مجلة الرسالة/العدد 811/الصراع الفكري في تركيا
→ الشعر في السودان | مجلة الرسالة - العدد 811 الصراع الفكري في تركيا [[مؤلف:|]] |
مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (2) ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1949 |
عرض وتلخيص
للأستاذ محمد محمد علي
إن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية موضوع على جانب كبير من الأهمية بالنسبة للعرب فضلاً عن الأتراك الذين احتلوا مركز الصدارة في العالم الإسلامي خمسة قرون. . .
اتصل الأتراك بالإغريق، بعد دخولهم الإسلام في أوائل القرن الحادي عشر، ثم عن طريق الفلاسفة، وفي السنوات الأولى من العهد الإسلامي كان الأتراك في شك من نجاح الإسلام المطرد. بيد أن مقدرة الدولة العربية على تنظيم شئونها الاقتصادية والاجتماعية وقفت أمامهم، ثم إن (شخصية) الإسلام الواقعية والحازمة لاءمت المزاج التركي. ولقد دافعوا في يوم من الأيام بحرارة عن دينهم الجديد.
ويرى البيروني - أكبر رياضي القرن الحادي عشر - أن الحضارة الإسلامية كانت امتداداً للحضارة اليونانية. ومع ذلك يجب أن نقرر أن المؤثرات اليونانية كانت ضعيفة، إذ كتب الفلاسفة وناقشوا المشكلات الفلسفية واللاهوتية، لكن الفكر الإسلامي لم يتقدم إلا بين الجماعات المعارضة وبين هؤلاء الأحرار الذين اشتهروا في تاريخ الإسلام مثل المعتزلة أو العقليين.
ولعل الفارابي - الذي لا ينسى أصله التركي - أحد الفلاسفة الإسلاميين الذين حاولوا شرح الأفكار الإسلامية كما جاءت في القرآن مع فلسفة أرسطو وأفلاطون. فقد كان أول فيلسوف إسلامي أعطى أهمية كبرى للأفلاطونية الحديثة في الفلسفة الشرقية، كما كان أول من عرض مشكلة العلاقة بين الروح والعقل. وجاءت أعمال الغزالي في القرن الثامن عشر مكملة لأعمال الفارابي. وتطورت الروحانية حتى الأزمنة الحديثة واتخذت في النهاية شكلاً مغايراً، وتميزت بتغلب العاطفة على العقل، ثم فقدت طابعها الفلسفي.
بلغ الفكر الإسلامي هذا الطور في القرن الثالث عشر حينما سيطر السلاجقة على هضبة آسيا الصغرى، وهم سلالات الأتراك العثمانيين وأجداد سكان تركيا الحاليين. وكان يدرس في مدارسهم الفقه والإلهيات فحسب، وتشكلت الدراسة دائماً بطابع القرآن الكريم والسنة الشريفة. وفي النصف الثاني من القرن ظهر الشاعر الصوفي والفيلسوف الكبير جلال الدين الرومي فندد بالجهل الذي خيم على الناس تجاه المسائل الفلسفية. ومن الواضح أن العلوم العقلية والفلسفة اليونانية في مظهرها الحقيقي لم تكن قد ظهرت بعد حيث يقطن الأتراك اليوم.
وفي القرن الخامس عشر، بعد تكوين الإمبراطورية العثمانية بقرن ونصف، كان الفكر الإسلامي لا يزال متخذاً الطابع المدرسي من دراسة الأدب والفقه؛ ولئن كانت تناقش الفلسفة والعلوم العقلية وأفلاطون وأرسطو، فإننا لا نلمح أي اثر للروح الفلسفية الانتقادية التي ميزت الفلسفة اليونانية. وفي ذلك الوقت كان الشاب الذي لم يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره: محمد الفاتح قد اتصل بجيرانه الأوربيين. وقد دخل القسطنطينية عام 1453 على أنقاض الحضارة الغربية في الشرق. واهتم السلطان الفتى بالمدرسة الفلسفية اليونانية التي كانت أساساً لجميع الأفكار في العصور الوسطى في غربي أوربا، وبلغ اهتمامه بدراسة اللاهوت حداً جعله شغوفاً بالمسيحية. وكانت رغبته في الواقع هي الدراسة المقارنة للدينين العظيمين والميتافيزيقا، وذلك ليوحد الاختلاف بين العقل والروح. كان يحاول أن يخلق تفاعلاً وتداخلاً بين الحضارتين الإسلامية والغربية، على أن يكون للنظرة الانتقادية المحل الأول.
