الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 810/سعار المال

مجلة الرسالة/العدد 810/سعار المال

بتاريخ: 10 - 01 - 1949


للأستاذ كامل محمود حبيب

هذا هو المال، له ألق براق يخطف البصر ويخلب اللب ويستلب بالفؤاد، وله سحر جذاب يأسر القلب ويستهوي النفس ويطمس على الرأي.

فرويدك - يا صاحبي - فإن سعار المال يوشك أن يركبك فتنزلق فتصبح وما بك طماح إلا جمع المادة. أنت الآن على حافة الهاوية، فتعال أسر إليك حديثاً علك تجد فيه متعة أو زجراً أو لهواً:

إن الكلَب للمادة يصدئ العقل ويشل الفكر ويبلد الذهن وينفث في القلب الفظاظة والغلظة، ويستل الإباء والأنفة، ويورث المهانة والضعة.

إن الكلَب لا يرعى حقاً، ولا يبقى على ود، ولا يتورع عن رذيلة، ولا يرتدع عن دنيئة، ولا يتذمم عن مأثم، ولا يترفع عن صغار؛ غايته أن يجمع المال ويكدسه، ثم لا يعنيه في هذا السبيل أطوقه العار أم استذله المسعى!

وأنت فتى عقد عليك أمل منذ تخرجك في الجامعة، وتعلقت بك الأبصار منذ عينت في وظيفة حكومية، ومنذ صرت بين أخوتك وأهلك رجلاً وإنساناً، فيا ضيعة الأمل إن تلفتوا فلم يجدوا فيك الرجل ولا الإنسان!

يا عجبا! كيف يركبك (سعار المال)، وأنت يا صاحبي رجل، وما بك طماح. . .!

أتذكر يوم كان راتبك الحكومي سبعة جنيهات، يوم كان ميراثك يغل عليك في السنة خمسين جنيهاً فحسب! لقد كنت رضي النفس طيب القلب سمح السجايا، تتأنق في ملبسك ومأكلك ومسكنك، وترف رفيفاً جميلاً على رفاقك، وتفيض على صحابك من كرمك، وتحبو اخوتك الصغار من عطفك؛ فكانت أحاديث الحب والاحترام تحوم حواليك حيث أنت، يتضوع من خلالها عبير الإخلاص والوفاء. وكنت أنت تتهلل بشراً وإيناساً، يفيض وجهك طلاقة ومرحاً؛ وكنا نأخذ عليك كثرة المزاح والمفاكهة ونلومك على أن ترى الحياة هزلاً وهذراً، لا تستأهل أن يعنى المرء نفسه بما تجئ وبما تذر، فسخرت منها حيناً وضحكت عليها حيناً. أفكانت تلك طبيعة ركبت فيك، أم هي أخلاق تخلقتها إلى حين؟!

والآن، حين أرتفع راتبك إلى العشرين من أثر التنسيق، وحين زادت غلة ميراثك إلى المئات من أثر الحرب، وحين سحرك حب الغنى، وحين ركبك (سعار المال). . . نسيت أنك عضو في أسرة، وأنك أخ بين إخوة، وسحبت على الماضي ذيل النسيان، فعققت أهلك وذويك، وأغضيت عن الود والقرابة، وغاض منك البشر والإيناس، وانمحت فيك سمات البشاشة والمرح، وانطويت على نفسك تدفن آمالك المادية في إضعاف أخيلتك، وتطوي خواطرك الأرضية بين ثنايا وحدتك، وحالت ابتسامتك، وأصابك السهوم، فذوت نضارتك وتغضن جبينك، وعشت ساعات طوالاً تتأمل في (خريطة مساحية) تفليها وتقلبها وتضع علامات هنا وهناك وتقول لنفسك: (آه لو اشتريت هذه وهذه وهذه. . . وآه لو استبدلت هذه بتلك وتلك بهذه!) ورحت تسلك إلى غايتك سبلاً مادية وطرقاً ملتوية.

هذا هو شغلك في فراغك وفي عملك، وأنت تعلم يا صاحبي أنك تثقل على نفسك وتحملها ما لا طاقة لها به، فهذه أفانين لن تترفع بك إلى غايتك، ولو حرصت!

نعم، أنا أعرف خلجات نفسك ونبضات قلبك، فلا تقل إنني أستعين على عوادي الزمن - وأنا شاب - خيفة أن تعصرني على حين فجأة؛ ولا تقل إنني أهيئ لأولادي حياة ناعمة وأضمن لهم حق التربية والتعليم، فالمدرسة تبهظ الأب في غير رحمة، والحكومة تسخر من الموظف حين تدفع له راتبه أول الشهر لتتقاضاه - من بعد - أقساطاً ثمناً للكتب والعلم؛ والأب بينهما يستمرئ السغب والعرى ليشتري لأولاده مكاناً في المدرسة. لا تقل ذلك فإن للثراء مسارب أولها التوفيق وآخرها الشح والكزازة!

