مجلة الرسالة/العدد 814/قروية فيلسوفة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 814 قروية فيلسوفة [[مؤلف:|]] |
من آفات هذه المدينة ← |
بتاريخ: 07 - 02 - 1949 |
- 2 -
قالت أم عامر - والمعنى لها واللفظ لي -: نشأت كما تنشأ القرويات الفقيرات، على التلول كالدجاج وأنا طفلة، وبين الحقول كالذئاب وأنا صبية. آكل الجشب وأستمرئه، وأشرب الكدر وأستسيغه، وألبس الخشن وأستلينه، وأفترش المدر وأستوطئه، وأعالج الصعب وأستسهله، والذي أحلى المر في فمي، وجمل القبيح في عيني، وألان الغليظ لجانبي، صحة كصحة الظبي الشادن لم تجنح يوماً لراحة ولم تحتج أبداً إلى دواء؛ ومرانه على عنف الطبيعة لا تفرق طاقتها بين صبح ومساء ولا بين صيف وشتاء؛ ونفس راضية تقنع بميسور العيش وتخضع لمكتوب القضاء، فأنا أشارك أمي في عمل البيت ولا تستثن غير الكانون، وأعاون أبي في شغل الغيط ولا تستثن غير المحراث، وفي الفترات القصيرة القليلة بين عمل وعمل، يجدونني في الحارات أمرح أو في القنوات أصيد. . .
أذكر أني كنت ذات يوم جالسة على حافة الجدول المنساب أتغدى أنا وأختي الصغيرة على خوان من النجيل، رأيت ابنة الباشا مالك الأرض وسيد الناس مقبلة، يقدمها كلبها الذئبي الضخم، ويتبعها خادمها النوبي النحيل، وفي يدها شص تطويه على قصبته وتنشره. وابنة الباشا صبية لا تجاوز العاشرة، فهي في مثل سني، تقيم طول عامها في المدرسة بالقاهرة فلا تلم بالريف إلا أياماً في أوائل الخريف. . . أقبلت حتى وقفت بازائي وحيت ثم ألقت شصها في الماء وجعلت تنظر إليه وتنظر إلي. . . فدعوتها إلى الطعام على عادتنا، فشكرت واعتذرت ثم قالت وهي تبتسم:
أتأكلين الحشيش كالبهائم؟
فقلت لها: ليس هذا حشيشاً، وإنما هو بقلة من أحرار البقول نسميها السريس؛ وأنا آكله ليخفف من ملوحة المش ويكسر من حرارة البصل.
فقالت وهي تمط شفتيها الرقيقتين: ولكن اللحم خير منه فقلت لها: نعم خير منه؛ ولكن موسمه لم يحن بعد، فنظرت إلي نظرة المتعجب المهتم وقالت: موسمه! وهل للحم موسم؟
فأجبتها: نعم إن للحم مواسم خمسة لا نأكله إلا فيها: نصف شعبان، وأول رمضان، والعيد الصغير، والعيد الكبير، وليلة عاشوراء. فقالت: وماذا تأكلون بقية العام؟ فقلت: نأكل الحبوب والبقول واللبن الرائب والجبن الأريش والمش المعتق. . . فبدت على قسماتها الجميلة مخايل الشك في قولي، وهمت تقول شيئاً لولا أن رأت غماز الشص يغطس ويعوم فشغلت به، وجذبت الشص من الماء، فإذا به يعلق بشبارة في حجم كفها الصغيرة، فاستطارها الفرح، وهزها النجاح، وأخرجت الشص من فم السمكة المضطربة وناولتها الخادم، وأرادت أن تطعمه فلم تجد طعماً فسألتني: من أين يأتون بالثعابين الصغيرة؟ فقلت لها وقد فهمت أنها تريد تلك الديدان الطويلة الحمر التي تعيش في الطين: أنا آتيك ببعضها، ثم حفرت بجانب القناة وأخرجت لها من باطن الحفرة قطعة من الطين وأريتها كيف يجول في أحشائها الدود، فابتهجت لذلك ابتهاجاً شديداً. ومن ذلك اليوم وصلني بها سبب من الأنس والعطف، فكانت كلما زارت القرية افتقدتني وطلبتني، فيرسلني إليها أهلي فخورين مسرورين، فألقاها في حديقة القصر، أو ساحة الجرن، فنعدو على مخضوضر النبات، أو نرتجح على فروع الشجر، أو نصطاد على حواف الماء، أو نستبق على ظهور الحمر، أو نتهادى على مماشي الحقول، وقدرتي على كل أولئك فوق قدرتها، وكلمتي أعلى من كلمتها؛ فأنا أشأوها في العدو، وأمهرها في الارتجاح، وأكثرها في الصيد، وأسبقها في الرهان، وأحملها في اجتياز المواحل، وآخذ بيدها في تخطي الحفر، وهي ترى ذلك كله فتعجب وتقول:
كيف تستطيعين ما لا أستطيع وأنت لا تطعمين اللحم، ولا تأكلين الفاكهة، ولا تذوقين الشكولاته؟
فأقول لها: إن الله يعطينا القوة لأنه خلقنا للعمل، ويعطيكم الثروة لأنه خلقكم للإنفاق!
