مجلة الرسالة/العدد 813/أبو عمرو بن العلاء
→ النزاع في البلقان | مجلة الرسالة - العدد 813 أبو عمرو بن العلاء [[مؤلف:|]] |
الأدب الشعبي في الكويت ← |
بتاريخ: 31 - 01 - 1949 |
للأستاذ عبد الستار احمد فراج
(لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن
يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء)
يونس بن نجيب
القرجة
ما بال هذا الشيخ العلاء بن عمار وأبنه الفتى أبي عمرو يضربان في إحدى صحاري اليمن مصعدين إليها؟
أما أكبرهما فيجلله الشيب ويغشيه الوقار وتنبئ طلعته عن عراقة النسب وكرم النجار وان كانت تبدو عليه رهبة الخائف وخشية المطلوب.
لكن الفتى أبا عمرو - وقد خنق بضعا وعشرين سنة - تتبين في تقاسيم وجهه محايل النجار ولمحات الذكاء، ويطالعك بالبصيرة النفاذة والفكر اللماح، وتتوسم فيه لهفة التعطش إلى انتهال المعارف وارتشاف العلوم.
وبينما الصمت باسط أجنحته على هذا الفضاء المترامي إلا ما تسمعه من همس أخفاف الإبل وهي تلامس صفحة الرمل المنبسطة، انطلق صوت إعرابي يغذ السير وهو ينشد:
لا تضيقن بالأمور فقد تف ... رج غماؤها بغير احتيال
ربما تكره النفوس من الأم ... ر له فرجة كحل العقال
فاقبل الشيخ وهو يغالب لهفة تملك عليه نفسه يسأله عما وراءه فكان جوابه: مات الحجاج.
لك الحمد يا ربي! نطقت بها أسارير العلاء قبل أن يترطب بها لسانه بين فكية، وأخذت وسامة الارتياح تجلو عن صفحته جهامة الإفزاع، وأدار وجه راحلته ليصرفها إلى البصرة بعد أن تقبل التهنئة من فتاه بسلامته من طلب الحجاج مما جعله يركب أهوال الصحراء فيطلب النجاة وقد ضم إليه أبنه خشية أن تمتد إليه يد الإيذاء. أما أبو عمرو فهو - كما يحدث عن نفسه - كان أكثر فرحا بالإنشاد من سماعه بنبأ الوفاة. أليس ذلك الإعرابي يقول: (له فرجة كحل العقال) بفتح الفاء من الفرجة لما كان مخرجا من الهم المعنوي وه يحفظها من قبل بالضم لما كان بين الشيئين الحسيين؟
نسب أبي عمرو:
اشتهر بكنيته أبي عمرو واسمه الحقيقي زبان بن العلاء بن عمار أبن العريان بن عبد الله بن الحصين، وينتهي إلى مازن من تميم، كان من أشراف العرب ووجهائها مدحه الفرزدق بقوله:
ما زلت أفتح أبواباً وأغلقها ... حتى أتيت أبا عمرو بن عمار
وغضب مرة فهجاه ثم جاء إليه معتذرا فقال أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع
ويكفي في مكانته من قبيلته أن أباه كان من الرجال الذين اتجهت إليهم أنظار الحجاج فطلبه للقضاء عليه.
نشأته وشيوخه
ولد بمكة في أواخر العقد السابع من القرن الأول الهجري، وبها وبالمدينة كان تلقيه لكتاب الله حيث كان يسارع إلى حفظه كل فتى من أهل الحرمين وغيرهما من الأمصار إذ ذاك. وكان علماؤها يتلقون روايات القرآن المختلفة عن رسول الله ويختارون منها ما وافق شروطهم في الاختيار؛ وكانت رواية هذا أو بعضه تعد - بجانب رواية الحديث - أعظم ما يهتم به المتعلمون وأكرم ما يسعى إليه الراغبون. ولكن أبا عمرو لم يدع أحدا من نابهي القراء وعرضها عليه. وأقدم من أخذ عنه من أهل مكة مجاهد بن جبر المتوفى سنة 103 هـ وعطاء أبن أبي رباح المتوفى سنة 114، وعكرمة بن خالد المخزومي المتوفى سنة 115، وعبد الله بن كثير أحد القراء السبعة المتوفى سنة 120، ومحمد بن محيصين أحد القراء الأربعة عشر المتوفى سنة 23، وحميد بن قيس الأعرج المتوفى سنة 130.