وأذهلتك أخيلة الثراء فأسففت. وخيل إليك أن زوج أختك قد غلبك على بعض مالك، فذهبت إلى أختك تحاسبها على ذنب لم تقترفه، وأمطرتها بحديث فيه الجفاف والتقريع؛ وأحست هي منك الجفوة والخشونة، فلم تجد في طبيعتها النسائية ما تدرأ به عن نفسها إلا الدمع فأجهشت للبكاء تستنزل عطفك وتستنهض مروءتك، ولكن قسوة المادة قتلت فيك الرجولة فاندفعت تضليها شواظاً من قارص الكلام. . . وراحت هي تبكي!

لعلها - يا صاحبي - كانت تبكي فيك الإنسانية!!

وتحاماك أهلك حين جاءك صاحب دين يستقضي دينه فمطلته ثم أنكرت عليه حقه، ثم سخرت منه لأنه لم يكتبه عليك. وطلب هو الغوث من عميد أسرتك، فما تعوقت في الدفع ولا تمهلت! وأستعانك أحد ذوي قرابتك في شأن حزبه، فطلبت إليه ثمن جهدك!

وراعني - يا صاحبي - أن ينفث فيك سعار المادة سمومه فتطمس على عقلك وتدفعك إلى آخر الشوط، فتتهجم على أخيك الأكبر بكلمات وضيعة طائشة تودعها رسالة، ثم تبعث بها إليه في غير خشية ولا حرج، بعثت إليه برسالة وهو على خطوات منك!

أنسيت أنك عشت عمراً من عمرك ترى فيه الأب والأخ في وقت معاً، فكنت تجد إلى جانبه راحة قلبك وهدوء بالك، وكنت تفزع إليه إن حزبك أمر أو فدحك حادث؟! ونسيت أنك حين أردت أن تتزوج أرسلت إليه - دون أبيك - تسأله الرأي وتستعينه على أن يخطب إليه ابنة (فلان بك) فأسرع إلى أبيها بحتال للأمر، إرضاءً لك، حتى أصاب التوفيق!؟

وتزوجت أنت من ابنة (ألبك) وهو رجل ذو مركز وجاه وثراء، تقلب في وظائف القضاء حتى كاد أن يبلغ، وانعطف على نفسه - منذ نشأته الأولى - فعاش في منأى عن صخب الحياة وضجيجها، فأفاد صحة ومالاً. ولصقت أنت إلى (ألبك) واتخذته مثلك الأعلى، ولكنك كنت منه كالقزم من المارد، وتصاغرت نفسك في عينك فما لك مال ولا جاه ولا مركز إلا صبابات، وتراءى لك أن المال وحده يسمو بك فتتطاول إلى حيث (سعادة ألبك)، فأخذتك شهوة المادة وركبك سعار المال. ولكن كيف السبيل وأنت عاجز اليدين قليل الحيلة! فاندفعت تسلك إلى المال سبلاً فيها الصغار والخسة، أيسرها أنك استخذيت (لسعادة ألبك)، فعشت في داره يعولك ويعول أولادك، وسكنت أنت إلى هذا الوضع الوضيع لقاء دريهمات تدخرها، لا تغنى من كرامة ولا تسمن من إباء، ثم استخذيت مرة أخرى فأقامك على بعض شأنه - احتقاراً لك منه وأمتهاناً - أجر ما أطعمك وأسكنك!

وتهاوت نفسك صغاراً وصفة فما حاولت أن تستشعر رجولتك إلا أمام أختك، وإلا حين كتبت إلى أخيك الأكبر رسالتك تقول: (. . وظننت أن تقدمك عليَّ في السن يخولك السيادة أو يؤهلك للسبق. ولئن كنت أنت بكر أبوينا فما يمنعني ذلك من أن أسبقك في العلم والجاه والمال!

وأنت دأبت على أن تمطلني حقي رغبة منك في أن تستلبه أو تضيعه عليَّ، رغم أننا أعقاب أب واحد نتقسم تراثه على سواء، لي مثل ما لك من حق ومن مال في ما ترك أبي - رحمه الله - وإن مواقفك مني في كل مناسبة توحي إلي بأنك تنفس عليَّ أشياء تورث الحقد بين جنبيك، فإما سلمتني كل حقي في مدى ثلاثة أيام من تاريخه، وإما رفعت أمرك للقضاء. . .)

وسكت عنك أخوك لأن أمتهن رأيك، فما تجنى عليك وما مطلك وما غالك. . . سكت ولكنك أنت لم تسكت!

ماذا عسى أن تكون - بعد هذا - إن جرفك التيار؟

هذه النار أنت وحدك حطبها، فارعو وأحفظ عليك مالك كيف شئت، ولكن لا تغض عن حق الأخوة ولا عن حق القرابة!

وإذا جرفك التيار - يا صاحبي - فستكسب المادة، ولكن بعد أن تفقد نفسك وسيركبك الندم حين لا تستطيع أن تسد الثغرة وقد انفرجت، ولا أن تلم الشمل وقد تشعث!

كامل محمود حبيب