لكن ينبغي أن نقرر أن هذه الجهود لم تكلل بالنجاح، وأن تركيا عادت يوماً إلى جمود العصور الوسطى الذي استمر حتى القرن التاسع عشر بل والعشرين، ففي الفترة ما بين فتح القسطنطينية ومعاهدة كارلوتز 1699 وصلت الجيوش التركية إلى وسط أوربا وأنشأت علاقات مع الأمم الغربية. غير أن هذه القوة العسكرية عجزت عن تكوين صلات فكرية بين الشرق والغرب. بل إن النزعة الحديثة في عصر النهضة عادت القهقري أمام روح الجمود التي سادت في البلاد الإسلامية.
وبلغت تركيا شأوا كبيراً من التوسع في القرن السادس عشر، أبان حكم سليمان الكبير. ومع ذلك لم يتقدم التفكير الفلسفي والعلمي خطوة واحدة مع التقدم السياسي في عصر المجد والعظمة هذا. وقد لاحظنا الأستاذ (كريبر) إنه ليس من الضروري أن يتفق العصر الذهبي لحضارة مع التفوق والرقي لوطنها فبعد هذا التوسع لم تعط الفرصة لتطور النهضة في تركيا أمام النزعة التقليدية في الفكر الإسلامي. وقد عبر جغرافي القرن السابع عشر كاتب جلبي عن يأسه من الأحوال التي أطاحت بالمعارف الإنسانية من معاهد التعليم التركية: (وعلى ذلك سينظر الناس إلى الكون بعيون الثيران!). ويوضح ذلك أن نظام كوبرنيكس ذكر لأول مرة عام 1685 في الترجمة التركية للأطلس الأعظم
ويمكن القول إن عام 1716 تقريباً بعين بدء الاحتكاك بالفكر الغربي، عند ما كان هناك تجديد وإصلاح في الجيش التركي؛ إذ أدخلت الرياضيات الحديثة في برامج المدرسة الهندسية العسكرية. وفي عام 1728 أسس الكاتب التركي إبراهيم متفريقاً أول مطبعة، وبدأ ينشر ما يؤلفه ويحرره عن الحضارة والعلوم الغربية.
ولما شبت نيران الثورة الفرنسية ظهر اتجاه علمي جديد. إذ اعجب السلطان سليم الثالث بالحركة الفكرية السياسية - في العالم المتمدن - التي جذبت انتباهه إلى الحضارة الغربية. ففي أوائل القرن التاسع عشر فتحت مدرسة طبية حديثة.
ثم جاء عام 1839 فبدأ عهد إصلاح جديد؛ هو عهد (التنظيمات) أو تنظيم الإصلاح. وقد عم تأثيره كل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية. وبالنظر في هذا الاحتكاك بين التفكير الغربي والتفكير الإسلامي فانه يلوح للباحث أن لا بد من وجود تفاعل وتداخل بين وجهات النظر. الإسلامي هذا التقدم لم يظل قائماً، لأن طبيعة الدولة الأوتقراطية والدينية، تعارضت مع تبادل الآراء واحتكاك الحضارات. بل إن هذه الفترة التي استمرت حتى الثورة التركية الصغرى 1908 امتازت بالرغبة في المحافظة على المظهر الديني للإسلام أمام تيار العلوم الحديثة. حتى أن الكتاب المحدثين الذين درسوا في الخارج، لم يترددوا في الذود عن الأفكار الدينية البحتة، والمعارضة للحقائق العلمية. على أن هؤلاء لم يؤمنوا بما كانوا عنه يدافعون؛ إنما دفعهم إلى عملهم هذا ما ظهر من ضرورة الإبقاء على النظام القديم. وفي أواخر عهد عبد الحميد الثاني، كانت موجة العداء للفكر الغربي شديدة، بفعل ثورة 1908، إذ خرجت كلمة (حكمة) من القواميس بأمر الحكومة! وبالرغم من كل هذا فقد كانت الأفكار الغربية تنتشر. وقد ترجم أحمد مدحت كتاب ج. و. درابر. تاريخ الصراع بين الدين والعلم. وفي معرض نقده لأفكار المؤلف، أكد المترجم إن ليس هناك معارضة للعلم في الإسلام.
