مجلة الرسالة/العدد 814/من آفات هذه المدينة
→ قروية فيلسوفة | مجلة الرسالة - العدد 814 من آفات هذه المدينة [[مؤلف:|]] |
قصة ← |
بتاريخ: 07 - 02 - 1949 |
لصاحب العزة الدكتور عبد الوهاب عزام بك
نحن اليوم في مدنية عجيبة لم يعرفها تاريخ العالم من قبل. هي مدنية تسيطر عليها الآلات الدائرة والسائرة في البر والبحر والجو، وقد اهتدت هذه المدنية إلى كشف أسرار الطبيعة فطوت المسافات وجمعت أطراف العالم. فاليوم يستمع المستمع في القاهرة - مثلا - إلى متحدث أو مغن في أقصى الأرض، وأمريكا أو أستراليا كما يستمع إلى جليسه. ويكلم من هو في أبعد البلاد كما يكلم القريب منه الذي يبصره ويسمعه.
وكل هذه الأعاجيب من الآلات السائرة والطائرة والجهازات الناقلة الأصوات الملغية المسافات - كل هذه يسخرها الإنسان لمقاصده، ولكنها هي كذلك تسخر الإنسان وتذهب بكثير من سعادته وسلامته وسكونه وراحته. وإن ترك أمرها فوضى عاش الإنسان بها شقياً. لا أتحدث في تسخير هذه الآلات للحرب والقتل وما إليهما؛ ولا اذكر ما لقيه العالم من شرها وضرها وفظاعتها وأهوالها، ولكن أقصد إلى أمر واحد أقصر عليه الحديث وهو أمر يبدو يسيراً، أو يخفي خطره وأثره، وهو عند التفكير عظيم وخطير، أعني راحة الإنسان وسكونه في ضوضاء هذه المدينة التي لا تفرق بين بعيد وقريب، ولا تميز بين نهار وليل. الإنسان في شقاء ظاهر وخفي من هذه المدينة، مسلوب أحب الأمور إليه وألزمها له: الراحة والسكون والدعة والطمأنينة، والحرية في تصريف وقته، والاختيار في ترتيب أعماله على الأوقات.
أحسب أن كثيراً مما يصيب الناس في أجسامهم وأنفسهم من علل، وكثيراً مما يقع في أقوالهم وأفعالهم من زلل، يرجع إلى هذا الداء الدخيل - إلى قلق الإنسان وتعبه واضطرابه في ضوضاء هذه المدنية شاعراً أو غير شاعر.
وقد حدثني أحد الأطباء أن أمراضاً كانت نادرة في العصور الماضية فشت اليوم بين الناس بالجهد الجسماني والنفساني الذي تكلفهم به المعيشة في العصر الحاضر.
والناس في هذا الأمر يختلف حظهم من التعب والنكد على اختلاف نفوسهم وثقافتهم وأعمالهم، فمنهم من ينطلق في هذه الضوضاء صائحاً مصفقاً مسروراً لا يقدر أثرها في نفسه وجنايتها عليه. ومنهم من يسأم ويبرم ويشقى قليلا، ومنهم منهو أكثر نصيباً الشقاء وهو رجل الفكر، فهو يشقي بها على قدر احتياجه إلى الهدوء والسكون ليعمل ويفكر ثم يستريح من عناء العمل والفكر.
ولعل شر ما يبتلي به الإنسان في راحته وسكونه هذه المجاهر (الميكرونات) التي تضاعف هذه الضوضاء كأن الإنسان لم يكفه ما يحيط من جلبة وصخب فهو يزيدهما أضعافاً بالمجاهر ليعيش في أفظع من الضوضاء الطبيعية وهو منها في شر مستطير.
