مجلة الرسالة/العدد 815/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 815 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 14 - 02 - 1949 |
البجعة
للكاتبة الإنكليزية بامبلا. هـ. جونسون
في اللحظة التي شاهدت فيها الطفلة ولاحظت هزالها وهى واقفة بجوار النافذة المستديرة، ويداها تعبثان بعنق التمثال الخزفي للبجعة البيضاء، أيقنت أنها ستصير حتماً من الجميلات عندما يكتمل نموها. ولم تكن قد شعرت بوجودي، فوقفت ساكناً بجوار باب الغرفة أتأملها في إمعان.
كانت سنها - على ما أعتقد - تتراوح بين الحادية عشرة وكانت - إذا عن لي أن أحكم عليها - أكثر شبهاً بوالدتها جلاديس من صورة أبيها توم، تلك الصورة التي شاهدتها معلقة في المطبخ. ولاحظت أن أطرافها نامية نمواً ملحوظاً، وعينيها واسعتان بالنسبة إلى وجهها، ترتدي مئزراً قديم الطراز أبيض اللون قصير الأكمام، يتحلى بزركشة وزخارف من (الدانتيلا) على حافته. وكان نظيفاً على خلاف ردائها الداخلي الداكن الذي كان يبدوا قديماً رثاً.
كانت الطفلة تحرك أصابعها بحنان على صدر البجعة وجناحيها. وبدت كأنها معجبة بذلك التمثال المصقول، فكانت تتأمله وكأنها خبيرة بفنه وجماله. وكان شعرها مشدوداً خلف جبهتها الصغيرة البارزة، وقد انعقد بشريط أبيض. ولعلي أحدثت حركة بسيطة، فقد التفتت الطفلة ناحيتي ونظرت إلي، ثم فارقتها في الحال روح الطمأنينة، ودفعت بالبجعة خلف ستار، ثم جعلت تمسح يديها في مئزرها - وكان في بياض الثلج - فتترك فيه أثراً خفيفاً من قذارة يديها. وبدت أسنانها من بين شفتيها وتراجعت كما لو أنها ستختفي كما (أليس) خلال المرآة.
ولم أتفوه بكلمة وأنا أتأمل ذلك الجمال المنتظر. حقاً، لقد كانت أكثر شبهاً بجلاديس من توم. كانت تشبه جلاديس التي كنت أعهدها منذ زمن بعيد، لا تلك التي أعرفها الآن. ولم تصرف الطفلة عينيها عن وجهي، في الوقت الذي كانت فيه تتحسس الحائط خلفها، وتتحرك في تلصص بجواره وقد تصلب ظهرها. فقلت (تعالى. لا تذهبي) فشهقت شهقة قصيرة من الرعب، ولكني تقدمت إليها وقبضت على معصميها، وانحنت في ذات الوقت حتى صار وجهي في مستوى وجهها، وقلت (لا تهربي إني عمك (فيل)). وحاولت أن تبتسم في أدب ثم ارتجفت عضلة على ركن فمها بعد أن تلاشت ابتسامتها.
سألتها في رقة (لماذا تخافينني؟ إني أعرف والدتك منذ زمن طويل. وها قد مضت عشرون عاماً دون أن أراها. أليست تلك مدة بعيدة؟ لقد أخبرتني أن أحضر هنا لأشاهدك) وأضفت قائلاً حتى أجعلها تشعر بالسعادة (لأشاهد أي فتاة كبيرة لها).
وأومأت الفتاة برأسها في ضمت تشير إلى البجعة. فقلت (تمثال جميل، أيعجبك؟) فابتسمت.