ولئن كان المثقفون في عهد التنظيمات قد حافظوا على العقلية الشرقية، فإنهم اقتبسوا الجانب الفني من الحياة الحديثة، واستطاعت قلة منهم التوفيق بين المعتقدات الإسلامية والعلم الحديث. فكانت الجمعية العلمية العثمانية (1887 - 98) المعهد الوحيد الذي كان مشغوفاً بالأفكار الغربية، إذ جمعت بين المثقفين الأتراك الذين يعرفون لغة أوربية على الأقل، وأخرجوا: (المجلة العلمية) أول نشرة تركية يستطيع المرء أن يطالع فيها أبحاثاً رائعة. وقد اتخذوا وجهة نظر فلسفية علمية، ولم يلقوا بالا إلى الجمود الديني للعلماء الرسميين (علماء الرسوم) ولسوء الحظ لم تعمر هذه الجمعية طويلاً وذهبت معها مجلتها. وباختفائها صادرت الحكومة كل الإنتاج الفكري الفلسفي. وفي نهاية عهد التنظيمات لا يكاد الباحث يعثر على أي أثر لاحتكاك الأفكار الشرقية والغربية في تركيا. ومع ذلك فأن غزو التفكير الغربي كان سائراً إلى الأمام بفضل المدرسة الأدبية التي عرفت ومجلتها
وقامت الثورة التركية الصغرى في 1908 وأمتد لهيبها إلى النواحي السياسية، وتبع ذلك نشاط ثقافي، فأدخلت الفلسفة وعلم الأديان المقارن في دراسات كلية الآداب بجامعة اسطنبول ومهدت الحرية السياسية الطريق لحرية التعبير وأصبح في الإمكان نقد الأديان. وفي أول العهد الدستوري ترجمت كتابات وآراء بعض الماديين في القرن التاسع عشر مثل لدفيج بخنر، وارنست هيكل كما كثرت المناقشات حول آراء فولتير وروسو وباقي الانسكلوبيديين.
كان الصراع الفكري على أشده - وإن لم يكن واضحاً، واتخذ كل جانب موقفاً عدائياً تجاه الآخر. وفي وسط هذه المعركة قام الاجتماعي الفكري زيا جوك ألب بدور الوسيط بين الجماعات المتحاربة، وحاول أن يوفق بين التفكير العملي الغربي وبين التفكير الإسلامي الديني. وهو كتلميذ مخلص لدور كهيم قد ميز بين والحضارة ورأي أن تركيا ينبغي أن تقتبس من المدنية الغربية على أن تحتفظ بشخصيتها القومية. ولطالما نصح مواطنيه بالا يهملوا الإسلام وحضارته ولا يغضوا الطرف عن المدنية الغربية. ولئن كان واضحاً في إعلانه عن ضرورة الاقتباس من العلوم والفنون الحديثة، فأن كان غامضاً في مسألة الفلسفة. رأى أن يكون للأتراك فلسفة قومية لكنه لم يحدد ما يجب أن تكون عليه هذه الفلسفة، إذ كان متردداً بين آراء دور كهيم الاجتماعية وفلسفة برجسون الروحية. إلا أنه لم يعمل على إعادة الوفاق بين الاتجاهين؟ لأن هذا كان عملاً شاقاً.
لقد كان لتعاليم زيا جوك ألب تأثير عميق على تلاميذه وأصدقائه أعضاء جمعية الاتحاد والترقي الصغرى. وفي رأيه أن قانون الأسرة الذي وضعه من قبل فقهاء المسلمين لا يجوز أجراء تعديل فيه. وكان لسان هذه الحركة: مجلة جمعية الاتحاد التي ظهرت رغم طابع الدولة الديني - التي كان يرأسها الخليفة صاحب السلطتين: الدينية والزمنية.
غير أن أسوأ خطر وقع فيه زيا جوك ألب هو ترجمته كلمة (لا ديني)، الأمر الذي أدى إلى نشر العداوة بين شيوخ المسلمين.
