مجلة الرسالة/العدد 811/الشعر في السودان
→ أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية وهجرته إلى | مجلة الرسالة - العدد 811 الشعر في السودان [[مؤلف:|]] |
الصراع الفكري في تركيا ← |
بتاريخ: 17 - 01 - 1949 |
للأستاذ علي العماري
- 6 -
لم يكن غرضي في هذا الأحاديث أن أعسر الحساب مع شعراء المدرسة القديمة، ولا أن أتتبع هفواتهم، وأخطاءهم، وإنما أردت أن أكون مؤرخاً. وهذا هو الهدف الرئيسي لهذه البحوث، فإذا صحب ذلك شيء من النقد فإنما هو استطراد وأستتباع، وليس من الأنصاف أن نغوص في ثنايا هذا الشعر محققين مدققين، وحسبنا أن نقف هذا الموقف (السمح) وأن نلمس هذا الشعر لمساً خفيفاً رفيقاً وأن تبرز صفاته العامة، ونكشف سماته المشتركة، دون أن ندخل في التفاصيل فنحكم لشاعر على شاعر، أو نضع الشعراء في طبقات كما كان يفعل بعض النقاد القدامى، فذلك ما لا أريده، أو بالأحرى ما أعتقد إنه عن غرضي بمنأى، وإنما كان الأنصاف في مسلكي الذي سلكته لأنه يكفينا من هؤلاء الشعراء أنهم قالوا الشعر في تلك الأيام الخوالي بل قالوه في أغراض لم تكن البيئة مهيأة لقبول القول فيها. ولعل بهذه الكلمات أكون قد أجبت ذلك الفاضل الذي كتب إلي (يلومني) على أني أكتب بقلم المؤرخ لا بقلم الناقد وأتجاوز عن أشعار كان الواجب يقتضيني أن أكشف للقراء بهرجها، ثم أمضي إلى الغرض.
في حديثي السابق تحدثت عن شعر النسيب، وذكرت أن كبار العلماء قد خاضوا فيه، وفي حديث اسبق تحدثت عن مكانة المدائح النبوية وكثرتها عند السودانيين، وكان وقع في نفسي حين وجهت النظر إلى كتابة هذا البحث إني سأظفر بقصائد رائعة في الغزل على طريقة (ابن الفارض) فإن جميع الأسباب كانت مهيأة لهذا الغزل الإلهي، فكثير من العلماء الزهاد شعراء، وقد بدت رغباتهم في شعر الغزل. ولشعر ابن الفارض مكانة خاصة عند المتصوفين من هؤلاء العلماء، ولكن شد ما أخذ مني العجب حين لم أجد من هذا النوع شيئاً تطمئن إليه النفس، ولاشك أن خلو الشعر السوداني من هذا النوع - وقد تهيأت أسبابه - أمر يدعو إلى العجب.
ولمكان الدين عند الشعراء لا تجد الهجاء غرضاً ذا بال في أشعارهم، والذين قالوا في هذا الغرض لم يطيلوا فيه، بل ربما ذكر البيت والبيتين ومروا به مروراً سريعاً. ومن الق أن نرى هجاء مستقلاً، وهو - مع ذلك - لا يعدو الطريقة العامة من الرمي بالنفاق والغدر والكبر، وربما رق الهجاء وتبدل ولكنه بعد ليس أليم الوخز، ولا نافذ السهم، يقول الأستاذ صالح عبد القادر يهجو ذليلاً أحدث نعمة فطغى أن رآه استغنى، في قصيدة مطلعها.