وهذه المذيعات المسلطة على خلق الله بالليل والنهار، تحرمهم القرار، وتمنعهم السكون؛ هي إحدى آفات هذه المدينة ومن أضرها بالإنسان - إن لم يحسن الإنسان تدبيرها - هذا المذياع آلة عجيبة خطيرة تسمع كل ما في العالم من أصوات، وتأخذ منها ما شاءت أو ما شاء صاحبها ففي سلطانها كل الأصوات المذاعة في العالم فتمثل إنساناً جاهلاً أحمق يعطي هذه القوة، ويمكن من هذه المعجزة، يستطيع متى شاء أن يسلط على جيرانه ما يشاء من أصوات العالم مجهوراً بها مدوية، وهذه آلة يسيرة وسيزيدها العلم والصنع يسراً ورخصاً فكل عاقل وأحمق وعالم وجاهل وغني وفقير يستطيع أن يسيطر على الناس بهذه الآلة فيحرمهم الدعة والقرار، وينغص مضاجعهم بالليل والنهار، ويصير بلاء مسلطاً لا حيلة فيه ولا مفر منه ولا قدرة عليه.
تمثل إنسان هذا العصر، هذا المخلوق البائس الذي يعيش في المدن - تمثله في النهار يسير في خطر الترامات والسيارات وما إليها، وقد صبت على رأسه أصوات المنبهات والمخدرات والزامرات والصافرات على اختلاف الأصوات والنغمات، فهو يمشي في خطر أن يداس بهذا السيل المستمر من العجلات وبينه إلى هذا الخطر أن نفع التنبيه بهذه المنبهات المفزعة التي تغلو في رفع الصوت لتسمع السابلة وسط هذه الضوضاء الفظيعة وتتنافس في رفع الصوت ليمتاز صوت كل واحدة من الأخرى والإنسان المسكين يخطو مرة ويقف أخرى وينظر أمامه حيناً وحيناً وراءه وعن يمينه وشماله.
إن هذا البلاء عظيم يحتمله الناس بما اعتادوه وألفوه، وبما استكانوا له واستسلموا وصبروا عليه يأساً من الابتعاد عنه والخروج منه.
وهذا الإنسان البائس يرجع إلى داره مكدوداً - ولا أقول يرجع إلى مسكنه فليس هنا سكون - والدور في المدن متزاحمة متلاصقة ذات طبقات كثيرة فيسلط عليه تاجر من أهل الحي مثلاً مجهراً يعلن به عن بضاعته.
وأشهد لقد سمعت أكثر من مرة إعلان تاجر عن سلعه بمجهر، يسخر قارئاً يقرأ القرآن حيناً، ثم منادياً ينادي في الناس بما عنده من جبن وزبد وزيتون وغيرها.
وقد سألت أين هذا البلاء المبين فقيل بعيد جداً، فقلت هذا ما يصيب البعيدين منه فكيف بالقريبين! تساءلت أليس في البلد قانون؟ أليس لقوانينها سلطان؟ ألا يشعر الناس بما هم فيه من شقاء؟ ألا يعربون عن شعورهم؟ ألا يثورون على هذا العذاب المسلط ويعملوا على الخلاص منه؟
وقد أدخل التجار من حيث لا يشعر الناس بدعة هذه المجاهر في الحفلات ولا سيما في المآتم فترى جمعاً في سرادق يسمعه ويتعداه صوت متكلم أو مطرب؛ ولكن البدعة التي استحكمت سريعاً باتخاذ المجهر فيسلط هذا البلاء على الداني والقاصي من خلق الله، وربما يستعمر ساعات متوالية فلا يستطيع الإنسان أن يستريح أو ينام أو يقرأ أو يكتب، فأي شر أكبر من هذا؟
وقد سمعت مرة صوتاً فظيعاً يسمع على بعد أميال فنظرت فإذا جماعة قد وسمعتهم حجرة واحدة وقد وضعوا مجهراً خارج الحجرة وأرادوا أن يتصدقوا على الناس بإشراكهم فيما يسمعون، والصدقة خير ما كان أعم وأشمل فليرفع هذا المجهر ما وسعه الجهر والتبليغ، وأما من يضيق بهذا الصوت فلا وزن له عند الله ولا عند الناس؛ إن ضاق بصوت القرآن فلا دين له، وإن ضاق بالغناء فلا شعور له.
