الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 81/بين القاهرة وطوس

مجلة الرسالة/العدد 81/بين القاهرة وطوس

مجلة الرسالة - العدد 81
بين القاهرة وطوس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 21 - 01 - 1935

7 - بين القاهرة وطوس

نيسابور إلى طوس

للدكتور عبد الوهاب عزام

رجعت من مزار العطار إلى قبر الخيام وأنا أنشد قول حافظ الشيرازي:

(جاء مرشدنا البارحة من المسجد إلى الحانة. .)

ولما رجعنا إلى قبر الخيام قال بعض الحاضرين من الشرقيين كيف تركتم الخيام إلى العطار؟ قلت لكل رجل وجهته، وإن لم يكن من القياس بد فصاحبنا أعظم من صاحبكم، وأكرم حياة، وأجل أثراً. فانصرف ثم عاد إلى وهو يقول: ليس أحد من المتأدبين في الشرق والغرب يجهل الخيام، وهذا أحد الوافدين من الأوربيين يسأل من العطار؟ فهذه حجة لي، قلت دعني فأني لا أقيس عظماءنا بمعرفة الأوربيين وجهلهم، ومدحهم وذمهم الخ

دُعينا إلى الموائد فطعمنا، وتكلم الشاعر الإنجليزي درنكووتر عن الشعراء ومذاهبهم في الحياة وقال: إنه لا ينبغي أن يفضل شاعر على غيره بصواب رأيه، وسداد طريقته، بل بمقدار إبانته عما أحسه في هذه الحياة، وأدركه في هذا المعترك؛ نحن لا نستطيع أن نقتدي بالخيام فنمضي أوقاتنا بين امرأة جميلة وكأس، وعود، فان علينا في هذه الحياة واجبات تأبى ذلك، ولكنا لا نغض من قدر الخيام لأنه أبان عن رأيه بهذا الأسلوب الشعري الجميل الخ

ثم أنشد قطعاً من رباعيات الخيام كما ترجمها فيتز جرالد؛ وأنشد أحمد الصراف مندوب العراق بالفارسية بعض الرباعيات، وتكلمتُ فقلت بالفارسية؛ إننا مغتبطون بقدومنا مدينة نيسابور العظيمة، ذات الأثر العظيم في الحضارة الإسلامية، وها نحن أولاء بجانب الخيام الفلكي الشاعر الكبير، فالى روحه الطاهرة منا تحية ودعاء. ولا ننسى أن نرسل تحيتنا إلى الشاعر العظيم، والصوفي الجليل فريد الدين العطار، ذي المآثر الخالدة في الشعر والتصوف

وإنا لنرجو أن تعود هذه البلاد سيرتها الأولى في العلم والأدب، وأن ييسر الله لها السير في سبيل الرشاد في ظل صاحب الجلالة الشاه المعظم. .

فقام الأديب سيف آزاد صاحب مجلة إيران القديمة (إيران باستان) فتكلم وحيا صاح الجلالة ملك مصر، وقال إنه قد ساءه أن علم اليوم أن جلالته مريض، وطلب من الحاضرين أن يدعو له بالشفاء والعافية. وألقي الأديب رشيد الياسمي قصيدة من الضرب الذي يسمى في عرف أدباء الفرس غزلاً. وهي مردوفة القافية. والرديف في الشعر الفارسي أن تكرر كلمة بعينها آخر كل بيت، ويبني الروي على الكلمة التي قبله. والرديف في قصيدة الياسمي كلمة (رو) بمعنى الوجه. وهذه ترجمة القصيدة عفو الساعة:

