الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 813/الأدب الشعبي في الكويت

مجلة الرسالة/العدد 813/الأدب الشعبي في الكويت

مجلة الرسالة - العدد 813
الأدب الشعبي في الكويت
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 01 - 1949


للأستاذ أحمد طه السنوسي

إن إمارة الكويت بحكم بيئتها ونشأتها وتكوينها قد خلقت لها أدباً شعبياً مشبعاً بظروف تلك النشأة والبيئة والتكوين، فهي تقع بين بصرة العراق في الشمال والغرب، والمملكة العربية السعودية في الجنوب بعد توسط من المنطقة المحايدة، والخليج العربي (الفارسي سابقاً) في الشرق؛ وهي إمارة حديثة التكوين تاريخها لا يتجاوز الثلاثة قرون، وقد كان أكثر أهلها من القبائل النجدية والأحسائية، وبذلك نرى أن مرتعها عربي قح، كما نرى أن النجدية والأحسائية كان لها أكبر الأثر في أدبها الشعبي، فبدا قوياً صريحاً فيه الإلهام الصحراوي وفيه الصلابة البدوية وفيه شئ من الجفاف، ولكن الصحراء كثيرا ما أضفت عليه الجمال البارع وأمدته بروحها البريئة في غمرات عذبة حنون. وقد طرق الأدب الشعبي الكويتي جميع أغراض الشعر فأجاد فيها وأبدع، ولكنه لم يبلغ في ذلك شأوا بعيداً؛ لأن الكويتيين لا يولونه كثيراً من العناية والتدليل، إذ أن شعراءهم الكبار بأدبهم وأشعارهم الفصحى قد طغوا بها بعض الشيء على ذلك الأدب الشعبي المسكين.

بيد أن هناك ممن أستهوى الأدب الشعبي أفئدتهم وحفزهم على تشجيعه، فقامت في سبيله مدرسة أبن فرج وأبن فوزان، وامتازت تلك المدرسة بإلهام عذب وخيال خصب ومعان سامية ووشى جذاب، وبعد ذلك ولجت الكويت باب التطور والارتقاء وكانت على بابه منذ قليل وتطورت فيها الحالة الثقافية والعلمية والأدبية، وكان قمينا بالأدب الشعبي آنذاك أن يثب بنفسه ويطفر الطفرة الملائمة للتطور، ولكن التطور الحديث أضعف شوكة الأدب الشعبي على عكس ما كان متوقعاً.

وأنا أرى أن السبب في ذلك أن النفوس كانت مهيأة لاستقبال التطور استقبالا أنساها كل شيء، كما أميل إلى القول بأن الأدب الشعبي كان في بدايته قوياً صارماً فيه صلابة وجفاف أن أتستثنينا بعضه، ونفسية الشعب الكويتي نفسه ساكنة وديعة تميل إلى خيال الحقيقة لا حقيقة الخيال، كما أن تطور الحالة الأدبية والعلمية لم يكن تطورا كاملا تم في لحظات، بل ما زال إلى اليوم يدلف في دربه اللاحب ليصل إلى الأنوار والأضواء وبذلك وجد التطور هوى في النفوس الكويتية، هوى فيه مقدمات وتمهيدات تدعو للتط والاستطلاع عما يبقى من أضوائه في ثنايا الأفق. هذا وكانت النفوس متعطشة إلى الاستزادة من الثقافة العلم، فوجهت همها لتكملة ما يأتي به التطور ولمساعدة أشعته على النفاذ ولحشد جموع استقباله، فتضاءل الأدب الشعبي وهو ينظر كاسف البال إلى ذلك الأعراض، ولكنه ربما يسره في قرارة نفسه منتظرا ساعة النتيجة السعيدة لحداثة التطور، فتؤوب إليه النفوس وتدفع العلوم الطريفة والفنون الجديدةمريديه لان يحتفلوابه ويهيئوا له الظرف المناسب ليأتي بالثمرة المرجوة منه والتي أتت بعض أكلها حين لاقى الإقبال والابتسام، فكان مهدا لإصلاح النفوس وكان حافزا للهمم وكان دافعا للحماسة وكان موقظا للعزيمة والبسالة كما كان سبيلا للدعاية الصالحة. . .