لا تفرحنَّ بنعمة ... إن الزمان له انقلاب
وبعد أن وصف الزمان وأنه محكم يرفع الذئاب إلى مرتبة الأسود، وينقل الملك العظيم من سرير الملك إلى أعماق القبر قال:
ولقد رماك الدهر ح ... تى هنت في نظر الكلاب
أنا على ماضيك لم ... نسدل ستاراً أو حجاب
أنسيت نومك في الترا ... ب فصرت تحكم في الرقاب
أنسيت أيام (البلي ... لة) والبسارة والهباب
فغدوت تأكل ما علم ... ت وما جهلت من (الكباب)
جلَّ المهيمن إنه ... يهب الأنام بلا حساب
وإذا وصل بنا القول إلى هذا الشعر الفكاهي فأنا نقول إن الفكاهة ليس لها مكان في البيئات المتدينة، بل إن الشعب السوداني لا يكاد يقبل عليها، وربما كان لذلك أسباب كثيرة غير التدين، ومن الممكن أن نقول إنه ليست هنا فكاهة مستقلة. ولقد دأبت بعض المجلات السودانية على أن تنشر طرائف يتفكه بها القراء فكان اعتمادها على ما ينشر في المجلات المصرية، ونتيجة لهذا قلت الفكاهة في الشعر السوداني، على أنا نلمحها لمحاً في بعض القصائد، فهي لا تكاد تأخذ إليها نظر القارئ ولا فكره. وربما جاءت في أثناء الهجاء، أو في معرض شكوى، أو في رثاء شيء ففقده شاعره، وقد تكون الشكوى مرة عميقة ولكن الشاعر يسوقها في شعر خفيف يظنه القارئ يميل إلى الفكاهة، وما هو إلا الجد في معرض الهزل، يقول الشاعر الشيخ حسيب في (مرتبه).
أمرتبي مالي أراك (م) ... قصرت عن نيل المراد
أشكوك أم أشكو إلي ... ك نوازل المحن الشداد
الشهر باق جله ... وبقاك آذن بالنفاد
أنا إن حييت سأشتري ... حظي بأطراف الحداد أما اليراع فاٍنني ... لم أجن منه سوى الكساد
يا صاحب الدرجات والق ... انون والرأي والسداد
أطلق فداك مرتبي ... بعض القيود لكي يزاد
رفقاً بمن قيدته ... بقيود (ثامنة) شداد
فكأنني وكأنه ... ظمآن آلٍ في وهاد
وكأنني متقلد ... من غير ما سيف نجاد
ولقد أعجبني حقاً هذا التشبيه، تشبيه موظف في الدرجة الثامنة، والحياة عليه قاسية، ومرتبه لا يفي بضروريات عيشه، برجل متقلد نجاداً، ولكن ليس معه السيف، فيخاله الناس صاحب سيف يرد به حوادث الأعداء، فإذا هو أعزل ليس له من السيف إلا حمالته التي لا تدفع عدواً، وهذا يسميه الناس موظفاً، ويرونه يروح ويغدو على عمله، وربما حسدوه، فإذا هجمت عليه عوادي الأيام، وحزبته ضرورات العيش، فتش في جيوبه ليجد ما يردها، ولكنه لا يجد إلا نجاد السيف؛ أما السيف ففي أوهام الناس وخيالاتهم.
وهذه القصيدة في رثاء ساعة فقدها الشاعر فبكاها، وليس لشعراء السودان اتجاه - إلا قليلاً - للقول في الأشياء الصغيرة، وكأنهم لا يرون الشعر إلا ما كان في مدح أو هجاء أو رثاء، ولكن هذا الشاعر تظرف فقال في ساعته:
لي ساعة معروفة ... بالصدق في جنح الظلام
لا البرد يوقفها ولا ... يودي بسرعتها الغمام
اغتالها الدهر الخئ ... ون، وليس سلماً للكرام
لم يغن عنها حصنها ... جيب القباء أو الحزام
أحفيظة الوقت الثم ... ين وخير ساعات الأنام
أصبحت بعدك فوضوي ... اً لا أساس ولا نظام
أبدأ تحث على المض ... ي إلى الأمام إلى الأمام
تفديك ساعات تؤخ ... ر أو تقدم أو (تنام)
أما الجد فهو السمة الغالبة على الشعر السوداني كله، ولا سيما حين يفخر الشاعر أو يصور بعض أحوال قومه، فهذا يقول: أيها الدهر أنا من معشر ... حكموا الرأي وهزوا العلما
فأسال العالم عنا إننا ... أمة كنا وكانوا عدما
من لقومي إنهم قد أهملوا ... ما بنى آباؤهم فانهدما
يا بني قومي أفيقوا أنكم ... ما خلقتم لتعيشوا (غنما)
ليتني أعرف ما أخركم ... سادة كنتم فصرتم خدما