قلت (ما اسمك؟) فلم تجب. قلت (أنت (آسي)) فهزت رأسها بالنفي في شدة وخوف ظاهر. وعجبت، ما الذي فعلته جلاديس حتى جعلت هذه الطفلة مرهفة الأعصاب تهاب الغرباء؟ وشاهدت جلاديس من خلال النافذة، واقفة عند مدخل الخباز، تسارع في شراء كعك للشاي، فقد كانت زيارتي لها فجائية، ولم يكن عندها ما تقدمه إلى، ولذلك قالت لي (ألا تستطيع أن تسلي نفسك مدة عشر دقائق يا فيل؟ يجب أن أستحضر العشاء لتوم. وإذا حضرت آسي قبل عودتي فعرفها بنفسك).
وقلت للطفلة (متى قدمت؟ لقد أخبرتني والدتك أنك ذهبت إلى الخليج).
فابتسمت كأنما سرت لقدومها إلى الدار على غير انتظار. فجأة أمسكت البجعة ودفعتها في يدي، ثم قالت (جميلة!) فوافقتها على ذلك. تذكرت رؤيتي لهذا التمثال منذ عشرين عاماً في الدار جلاديس القائم على قمة الجرف. وكانت البجعة قطعة أثرية نفيسة من الخزف.
ووضعت الطفلة يديها على كتفي، فركعت، وإذا بها تجلس على ركبتي، وهى تبتسم في وجهي، وكأنما توطدت الصلات بيننا. وأخبرتها بوجه الشبه بينها وبين والدتها، وحدثتها عن جمال أمها. وقلت أتعرفين أننا اعتدنا - أنا ووالدتك أن نذهب إلى الخليج، وقد حملنا معنا أدوات الشاي انقضي بقية يومنا هناك؟ وكنت أسبح حيث تقوم تلك الصخور الثلاثة في صف واحد، وأدعي بأني في يوم ما سأسبح وأسبح ولن أعود بتاتاً. ثم أختبئ في ذلك الكهف الصغير الواقع تحت الجرف مباشرة وأناديها مثل. . .) وبحثت عن كلمة لطيفة فقلت (مثل النورس)
وصفقت الفتاة، ثم عقدت يديها كما لو أنها تذكرت تحذيراً بألا تفض أصابعها مطلقاً.
وانتظرت متابعتي الحديث فقلت (ثم أسبح راجعاً فتعنفني، ثم ننفجر ضاحكين. . . كان ذلك منذ زمن بعيد).
فسألتني وهي ترفع إصبعها في حذر لتلمس قمة رأسي (وأين كنت؟) فاعتقدت أنها تعني (أين كنت هذه المدة؟) فأجبت (كنت في الخارج).
فبدت كأنها تفقه ما قلته. وكنت قد وضعت البجعة على الأرض بجواري فشعرت بها تنزلق عن ركبتي متجهة الوجه ثم عادتِ تجلس معي وانتظرت أن أفضى إليها ببقية الحديث، فقلت (إني لم أقابل والدك بعد، مع إني شاهدت صورته) فعبست فقلت (ولكني - سأقابله الليلة عندما يعود من عمله).
ووضعت الطفلة ذراعها حول عنقي، فشعرت بسرور عظيم يخالجني، وإذا بي أسألها (أية هدية تودين أن أبعث بها إليك؟) فابتسمت. فأردفت قائلاً (سأشتري لك واحدة مثلها من لندن، وسأبعث بها إليك في طرد مسجل ومدون باسم الآنسة آسي أون) فحركت رأسها في عنف، ثم أخفت وجهها بين يديها، وبعد لحظات نظرت إلي، وقد استعادت هدوءها السابق، ثم جذبت الشريط المعقود من شعرها، فانسدل بلونه الأشقر كلون الصباح على رمل الشاطئ الندي.
وسألت الطفلة (أتميلين إلي؟) فلمست خدي. ولاحت لي جلاديس مرة أخرى، تتحدث إلى جار لها خارج البوابة، وشاهدتها الطفلة فقفزت من ركبتي، وبدت كأنها خجلة أو خائفة. ثم اختطفت الشريط من يدي، وجمعت شعرها وعقصته، ثم ربطته، بالشريط ربطة غير متقنة في لهفة وكأنها تتوق إلى الرحيل. فسألتها إلى أين تذهبين؟).
وأشارت إلى جلاديس من خلال النافذة، ففتحتها وسألتها ما الأمر، فقالت (لقد نسيت المفتاح. أرجو أن تفتح لي الباب).
وعندما التفت حولي، وكانت الفتاة قد اختفت، فظننت أنها أسرعت إلى المطبخ تنتظر قدوم والدتها أو صعدت لتغسل يديها استعدادا للشاي، فقد لاحظت أنهما قذرتان وبهما خدوش كأنها حدثت أثناء محاولتها تسلق الصخور الزلقة التي حول الخليج وأحسست الخيبة، فقد كنت أود أن تراني جلاديس معها، فربما حدثتني بلهجة أقل خشونة من حديثها السابق، عندما ترى الوفاق الذي توطد بيني وبين الفتاة.
وفتحت الباب فدلفت منه جلاديس مجهدة وقالت (إني آسفة لتغيبي هذه المدة الطويلة يا فيل. إن هذا هو الضرر الذي يأتي من معرفة الناس للإنسان في الطرق، ولابد أن تقف وتحي عند كل ناصية).
وذهبنا إلى المطبخ وجعلنا أساعدها في فض حاجاتها وسمعتها تقول لي (كيف استطعت أن تجلس هنا وحدك؟). فقلت ضاحكاً: (لم أكن هنا وحدي. إن آسي كانت معي) فلم تفه بكلمة، فنظرت إليها فشاهدت في دهشة أن وجهها قد تقنع بقناع من الحيرة، فقلت (ما الأمر!؟) قالت (لا يمكن أن تكون شاهدت آسي. أنني قابلتها في طريقي وهى مقبلة من الشاطئ، وقد أرسلتها إلى محل لويز لتقص شعرها، وستحضر وقت تقديم الشاي).
وأحسست بشعور خفي من الرهبة يغزو قلبي، فقلت (ولكن، لا يمكن أن يحدث ذلك، لقد كانت تتحدث معي هنا، وكانت تجلس على ركبتي فقالت (ما شكلها؟) فجعلت أصف لها الطفلة بشعرها المعقود بالشريط، وردائها البني، ومئزرها الأبيض وقلت (وكانت تلعب بالتمثال الخزفي للبجعة البيضاء الموضوع على النافذة).
وهبت جلاديس واقفة، وقد تصلب جسمها، ثم صرخت صرخة مخيفة، وأمسكت بها قبل أن تخر ساقطة، وأجلستها على المقعد. وعندما فتحت عينيها نظرت حولها في ذهول ورعب ثم قالت (أغلق الباب والنافذة) وازداد شعوري بالخوف وخيل إلى بأن ظلاماً حالكاً قد خيم على جو الغرفة، لم أعهده فيها من قبل.
وقالت جلاديس (لقد رأيت مارجريت) واعتدلت في مقعدها وقد اتكأت على مرفقها تراقب الباب المغلق. وألححت عليها أن تفسر لي ما غمض من حديثها، وتخبرني به دون إبطاء، فقد كنت أود أن يطغى صوتها على أي صوت أتوقع حدوثه كوقع أقدام تسير في تؤدة وتردد على الدرج، واحتكاك يد صغيرة تستند على الباب، ولكنها ل تفه بكلمة. وبدافع قوي، تركتها وهى تبكي وتتوسل أن أظل معها، وذهبت إلى الغرفة الأمامية، وأزحت ستائر النافذة. كانت البجعة لا تزال في موضعها ولكني لاحظت فيها شيئاً لم ألاحظه من قبل. كان العنق يتصل ببقية الجسم بمسمار فضي لامع. واستمعت في سكون الغرفة إلى دقات قلبي، وأغمضت عيني وأنا أسير في الممر عائداً إلى المطبخ وجعلت أتحسس طريق بأطراف أصابعي دون أن أدرك ما الذي ألمسه. كانت جلاديس ما تزال متكئة على مرفقها، وقد بدت في عينيها دلائل الرعب والخوف. فقلت (من هي مرجريت؟) قالت (أنها ابنتك. أنت بعد فراقك الفجائي مباشرة. كانت طفلة جميلة. وكانت تعيش معنا - أنا ووالدتي - دون أن يعرف أحد عنها شيئاً، ولم نكن نسمح لها بالخروج فيما عدا الحديقة بعد الغسق. كان من الصعب أن نهدئ من حالها، فقد كانت دائمة اللهو والمرح، دائبة على اللعب والغناء. وكانت معجبة بالبجعة البيضاء وتحب أن تلهو بها، فتنهاها جدتها عن ذلك، لأن التمثال كان تحفة ثمينة. ولكن حدث في ذات يوم أن أسقطت البجعة فانفصلت رأسها. أظنك قد لاحظت المسمار المثبت في عنقها).
