا الحداد، إذاً لكفيته مؤونة السؤال والرجاء، ولعلَّ الأستاذ الحداد يحقق يوماً هذه الأمنية، فيعطر صفحات (الرسالة) بغزير علمه، بعد أن عطرها بوخز (المخلوقات الخبيثة) بسنان قلمه!
أنور المعداوي