وأخذ من شيوخ المدينة عن يزيد بن رومان المتوفى سنة 120 وأبي جعفر يزيد بن القعقاع أحد القراء العشرة المتوفى سنة 130 وشيبة بن نصاح المتوفى سنة 130 وقد تلقى عن هؤلاء الثلاثة أيضا نافع أحد القراء السبعة. ورحل إلى البصرة والكوفة فأخذ من شيوخ البصرة عن نصرين عاصم ويحيى بن يعمر اللذين توفيا سنة90 القرآن والنحو؛ وأخذ عن الحسن البصري المتوفى سنة 110 أحد القراء الأربعة عشر القرآن، وعن عبد الله بن أبي أسحق الحضرمي المتوفى سنة 117 القرآن والنحو، وتلقى بالكوفة القرآن عن سعيد بن جبير المتوفى سنة 95 وعاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة المتوفى سنة 127 فأبو عمرو وهو أحد السبعة المشهورين إلى عهدنا هذا مع بقية العشرة إلى الأربعة عشر، أخذ عن كل من سبقه في السن وشارك من قاربه إلا أبن عامر بدمشق فانه لم يأخذ عنه ولم يشاركه ولعل أبا عمرو لم يكن - كما يبدو من طلب الحجاج لأبيه - من المقربين إلى خلفاء بني امية، فلم يحاول أن يقدم عاصمتهم ويأخذ عن قارئها عبد الله بن عامر، وبخاصة إذا علمنا انه زار دمشق في دولة العباسيين ثم أستقر به المقام في البصرة إلا ما ندر حيث تهيأت له إمامة القراءات والأدب بعد أن طوف بالأمصار وخاض البوادي.
علمه:
ليس بالكثير على رجل كأبي عمرو، وقد أخذ عن أعلام الإسلام وأجلة العلماء أن تكون له مكانته في العلم ملحوظة، فيقول في تلميذه أبو عبيده: كان أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر. وأن يقول تلميذه الأصمعي: سألت أبا عمرو عن ألف مسألة فأجابني فيها بألف حجة. وأن يعتز أبو عمرو بما وفقه الله إليه فيقول: لقد حفظت في علم القرآن ما لو كبت ما قدر الأعمش على حمله. ويقول ما رأيت أحدا قبلي أعلم مني. ويزيد الأصمعي على ذلك: ولم أر بعد أبي عمرو أعلم منه. وفيه يقول تلميذه يونس بن حبيب: (لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كل شيء كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء).
وهو إلى جانب شيوخه الذين فاق بعددهم كل من عاصره كانت دفاتره ملء بيته إلى السقف.
أدبه
يروى أبو عمرو الشيباني: ما سألت أبا عمرو بن العلاء عن حماد إلا قدمه على نفسه. ولا سألت حماداً عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه. وإن كتب الأدب واللغة لتروي شروح أبي عمرو للشعر وروايته له وذوقه الأدبي في تخير أجودها، فأبو الفرج في أغانيه يقول: كان أبو عمرو: يرى أن بشار بن برد أبدع الناس بيتا حيث يقول: لم يطل ليلى ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألم
وأنه أمدح الناس بقوله:
لمست بكفي كفه ابتغي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
وأنه يقول: أحسن شعر قيل في الصبر على النوائب قول دريد بن الصمة:
تقول ألا تبكي أخاك وقد أرى ... مكان البكا لكن بنيت على الصبر
وأنه لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وكان يقول: أبو النجم أبلغ في النعت من العجاج:
وكانت له موازنات بين الشعراء، فهو يشبه جريراً بالأعشى، والفرزدق بزهير، والأخطل بالنابغة. وكانت له تشبيهات جميلة؛ من ذلك قوله: عليكم بشعر الأعشى فإني شبهته بالبازي يصيد ما بين العندليب إلى الكركي. وكان يقول: إنما شعر ذي الرمة نقط عروس تضمحل عما قليل، أو أبعار ظباء لها شم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح الأبعار. وعرض عليه قول عدي بن الرقاع:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت أم القاسم
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده الناس فرنقت ... في عينه سِنة وليس بنائم
فقال: أحسن والله وكان عنده شيخ مدني جالس فقال والله لو سمعت لحن معبد في هذا الشعر لكان طربك أشد واستحسانك أكثر وكان أبو عمرو لكثرة تنقله واتصاله بأهل البادية يعرف فصحاء القبائل فيقول: (أفصح الناس أهل السروات) وقد بلغ من قدرته أن وضع - كما أعترف - بيتا من الشعر دسه في شعر الأعشى وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
فلم يلمس صنعة إلا بشار.
إقبال الناس عليه وتلاميذه:
إن رجلًا بلغ من العلم والأدب والمكانة ما بلغه أبو عمرو يكون قبلة الناس في مجتمعاته؛ فلقد روي أن الحسن مر بأبي عمرو وحلقته متوافرة والناس عكوف فقال من هذا؟ فقالوا أبو عمرو. فقال لا اله إلا الله! كادت العلماء أن تكون أربابا. كل عز لم يؤكد بعلم فإلى ذل يؤول).