كان العيد يزهو بدلاله ويرفل في غلائل نخوته، وكان يومه مشرقا مزدهرا، ونظر أحد الفقراء في الكويت إلى مباهجه ومسراته التي حرم منها، ثم أخذ يقول:

وين القماش اللي من الدر جبنا ... الله عليهم وان كلوا من تعبنا

هذي السنة صارت علينا فضائح ... أنتم تبون إفلوس واحنا مفاليس

قل أنتمأهل الجودات وأهل المروة ... مسير شئ حدث فيكم يا ناسي توه

أشوف بالوقت تاخدونا قوه ... يا ما حديتونا بعجر ودبابيس

ونحن إذ نستمع لهذا القول قد نفهمه وقد لا نفهمه وأستطيع أن اشرح بعض المعاني لبعض كلماته على سبيل المثال ليتسنى لنا فهمه والحكم عليه.

فوين: أين، القماش: اللؤلؤ، اللي: الذي، جبنا: أتينا، تبون: تريدون، إفلوس: دراهم، مير: لكن، توه: الآن، حديتونا: سقتونا، والعجر جمع عجر: عصا ملموسة الرأس، والدبابيس جمع دبوس وهو عصا في رأسها قطعة من قار أو حديد ولندع هذا وننظر إلى هذا الشعر الشعبي الذي طالما أحبه الأطفال الكويتيين ورددوه.

يا هل (أهل) الشرق مروا بي على القيصرية (حي كويتي)

عضدوا لي وتلقون الأجر والثواب

واطلبوا دختر (طبيب) العشاق يكشف علي

كود (يمكن) يمسح على جرحي ويبرا صوابي

وقال الشاعر الشعبي الكويتي الكبير (فهد بورسلي): يا طير يلى كلما طار ... زاد العنا والهم فيَّه

من يبتلي بحب البكار (الأبكار) ... ضاجت (ضاقت) عليه ارض وسيعية (واسعة)

وفقت أنا والبال محتار ... يا هل النظر ردوه عليَّه

ما من جريب (قريب) يأخذ الثار ... من ساهي العين السجية

وفهد بورسلي أضعه في مرتبة كبرى من الشعراء الشعبيين في الكويت، ولكن المأخذ الأوحد الذي أخذه عليه هو أن شعره يشوبه قليل من الانحلال في تركيبه، بيد أنه شاعر له من لطف المشاعر وجميل الإشارات وبديع اللفتات وبهيج المعاني ما يقدمه في صفوف الشعراء:

وقال محمد فوزان:

أهلا عدد ما هللوا بالمساجد ... أو عددما ركب سرى يخبط البيد

بكتاب من نظمه سواه القلايد ... ومرصع بالدر يزهي على الغيد

وقال عبد الله الفرج في الغزل:

عزيز لمثلي ما يوني ونينه ... ومسهد بين التجافي والأبعاد

ما يختفي منه غرام بيبنه ... نوحه إذا نام الخليلون يزداد

ويلومك اللي ما بدا بالضغينه ... ولا شفع قلبه من الخود مياد

ولي ملاحظة على أقوال هذين الشاعرين الكبيرين (أبن فرج وأبن فوزان) فكثيرا ما أرى شعرهم محتفظا بالصبغة الفصحى، فتلقى فيه كلمات عربية فصيحة كثيرة لو أنعمت النظر في قراءتها وفي بحثها على حدة ألفيتها ترجع بالفكر إلى كلمات الشعر الجاهلي، إما وقد زار أبن فوزان بعض البلاد الرائعة كلبنان الجميل ووجد الرقة والعذوبة في الألفاظ الشعرية السهلة لا في التضخم الجاهلي، فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع لا في التضخم الجاهلي فسوف يتحول وسوف يضفي بدائع الثقافة الجديدة مع الألفاظ الخمرية على شعره الشعبي الرائع فيزداد حلاوة وعذوبة ويبزغ لنا من جديد مختالا حالما تسرح العقول في سكرات من الحنين حين تتلاعب به لوامع الشفاه.