وكنت أعرف انه لم يكن هناك مسمار عندما كانت الطفلة تداعب بأناملها الجميلة جسم البجعة المصقول.
واستطردت تقول (كانت والدتي ذات مزاج حاد، وكان من الصعب عليها أن تساعدني في ولادة ابنتي التي لا يعرف الناس عن والدها شيئاً، بل كانت تشعر بالعار من ذلك. ولم يكن يزور دارنا القائمة على الجرف هناك سوى اللبان وبائع الصحف. وعندما رأت والدتي البجعة المكسورة، انحنت على الطفلة، وقبل أن أمنعها، كانت قد لطمتها لطمة قوية على أذنها. ولم تكن والدتي في الواقع تعني أن تؤذيها، بل أرادت أن تلقنها درساً في الطاعة. وعدت مرجريت صاعدة إلى الطابق العلوي وهى تبكي وتنتحب، وشعرت بألم وارتباك من كل ما حدث فقد كنت مغرمة بالطفلة، حقيقة كنت احبها حباً شديداً. وفي تلك الليلة خرجت مر جريت من نافذة غرفتها وهربت ولا أدري كيف استطاعت النزول من ذلك الارتفاع، فقد كان من الصعب على طفلة مثلها أن تهبط على تلك النباتات المتسلقة الرفيعة.
وكدت أجن. ولم أجرأ على الحث عنها بحثاً دقيقاً خشية ألسنة الناس. على آية حال، مكثت طوال الليل هائمة عند الجرف. وفي الصباح عثرت على قطعة بيضاء من القماش ملتصقة على قمة إحدى الصخور الثلاثة، فنزلت ولا أدري كيف، فإني كما تعرف أخاف دائماً المرتفعات. كانت قطعة من مئزرها قد انحشرت بين نتوءين. فاستنتجت ما حدث. ومكثنا أسابيع ننتظر دون أن نجرؤ على التحدث، ولم نستطع النوم ليل نهار. وأخيراً وجدوا جثتها. كان قد لفظها البحر وقد ألقاها على الشاطئ على بعد أميال من هنا، في مكان لا أعتقد أننا ذهبنا إليه يوماً ما. ولم يتبينوا شخصية الجثة، فإنه لم يبق منها شيء عندما. . .) وفجأة أمسكت بمعصمي وقالت: (ألا تسمع؟).
وكدت أموت رعباً وأنا أقول (ماذا؟). قالت (توم. أنه قادم. لا تخبره بشيء. قل إني مريضة. قل إنه أغمى علي. قل أي شيء. . .).
وسمعته وهو يفتح الباب. فقلت لها في سرعة (ولماذا احتفظت بالبجعة؟)
فنظرت إلي كأنها لا تعي ما أقول. ثم قالت (إنها تحفة قيمة. لقد كانت والدتي تقول أنها ثمينة) وجعلت عيناها تتطلعان إلى السقف والحوائط والأركان، كأنها لا تدري من أي فضاء في العالم قد يعود شيء إليها، شيء كان عزيزاً عليها، ثم فقدته إلى الأبد.
محمد فتحي عبد الوهاب