ولقد نبغ من تلاميذه من أصبحوا حجة في الأدب واللغة والنحو والقراءات؛ فأبو عبيده والأصمعي وأبو زيد الأنصاري والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب ويحيى بن المبارك اليزيدي ومعاذ بن مسلم وسيبويه كلهم غرس يده وفيض بحره وثمرة علمه فكل فضل ينسب إليهم يشاركهم فيه، وكل علم إنما هو الذي فتح لهم أبوابه وأنار لهم سبله.
زهده:
إن هذه النفس الصافية التي انقطعت للعلم ونشره قد لجأت إلى بارئها أخلصت له راجية أن يشملها بعفوه شاكرة له توفيقه وجزيل نعمه، فما كان يدخل شهر رمضان حتى ينقطع عن إنشاد الشعر ويختم القرآن كل ثلاث ليال مرة. وكان نقش خاتمه:
وإن امرأ دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
ولما بلغ به النسك مداه أحرق جميع دفاتره التي كانت ملء بيتهإلى السقف لينقطع إلى قراءة القرآن:
أصول قراءته وأثر شيوخه وقبيلته فيها:
كان لشيوخ أبي عمرو في القراءة أثر ولقبيلته أثر.
1 - فتسهيل الهمزة عادة لغوية للحجازيين تخالف قبيلة أبي عمرو، لكنه تأثر بشيوخه فكثيرا ما يشارك نافعا وأبن كثير وأبا جعفر وأبن محيصين وهم قراء مكة والمدينة الذين أخذ عنهم أو شاركهم فيمن تلقوا عنه.
2 - والإمالة عادة لغوية لقبيلته تميم ومن شاركها من سكان نجد؛ لهذا كانت الإمالة من أصول قراءة أبي عمرو إلا أن إمالته لم تكن كبرى، بل هي بين الصغرى والكبرى؛ فليس كقراء الكوفة ولا كقراء الحجاز. بل بين المذهبين. وغالبا ما يشاركه في الإمالة الأزرق من رواية ورش عن نافع إلا أن إمالة الأزرق صغرى وقد يزيد إنه يميل ما لا يميله أبو عمرو، وقد تكلفت كتب القراءات بشروط كل منهم فيما يمال.
3 - تسكين الوسط المتحرك من تخفيف قبيلة أبي عمرو، ولهذا كان التخفيف مما يسلكه في قراءته وقد يشاركه فيه غيره ومع هذا قد يتفق مع نافع وأبن كثير وأبي جعفر وأبن محيصين في فتح ياء المتكلم إذا وقعت بعدها همزة قطع مفتوحة مثل أني أعلم، ويتفق مع نافع وأبي جعفر في فتحها إذا وقعت بعدها همزة قطع مكسورة مثل من أنصاري إلى الله.
4 - الإدغام: يظهر أن الإدغام من عادة قبيلة تميم اللغوية. وللإدغام في القراءات أسباب وشروط وموانع فإذا وجد الشرط والسبب وأرتفع المانع جاز الإدغام. وأسبابه:
1 - تماثل الحرفين بأن يتحدا مخرجا وصفة كالباء في الباء
2 - التجانس: بأن يتفق الحرفان مخرجا ويختلفا صفة كالدال في التاء
3 - التقارب: بأن يتقاربا مخرجا أو يتقاربا صفة أو يتقاربا مخرجا وصفة. وقد اختص أبو عمرو بما يسمونه الإدغام الكبير فهو يحرص عليه ويمتاز به عن غيره من القراء، وقد يشاركه بعضهم في نوع منه، وقد تكفلت بتفصيل ذلك كتب القراءات
أما اختلاف القراء في أن الفعل بالغيبة أو الخطاب، أو أنه رباعي أو ثلاثيأو أن الاسم منون أو غير منون، وما شابه ذلك مما ليس من الأصول العامة ولا يعرف إلا عند فرش الحروف أي تلاوة الآيات فإن أبا عمرو كثيراً ما يوافق شيوخه الحجازيين فيما اختاروه.
وفاته
في سنه 154هـ تقريبا توفي أبو عمرو في الكوفة عند عودته من دمشق حيث كان في زيارة لواليها عبد الوهاب من بني العباس. قال أبو عمرو الأسدي: لما أتى نعي أبي عمرو أتيت أولاده فعزيتهم عنه، فأني لعندهم إذ أقبل يونس بن حبيب فقال: نعزيكم وأنفسنا بمن لا نرى شبها له آخر الزمان. والله لو قسم علم أبي عمرو وزهده على مائة إنسان لكانوا كلهم علماء زهاداً. والله لو رآه رسول الله ﷺ لسره ما هو عليه. ويروى أبن الجزري إن قراءة أبي عمرو في القرن الثامن ومفتتح التاسع كان عليها الناس بالشام والحجاز واليمن ومصر). ولقد كانت إلى عهد قريب منتشرة بصعيد مصر، ثم طغت عليها رواية حفص عن عاصم. رحم الله أبا عمرو رحمة واسعة.
عبد الستار أحمد فراج
محرر المجمع العلمي