وقال أحد شعراء الكويت النبطيين:

لا تبتلي ذا الناس في شيل الأثقال ... تبلى بهم مثل الطفل في رضاعة لو طاح منهم طايح ما حد شال ... حمله ولو شول لك الله كراعه

رجل بليا مال ما هو برجال ... لو هو على الشدة طويل ذراعه

وقال أحدهم في الهجاء:

شاقول ياهل الهوى شاقول ... وهذا نصيبي من الخلاني

ومضمرا والشمر منسول ... ليجيت احب النحر غطاني

والحب بفتح الحاء عندهم هو التقبيل، ولعل تلك الكلمة مستعملة في الجو الريفي المصري ونستطيع أن نلمس الجمال والبراعة في الشطر الثاني من البيت الثاني إذ قد طغى جماله فتتزاحم في الفكر أخيلة حالمة تشعر المرء بالانتعاش في قرارة نفسه، كما تشعر تلاوة الشطر الأول من نفس البيت.

أما الرثاء فإن الكويتيين كما عرفتهم لا تحتل الأحزان والأشجان مكانا في قلوبهم، وإن احتلت فالصمت والهدوء ديدنهم. ولقد تعجب إذا مات لأحدهم عزيز فتراه ساكنا لا يفعل ما يفعل سواه في متباين الأقطار العربية. وقد تعجب لدهشته من كثرة عباراتك المواسية ورثائك وتفجعك من هول المصاب؛ لأنه يرى الموت أمراً محتوماً ولا راد لقضائه، فهو فيلسوف هذا الظرف الحزين، وبالرغم من ذلك فقد اخترق الأدب الشعبي الطريق ليبن لنا أن الكويتي وإن كان فيلسوفا ساكنا إلا أن في فؤاده من الحزن دمعا لا يتعدى نطاق القلب وسوبدائه، فأجرجالشعراء دوراشعبية في الرثاء تؤثر في النفس تأثيرا عميقاً، من هذا قول أحدهم:

الله من خطب دهانا بالأبكار ... أدعى القلوب تشب فيها السعاير

يا موت حسبك من تسقيه الأحرار ... كاسات ليعات تفت المراير

وسط اللحود وبين ملتف الأحجار ... في ذمة المولى رهين القباير

ولقد احتل الأدب الشعبي مكانة عظمى من الأغاني والأناشيد الكويتية بأنواعها، وأنا أذكر بيتا من نشيد نبطي هو:

لا بتي (يا أصحابي) حنا شبوب الحرايب (الحروب) ... وأنطقت حنا سنا نارها

كما أذكر أغنية من (أغاني العوازم) وهي نوع من الغناءتطرق إليه الأدب الشعبي الكويتي:

وأمسي الضحى باديا فريح (فريق) مصبح جينا المطوع (أتينا الشيخ) يحدث أمي الأبصار

يقول: طرد (أي طالب) الهوى نارن (نار) شمالي

والله لا اسمع حديثه لو يجنه (يجن)

واتبع هوى البيض في هرجن (الكلام) يقالي

وملاحظتي الأخيرة عن هذا الأدب الشعبي أنه لم يتبذل في القول، ولم يتخذ عامي الكلام سبيلا للنكات الفاحشة ولا أغراض طيبة تجني الكويت من ورائها كل خير وكل فائدة.

وما هو إلا قليل من العناية وقليل من التشجيع ومزيد من الثقافة الجديدة التي أفعمت سماء الكويت وأرضها تضفي على الأدب الشعبي حتى يكون في مصاف الآداب الشعبية. وأنا أرى أن الكويت في حاجة ماسة إليه لتتخذه وسيلة لدعايتها الوطنية، وقد جربت فيه ذلك فوجدت الدرع الفولاذي والفكر العبقري.

ولا يغيب عنا أن اللهجة الكويتية الأثر البين في الأدب الشعبي في الكويت، وسأبحث تلك اللهجة في مقال مقبل بحثاً مستفيضاً، إذ أن قراء العربية في حاجة ماسة لأن يعرفوا الشيء الكثير عن الكويت، وقد ارتقت رقيا باهرا في أوقات قصيرة، بيد أن وهن الدعاية وقلة أساليب التعارف ووسائلها بين أقطار العالم العربي يجول دون إبداء الحقيقة والمعرفة الصحيحة، وما أحوجنا إلى إبدائها ونحن في فترات أحوج ما تكون فيها إلى التآزر والتضامن في جميع عناصر الحياة.

أحمد طه السنوسي