قد استسر وجهك في كمال الظهور، وصار من التجلي في حجابٍ من ذلك النور

لا يرى أحد في العالم وجهك، إن كان العالم مرآتك

إني أدعوك حبيب الروح، إذ لا يتجلى وجهك إلا في عالم الأرواح

ولّ وجهك شطرنا، نحول عن الكون والمكان وجوهنا

أيها الربيع لا تستر من العندليب خدك فقد جعل وجهه كورق

الخريف هجرك

فلا حرارة في هذا القلب المتوقد، ولا بسمة في ذلك الوجه المورد

لقد أمضيت العمر في انتظار وحسرة، , آمل أن يلوح وجهك لي مرة

أيتها الشمس إني من الشوق إلى شعاعك الوضاء، أقلب كالهلال وجهي في السماء

أبتغي أثراً من هذا الوجه، ولا أثر، كما ابتغى إسكندر ماء الحياة فلم يظفر

إن تبشرني بوجهك يوماً واحداً، وضعت وجهي على عتبتك أبداً

ان تطلب يا رشيد الكنز فانصب، فان السعادة لا تبدي وجهها لمن لم ينصب

قدمنا الساعة خمساً وعشرين دقيقة، وهي فرق ما بين وقت طهران ونيسابور، وركبنا والساعة ثلاث وربع بعد الظهر متوجهين تلقاء مشهد وبينها وبين نيسابور 116 كيلاً، فسرنا صوب الشرق والجنوب في سهل كثير القرى والشجر، فبلغنا قرية اسمها قدمكاه أي موضع القدم، وسأذكرها في الأوبة من مشهد. ثم اجتزنا بشريف آباد وعندها انعطفت الجادة صوب الشمال فارتقينا جبالاً ضربنا فيها أربعين دقيقة ثم هبطنا إلى المشهد المقدس، فدخلناه بعد مغرب الشمس

افترق الركب فنزل جماعة بفندق هناك، ونزل آخرون في دار أحد الكبراء، جليل بك نصير زاده، وكنت وزميلي الأستاذ العبادي ممن شرفوا بالنزول في هذه الدار المعمورة، فلقينا من الحفاوة والرعاية ما لا يُنسى

المشهد المقدس

في عام اثنين وتسعين ومائة سار هارون الرشيد إلى خراسان لحرب رافع بن الليث بن نصر بن سيار، وكان قد ثار بخرسان واعيا الولاة

وفي صفر من سنة ثلاث وتسعين اشتد به المرض وهو بجرجان فسار عنها إلى طوس، ونزل بضيعة اسمها سناباذ في دار الجنيد بن عبد الرحمن. فلما أحس أجله أمر فحفروا له قبراً في بستان الدار، وأمر جماعة فنزلوا فيه وقرأوا القرآن. وتوفي نصف الليل، ليلة السبت لثلاث خلون من جمادي الآخرة، ودفن في القبر الذي أعده

وفي سنة ثلاث ومائتين كان الخليفة المأمون بن هارون قافلا من خراسان يريد العراق، وقد ثار عليه عمه إبراهيم بن المهدي، فلما بلغ سناباذ نزل عند قبر أبيه أياماً، وكان معه علي الرضا بن موسى الكاظم ولي عهده، فمات الرضا في ذلك المكان في شهر صفر فدفن إلى جانب الرشيد. وفي هذا يقول دعبل بن علي الخزاعي فيما يزعم الرواة:

قبران في طوس: خير الناس كلهم ... وقبر شرهم، هذا من العجب

اشتهرت قرية سناباذ وسميت سناباذ المشهد، ثم أطلق (المشهد) على القرية، وبهذا الاسم ذكرها المقدسي وسماها ابن بطوطة مدينة مشهد الرضا، ونسيت على مر الزمن مدينة (نوقان) وصار اسمها اسم محلة في المدينة الجديدة، ونافست مدينة المشهد مدينة طوس في إقليم خراسان حتى أخملتها. ثم اختفت طوس حين حاصرها ميرانشاه بن تيمور وفتحها فأخربها عام 791

وقد لقيت المدينة من غير الزمان سعادة وشقاوة، وتقلبت بها أحوال مختلفة، ولكن شأنها كان يزداد نباهة على مر العصور.

عنى عظماء المسلمين منذ القرن الرابع الهجري بمشهد الرضا والمدينة التي نشأت حوله. قال ابن الأثير في أخبار السلطان محمود بن سبكتكين الغزنوي: (وجود عمارة المشهد بطوس، وكان أبوه سبكتكين أخربه. وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم من ذلك. وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في المنام وهو يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه أمر المشهد فأمر بعمارته) ثم بنى ابنه السلطان مسعود سوراً حول المشهد ليقيه غارات القبائل المجاورة. وفي القرن السادس الهجري استولى الغز على المدينة ونهبوها ولكنهم أبقوا على مشهد الرضا. وكذلك نهبت في القرن الثامن في عهد السلطان محمود غازان من الملوك الايلخانيين

وأعظم الملوك عناية بالمشهد قبل عهد الصفويين السلطان شاهرُخ بن تيمورلنك (809 - 850) وزرجه جوهر شاد؛ وسنذكرها حين الكلام على مسجدها العظيم