وقد عبر عن الاتجاه الإصلاحي في ذلك الحين مجلة (الصراط المستقيم) التي عرفت بعد باسم (سبيل الرشاد) والتي صبت جام سخطها على زعماء الحركة التحريرية التي قادها زيا جوك. وامتازت هذه الفترة من تاريخ تركيا بتغييرات الحكومة الفجائية وبأعمال المعارضة التي كان من هدفها السياسي تحريك الأتراك المسلمين ضد حكومة الاتحاد والترقي وذلك بتغير محاولة الجمعية في الإصلاح بأنها الحاد في الإسلام.
وبعد عام 1912 لم تكن هناك فرصة للنشاط الثقافي بسبب حروب طرابلس والبلقان ثم أوربا. وكانت الحكومة التي أسستها قوات الاحتلال قد قضت على كل العواطف الدينية بين الناس حتى تقضي على بوادر الحركة التحريرية والاستقلالية. إذ تطورت هذه الحركة أخيراً، وأصبحت منظمة قوية حالفها النجاح بعد أربع سنوات من اليأس. وليس من شك في أن الأتراك - باهتمامهم بهذا الكفاح - لم يكن لديهم فرصة لمناقشة المسائل الثقافية.
وأنشأت الحكومة التركية الجديدة في أنقرة، وأطاحت بالسلطنة عام 1923 وتركت الخليفة في اسطنبول بغير سلطة ولا قوة، ثم ألغت الخلافة بعد ذلك بعامين، مع المحاكم الشرعية وكل المعاهد الدينية في أنحاء البلاد. وصيغ الدستور الجمهوري بالصيغة العلمانية، وذهبت جهود المدافعين عن الإسلام مع الريح أمام تشديد الجمهورية في التصريح بهذا التفكير. وكانت التيارات الغربية جارفة، لدرجة إنه كان يصعب على المرء أن يطلق عليها تفكيراً، بل هي (تقاليد رسمية للإلحاد) وبتفسير لغة الأستاذ جب الخيالية، يقال إن تركيا قد أصبحت مقبرة جميلة. . .! ولم تتردد الجمهورية في أن تعلن أنها حامية العلوم والمدارس الفكرية، وحاولت أن تجعل الدراسة في جميع المعاهد على أسس الخير والحق والجمال! وظهر الجيل الجديد بعد عشرين عاماً من غير أن يتذوقوا لتعاليم الدين طعماً. واليوم يحتل الفكر الغربي الجديد محل الفكر الإسلامي القديم. وليس في الإمكان أن نحدد تاريخاً لظهور النزعة الحديثة مع التداخل بين الأفكار الإسلامية والغربية في تركيا، فليس هناك تفاعل حقيقي، إنما هناك طغيان للأفكار الغربية.
وفي ديسمبر 1946 تقدم نائبان في الجمعية الوطنية - أثناء مناقشة ميزانية وزارة الأوقاف - بسؤال عن مستقبل المعاهد الدينية، وخاصة تلك التي يدرس الشعائر الدينية فيها أفراد معينون، إذ أن هذه الدراسات لا ترعاها الحكومة، وأن هؤلاء الأفراد المعينين ليسوا متخصصين في طرق إعداد المعلمين. فأجابت الحكومة إجابة تهرب من السؤال، إذ خشيت رد الفعل الديني الذي قد يهدد نظم الجمهورية الحديثة. وبعد أيام انتقلت هذه المناقشة إلى اللجنة المركزية للحزب الحكومي. وهذا الحادث - الذي لا يعتبر غير غريب في الغرب - ذو أهمية كبرى في تركيا اليوم، لأنه في العشرين سنة الأخيرة لم يكن ممكناً حدوث مثل هذه المناقشة في أي نوع من الاجتماعات السياسية أو الثقافية.
وعندما بزغ نور الروح الانتقادية في تركيا، فإن التفاعل بين الأفكار الإسلامية والغربية سيتخذ شكلاً موحداً واضحاً. وربما ينتج عن هذا التفاعل إصلاح ديني فلسفي في حدود الشكل العلماني للجمهورية. غير أنه عندما يحدث إصلاح من هذا النوع هل تستطيع تركيا أن توجد منابع تراثها الثقافي وتخلق حركة ثقافية متكاملة؟
تلخيص
محمد محمد علي
قسم الجغرافيا بجامعة فؤاد