وترعرعت سيدتي (جيهان) وشبت، فانقطعت عن حياة المدرسة واتصلت بحياة القرية، فكنت عندها في منزلة بين الصديقة والخادمة؛ أقضي معها آخر النهار في حديقتها، أو أول الليل في غرفتها، أطرفها بأخبار القرية، وأطربها بأغاني الريف، وأنا أراها كل يوم تفتر وتضعف وتذوي، وهي تراني كل ليلة أنشط وأقوى وأنتعش، فيشتد عجبها، وتزداد حيرتها، وتحاول أن تعرف الأسباب التي جعلتني قوية على الفاقة والحرمان والكد، وجعلتها ضعيفة على الغنى والسرف والرفاهة، فمن هذه المحاولات أنها طلبت مني أن آتيها خفية بوجبة من المش والبصل والسريس وخبز الذرة، ولم يكن في الأرض سريس يومئذ، فاستبدلت به الجلوين وجئت بما طلبت، وكانت تنتظرني وحدها في كشك الحديقة فلما وضعت بين يديها ما حملت نظرت إليه نظر الهائب، وأقبلت عليه إقبال المضطر، واقتطعت من الرغيف لقمة وغمستها في المش ووضعتها في فمها، فلم تكد تذوقها حتى كرشت من وجهها، وخاوصت من عينيها، كما تفعل الفتاة الساذجة إذا أكرهها الطبيب على جرعة من الكنياك، ثم تحاملت على نفسها فساغت من الطعام بضع لقيمات، ثم تقززت عنه وقالت في اشمئزاز وتكره:
كيف تعيشون على هذا وإن مذاق بعضه لأليم وإن مذاق بعضه لتافه؟
فقلت لها: يا سيدتي، لقد أتيتك بطعامي ولم آتك بشهوتي، ولو أتيتك بشهوتي لاحتجت أيضاً معدتي.
واعتلت صحة الآنسة جيهان من سأم الراحة ومعاناة الترف، فقلبوها بين المصايف والمشاتي، ونقلوها بين الجبال والأبحر، وعرضوها على مصر وطب أوربا، حتى شبا وجهها ونضر عودها، وثاب إليها جسمها، فزوجوها من أحد الباشوات القارونيين فلم تجد عنده أكثر مما وجدت عند أبيها. نعم، وجدت لذتين لم تجدهما من قبل: متعة الزوج وفرحة الولد؛ ولكنهما لذتان شائعتان بين الإنسان والحيوان تجدها كل زوجة تحب وكل والدة تلد. وهاهي ذي قد بلغت الغاية في الثراء الضخم والجاه العريض، أبوها باشا وأخوها باشا وزوجها باشا وأبنها باشا، وكل أولئك لم يعصمها من السكر والروماتيزم والكباد والسمن والرهل والأرق، فلا تأكل إلا أقل الأكل، ولا تنام إلا أيسر النوم، ولا تتحرك إلا أثقل الحركة. وها أنا تي لا أنفك على الحال التي كنت عليها: أبي فقير وزوجي ضرير وابني الأول خفير وابني الثاني أجير. ومع ذلك لا أزال شابة على رغم السنين، قوية على رغم العمل، صحيحة على رغم النصب، سعيدة على رغم الفقر، أدير أسرتي ككل سيدة، وأصيب لذتي ككل حرة، وأرضي قسمتي ككل مسلمة، وما أظن سيدتي جيهان تكره أن أكون أنا في ثروتها وأن تكون هي في صحتي، أليس كذلك يا سيدي؟
فقلت لها وأنا معجب بمنطقها وبيانها: بلى كذلك يا أم عامر! وإن لله في ذلك حكمة، إن صحة الفقراء تعويض من ثروة الأغنياء، وإن السعادة من عند الله يمنحها من يشاء ويمنعها من يشاء! أحمد حسن الزيات