وكان عهد الصفويين عهد نماء وازدهار للمدينة، فقد تنافس الملوك الصفويين في تعمير المشهد وتجميله، وتعمير المدينة كلها، ولاسيما الشاه طهماسب الأول (930 - 948) والشاه عباس الكبير (995 - 1307)، ولكن عناية الصفوين لم تكفها الغارات والنهب، فقد غصبها أمراء الأزبك والشيبانية ثلاث مرات على رغم الصفويين وسيطروا عليها أزمنة مختلفة

وكذلك استولى عليها الأفغان حينما استولوا على إيران. ثم جاء البطل الكبير نادر شاه، فأكثر الإقامة فيها واختط قبره بها، وبنى في المشهد الرضوي أبنية رائعة. ثم عادت إلى الأفغان حينما زلزلت دولة نادر شاه بتنازع خلفائه على العرش. وتداولتها حوادث أخرى حتى استولى عليها آقا محمد خان القاجاري، وقتل سلطانها شاهرخ الأفشاري سنة 1210. وفي العصر الأخير ثار بها على القاجاريين بعض الثائرين فتذرع الروس بهذا إلى الاستيلاء عليها، فأطلقوا مدافعهم على المدينة في 29 مارس سنة 1912، وهي الآن تنال نصيبها من العمران والطمأنينة السائدين في إيران اليوم

والمدينة على ارتفاع 930 متراً وطولها 59 وعرضها 36، في وادي كشف رود (نهر كشف) الذي ينبع على عشرين كيلاً إلى الشمال الغربي من طوس ويسمى أحياناً آب مشهد (نهر مشهد) ويصب في نهر هراة (هري رود) على 150 كيلاً إلى الجنوب الشرقي من مشهد، وتبعد المدينة عن شاطئه سبعة كيلات إلى الجنوب. ويبلغ ارتفاع الجبال عندها ثلاثة آلاف متر. فهي باردة الشتاء، جيدة الهواء.

ونهر كشف لا يسقي المدينة، بل يأتيها الماء من عين اسمها جشمه كلاس عند منبع نهر كشف في قنوات طولها 74 كيلاً جرها إليها الوزير الكبير والأديب العظيم والشاعر المفلق شير علي نوائي وزير السلطان حسين بن منصور بن بايقرا من أحفاد تيمورلنك - (المتوفى سنة 912هـ)

وهي أكبر مدن خراسان اليوم، وتسمى أحياناً خراسان وسكانها زهاء سبعين ألفاً وتجارتها رائجة، ولكنها ليست كعهدها الأول، فقد كانت ملتقى طرق القوافل قبل أن يستولي الروس على التركستان وينشئوا سكة الحديد القزوينية. وبالمدينة شارعان عظيمان مشجران يخترقانها. وكان بها في عهد نادر شاه 60 ألف دار. وسكانها الآن زهاء 80 ألفاً

وهي كثيرة المساجد، والمدارس بها زهاء عشرين مدرسة للعلوم الدينية، أقدمها المدرسة التي أسسها شاهرخ في سنة 823، ويقصدها الطلاب من أرجاء إيران ومن أفغانستان والهند، فيحصلون العلوم الدينية بها تسع سنين، ومن شاء أن يزداد علماً توجه إلى النجف الأشرف

ويحج إلى المشهد كل عام آلاف كثيرة يختلف التقدير فيها من 30 ألفاً إلى مائة ألف. وبها مقابر كثيرة يحرص الشيعة على أن يدفنوا بها، فتنقل جثثهم إليها من الأقطار البعيدة، وتختلف قيمة القبور بها على قدر قربها من الحرم وبعدها

وهي عند علماء الشيعة في المنزلة السابعة بين الأماكن

المقدسة مكة فالمدينة فالنجف فكربلاء فسامراء فالكاظمية

فالمشهد. وفي رواية أخرى أن الترتيب بعد كربلاء هكذا:

الكاظيمة فالمشهد فسامراء فهي السادسة، ولكنها من حيث

كثرة الزائرين واتساع المسجد وضخامته تكون بعد مكة

والمدينة، وقبل المزارات الأخرى فيما أظن

والكلام عن الحرم الرضوي في المقال الأتي إن شاء الله

(عبد الوهاب عزام)