وسمعت مرة صوتاً عالياً مدوياً في شارع من شوارع القاهرة التجارية المزدحمة وفهمت مما سمعت حفلة لعيد ميلاد طفلة، والخطباء يتبارون في التهنئة وعرفت أن أبا الطفلة لم يولد منذ سنين. ولهذا كان الاحتفال وتبارى الخطباء. هذا يسمعه السابلة في شارع من الشوارع المكتظة التي لها من ضوضائها ما يغنيها عن كل ضوضاء.
ثم تمثل هذا الرجل المكدود الذي تتناوبه أصوات السابلة في الطريق يأوي إلى داره يلتمس الراحة ليلاً - ودع راحة النهار - فإذا جيرانه قد فرغوا من أعمالهم ومن طعامهم وجلسوا إلى المذياع وتنافسوا في الجهر بما يذاع، إما رغبة في الصوت الرفيع، وأما إعجاباً بالغناء أو القصة، وإما تصدقا على الجيران المحرومين من هذه النعمة، فيرسلون أصواتاً تسمع على أميال وقد يكون المستمع واحداً أو أثنين أو فئة قليلة، ومحطة الإذاعة أصلحها الله تعين هؤلاء السفهاء على إقلاق الناس وإزعاجهم وتكدير صفوهم وتنغيص عيشهم، والحيلولة بينهم وبين ما يريدون من استراحة أو عمل بما تمد هؤلاء السفهاء به من أغان وأقوال يرغب فيها الجهلة ويرغب فيها العلماء ويحبها السفهاء ويكرهها الحكماء. ثم تمد لهم الإذاعة في صحبتهم بإذاعة حفلة غناء تدوم ساعات أو نقل قصة تمثيل إلى ما بعد منتصف الليل بساعة أو أكثر أي إلى ما قبل الفجر بساعتين في الصيف.
ولو أن القائمين على الإذاعة فكروا فيما يصيب الناس من هذه الإذاعة لأقلوا منها وجعلوا لها حداً لا تتجاوزه.
ما حاجة الناس إلى إذاعات بعد منتصف الليل؟ بل ما حاجتهم إلى إذاعة بعد العاشرة؟ ألا يفكر القوام على الإذاعة في سوء تصرف الناس بهذه الآلات التي صار أكثر من نفعها، وألمها يربو على لذتها؟ ينبغي أن تعرف أخلاق جمهورنا وعاداتهم حين توضع برامج الإذاعة.
ثم لماذا لا يستعمل الإذاعة في تعليم الناس حسن الاستعمال وحسن الاستماع؟ لماذا لا يذاع على الناس كل أسبوع تحذير من الجهر بالإذاعة وإيذاء الناس بها، ويعرف الناس بالترغيب والترهيب ما يجب عليهم لينتفعوا بما يسمعون أو يلهوا بما يذاع عليهم في غير إخلال براحة الناس، ولا جناية على من لا يريد أن يستمع ومن أحوج إلى إمضاء وقته بالتفكير والعمل أو الراحة.
ثم أين قوانين الحكومات لتحمي الناس من هذا الشر الذي يزداد كل يوم ذيوعاً وإيذاء وإضراراً، أين وزارة الشئون الاجتماعية لتفكر في هذا الأمر وتروي فيه وتصف له دواؤه بالنصيحة أو بالعقاب.
إن الأمر خطير كل الخطورة، وأثره في معيشتنا وفي أحوالنا النفسية بعيد، فليتعاون الناس على درء هذا الشر الذي لا يحسبونه هيناً وهو عند الله عظيم. . .
عبد الوهاب عزام