ولقد يحزنني أني أرى ... رأيكم مختلفاً منقسماً
وذاك يقول:
كم وقفة لي أبكيت الجماد بما ... أسمعته وهززت النيل والهرما
حليت عاطل الدهر منه بما ... ود الغواني لو أن جيدها نظماً (كذا)
مضى زمان وقلبي ممتل ألماً ... وفي فؤادي أسى كالنار مضطرما
حزناً على أمة بالنيل نائمة ... تشكو الأوار وأخشى أن تموت ظما
وأما القول في الخمر فهو قليل، وطبعي أن يقل القول في هذا الغرض لسيادة التدين على النفوس، على أنا نجد بعض الشعراء يتغاضى عن عواطف الناس، ويقول فيها ما يحلو له، فهذا عثمان هاشم يجاهر بالقول فيها، مع ما لبيته من مكانة دينية يقول:
أدر الراح علينا باليمين ... تحت ظل الورد بين الياسمين
ضن رب الحان للشرب بها=واصطفاها إذ رآنا قادمين
ملأ الأقداح منها بعدما ... راضها بالمزج من ماء معين
فشربناها غبوقاً في الدجى ... ووصلناها صيوحاً بالأذين
وأنا شديد الإعجاب بهذه الاستعارة الفذة (راضها بالمزج) فأن الخمر - على ما أعرف من قراءاتي - تكون كالفرس الجموح فإذا صب عليها الماء هدأت وسكن بعض سورتها، وكم بين رياضتها بالمزج في قول هذا الشاعر، وبين قتلها بالماء في قول حسان بن ثابت:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
كم بينهما من مشابه يعرفها الخبيرين!
هذا وبقى أن نسرج النظر قليلاً في أسلوب هذا الشعر، فنقول إن الطبائع العربية، واللهجات العربية أظهر ما تكون في سكان السودان، وكثير من الكلمات العربية الفصيحة يستعملها العامة كما يستعملها الخاصة، وهنا - كما في كل مكان - ألفاظ خاصة لها حظوة فهي كثيرة الدوران على الألسن، فإذا فتشنا عن هذه الألفاظ لا نجد لها في الشعر أثراً، كما أنا نفقد الألفاظ الجزلة، والأساليب الضخمة، مع أن كثيراً من الشعراء كانت لهم أقدام رواسخ في اللغة والأدب، لكن الشعراء مغرمون بالبديع، وربما تكلفوه تكلفاً، فالجناس والتورية، وحسن الابتداء وحسن التخلص، من مقاصدهم الشعرية، فمن التورية قول أحدهم في صديق له اسمه شوقي:
إن نسوا ردك يا شوقي فما ... أنا إلا حافظ ما جهلوا
وقول الآخر:
ولست بخائف حصراً وعياً ... وشوقي فيه يمليني نشيدي
ومن الخباس قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يخاطب الأستاذ علي بك الجارم حين زار السودان:
أما استعارات البيان فإنها ... عبء ينوء به الشباب ثقالاً
يجرون أميالاً ولا يجرونها ... ويرون في طرقاتها الأوحالا
ها (عرضحالي) يا علي مقدماً ... ما حائل من دون عرضي حالاً
ومن حسن التخلص قول الشيخ محمد عمر البنا:
وليل بت فيه سمير أنس ... قرير العين مشروح الفؤاد
كأن صفاء أنجمه علينا ... أيادي الشهم عثمان الجواد
وللشعراء ولوع بالتاريخ الشعري، وله أمثلة كثيرة في أشعارهم، وقد ينظمون شعراً يمكن قراءته على وجهين ومن ذلك قول الحبر الجليل الشيخ الأمين الضرير من قصيدة نبوية كبيرة:
حمداً لمن أبدى لنا سبحانه ... من أمنا بهداه إذ قد صانه
نسباً صريحاً عن خنى ومكانه ... في القرب لم يدرك رسول ذوثنا
فيمكن جعل هذين البيتين ثلاثة، فتكون نهاية البيت الأول (أمنا) ونهاية البيت الثاني (عن خنى) وهكذا كل القصيدة.
وبعد فقد امتد بنا نفس القول في شعر هؤلاء الشعراء الذين كانوا الهداة الرائدين، وما بلغنا الغاية، ولكنا سنكتفي بما قلناه، لنفرغ لشعر شباب السودان، ونرى إلى أي شوط جروا في نهضتهم الشعرية، ونأمل أن تبلغ من ذلك وطراً، ونستعين الله، وبه التوفيق والسداد.
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان