مجلة الرسالة/العدد 81/القصص
→ بين القاهرة وطوس | مجلة الرسالة - العدد 81 القصص [[مؤلف:|]] |
من روائع الشرق والغرب ← |
بتاريخ: 21 - 01 - 1935 |
من الأدب السويدي
الدوار المسحور
للقصصية السويدية سِلما لاجرليف
ولدت السيدة سلما لاجرليف في 30 نوفمبر سنة 1858 بمدينة مارياك من أعمال فرملاند، واشتهرت بأقاصيصها القيمة، ونالت جائزة نوبل في الآداب لسنة 1909 ولا تزال حية
كلما تحدثت عن (بلاد الفير) والناس الذين يعيشون فيها، مر بخاطري حكاية قديمة لقروية خرجت صباح يوم إلى المرعى لتحلب أبقارها. ولما لم تجد الأنعام في المكان الذي اعتادت الوقوف فيه منتظرة إياها، اضطرت إلى أن تتوغل في الغابة باحثة عنها. غير أنها ضلت الطريق
وكانت القروية قبيل أن تخرج من دارها قد ضاق صدرها فلما لم تجد الأبقار ساءت حالها. وبينا هي تشق طريقها بين الأعشاب والحشائش والنمام باحثة عن بقرها، كانت تفكر في حياة السأم التي تحياها، وأنه لا أمل مطلقاً في تبديلها. نعم، أنها تميل كل الميل إلى زوجها، ولكنه أبصرت أن زوجها لم يبق له صبر على العمل إذ تقدم سنه، كما تقدمت هي أيضاً في السن. وهي بطبيعة الحال تميل إلى مزرعتها، فقد ولدت في كنفها وشبت
ولكن ليس لها ان تغض عينيها على صغرها وقيمتها التي لا تشرف. ولا يمكن مقارنتها بالمزارع الواسعة الفخمة الواقعة هنالك حول الكنيسة. ويزيد على ذلك ان مزرعتها تقع في قلب الغابة حتى أن الإنسان لا يرى طوال الأسبوع ادمياً غير من بالدار. أما هؤلاء الخدم فهي لا تريد أن تنسب إليهم ما لا يشرفهم، ولكن الله يعلم أنهم كانوا كسالى مهملين إلى حد فيه الكفاية
وعندما استيقظت في ذلك النهار قالت لزوجها إنه لابد لهما من بيع هذه المزرعة التي تقع وسط الأحراج، وأن يستبدلا بها أخرى توفر لهما معاشهما دون كبير مشقة ولكنه لم يرغب في الاستماع إلى شيء من هذا. وذلك ما أغضبها إذ الحق كلن دون شك في جانبه وفجأة تبينت أن ذلك ما كانت تخشاه دائماً منذ أيام صباها. وكذلك كانت تخشى وقوع هذا الأمر. ولما كانت هذه الأفكار المحزنة هي رفيقتها الوحيدة في تسيارها، فقد نسيت بتاتاً اتباع علائم الطريق أو تتبع الأثر، حتى أصبحت لا تعرف المكان الذي وجدت به، ورأت أمامها شجرة من البلوط خيل إليها أن لها بها سابق معرفة، ولكن شجرة البلوط تلك كانت في أعماق الغابة، ولا يمكن أن تكون قد قطعت في تجوالها كل هذه المسافة. وأنصتت إلى أصوات البقر أو صوت نداء راعيها. ولكنها لم تسمع إلا سقسقة العصافير
وجلست على صخرة ووضعت يدها فوق عينيها. ولكن ذلك لم يفدها شيئاً، إذ أن قلبها كان ينبض بشدة، وانتابتها أفكار شاردة أفزعتها. فقد سمعت من قبل عن أناس ذاقوا الأمرين في هذه الغابة، وضلوا الطريق فيها أياماً وأسابيع، وقد وجد أحدهم ميتاً
ولم تطق القروية صبراً على الجلوس هادئة حتى تتبين معالم الطريق، فقامت لساعتها تضرب في الغابة من جديد دون أن تفكر بعد هذا في البحث عن الأبقار بل أتجه تفكيرها إلى البحث عن الطريق المؤدية إلى دارها
وبعد أن سارت طويلاً دون أن تدرك أين هي، انبثق النور فجأة وتفتقت أمامها الأشياء وتجلت، إذ أخذت الغابة نهايتها، وبينت قبالتها (دواراً) فخماً لأحد الريفيين
وما كادت تلمحه حتى وقفت مبهوتة. إذ هي تعرف عن يقين أنه لا يوجد في هذه المنطقة دوار آخر غير الذي تملكه. وما رأته ألان لن يكون إلا سراباً وصورة كاذبة.
هذا أسوأ شيء رأته، فقد سحر عفريت الجبل أعينها. ولم تبحث عن دوار الجن ولم تجسر على النظر إليه، ولكن أعينها امتدت دون أرادتها إلى ذلك البناء الذي لم تر قط أبدع منه. لقد كانت الدار حقاً قديمة ولكنها مدعمة متينة. وكانت المخازن والأهراء عديدة فسيحة إلى حد أنها تكفي قرية بأملها
قالت لنفسها: (أنه مع ذلك لا شيء هنالك يخالف ما عندي، اللهم إلا أن هذا أجمل وأعظم أضعافاُ مضاعفة. نعم، إن عفريت الجبل لا يهمه الثمن. وقد يخيل إلي أن هذه الدار مشيدة من أشجار البلوط. إذا لم أكن قد سحرت وكانت عيناي تتبينان الأشياء على حقيقتها، فلن يبقى من كل هذه العظمة غير كومة من النمل)
ثم رجعت ثانية إلى الغابة، وكانت تتسلق هضاباً صعبة المرتقى وتنزل غيرها وعرة المنحدر، ومع ذلك لم تجد طريقاً، أو علامة الأميال، أو كوخاً ينشر فيه الخشب، حتى ولا منحدر ماء يصح أن يكون نجماً تهتدي به في طريقها. وكانت تسير وكأنها في قاع بحر خضم اخضر لونه. قالت في نفسها: (هنا وجب علي المسير حتى تعمني موجة خضراء وتطويني ضمنها)
وفيما هي سائرة إذا بها قد وصلت إلى طرف الغابة مرة أخرى. ورأت ثانية نفس الدار الفخمة
وهنالك تلك الدار. وعلى نوافذها ستائر بيضاء، ويتقدمها بضع أشجار من التفاح منبثقة. وكانت مدهونة بدهان أحمر جعلها تتألق في الزينة، حتى لكأنها مشتعلة وسط البقعة الخضراء كحشرة السعادة في ليلة صيف على طريق أخضر يفصل حقلين
وكانت في هذه المرة قريبة منها لدرجة مكنتها من رؤية كل شيء فيها. وكانت آلات الحرث والزرع والعربات موضوعة في مخازنها، كما كانت الأخشاب مصفوفة صفاً. وكانت العربات تسير دون التواء بين الحقول. وكانت الخيول القصيرة الجميلة القوية البناء الممتلئة كالتي تتمناها، ترعى في المراعي التي تأثرت بالصقيع
وكلما أنعمت النظر في كل شيء فيها أثار ذلك إعجابها، وقالت في نفسها: (أي، لو أن هذا الدوار الريفي لي، للذ لي المقام فيه؛ نعم إني أراه منعزلاً بعض العزلة غير أنه جميل للغاية، ومن أمامه البحيرة ومن خلفه الجبل)
وقالت في نفسها (ذلك الرجل الذي يسير الآن بين مباني ذلك الدوار الريفي ليخرج الخيل، لاشك أنه صاحب المزرعة، ولم أر في يوم من من أيام حياتي رجلاً سمهرياً قوياً مثله)
ولكن فرحها الأعظم كان بقطيع البقر الذي خرج تواُ من الغابة ووقف عند طرفها
وقالت في نفسها: (هذه الأبقار مسحورة، لا يشك في ذلك كل من يراها. ضرع طويل وحوالب متوازية. وجميعها ذات لون أحمر كالجمر، أن حلب مثل هذه الأبقار لهو الفرح بعينه. . . . كم لتراً من الألبان تدر هذه الأبقار يا ترى؟)
وشعرت بأن ذلك الأغراء يتزايد عندها ويدفعها إلى التقدم نحو البقر المسحور لتحلبه، ولترى ذلك الدوار الريف الفخم، الذي نسق كل شيء فيه أحسن تنسيق. وتشككت في ضعف طبيعتها. وأخيراً تقدمت نحو الدوار المسحور ولما وصلت إلى حيث وجدت البقر مستلقياً على الأرض استقبلها بخوار من الفرح. ووقفت لتراه، فتقدمت قائدة البقر ووضعت خيشومها في يدها كأنها اعتادت أن تجد شيئاً من لذيذ الطعام في هذه اليد
فأدركت أن هذه الأبقار لا يمكن أن تكون إلا أبقارها. لقد ميزتها من جديد وهي تعرف اسم كل منها
ولكن كيف يتفق هذا وذاك؟ كيف يصح لأبقارها أن تنام عند طرف الدوار الريفي المسحور؟
وفي نفس اللحظة انفتح باب الدار. وخرجت منه بنت صغيرة ذات شعر ذهبي مسترسل، وكانت مرتدية جلباباً أزرق مفوفاً حافية القدمين. هذه كانت ابنتها. ففتحت باب الحاجز. وأخذت الطفلة بين ذراعيها وضمتها إلى صدرها، وقالت لها: (إنك طبعاً ابنتي، ولكن لَم أنت هنا؟)
وقالت الطفلة: (إنني طبعاً هنا حيث يجب أن أكون.)
ووقفت القروية حيرى لا تعي شيئاً. وفي تلك الأثناء بدأت الطفلة التي لا زالت بين ذراعيها تمسح بيدها شعر أمها وتصففه. وبدأت ترفع قناع الرأس الذي أنحدر إلى العنق. ورأت أن أمها ليست كما كانت عليه من تألق وانشراح. ولكن العقدة انحلت وأصبح قناع الرأس في يديها
وقالت الأم (انتظري قليلاً، أديري هذا الرباط على وجهه الآخر قبل أن تعقديه ثانية.)
وظنت أنها بهذه الوسيلة قضت على كل الخيالات التي انتابتها، كما كانت هذه وسيلتها من قبل. وفجأت رأت الضالة أين هي
فهي في دوارها الذي تملكه. هنا حيث ولدت وشبت، ولكن الشيطان قد مسها قبلاً ' لى حد لم تعرف معه دوراها
ووقفت والطفلة على ذراعيها ترمي بنظرها إلى ما حولها، لا، إن هذا الدوار الريفي جميل وعظيم جداً إذا ما نظر إليه المرء باعتباره أجنبياً عنه. الآن عرفت أن لا مثيل له في تلك المنطقة، وكانت تريد تركه. إن كل ما عداه أصبح بغيضاً لها!
وارتأت أن لابد من الذهاب إلى زوجها، وأن تحدثه بكل ما جرى، ولم تقبل ابنتها مفارقتها، وكانت كأن الزوج والطفلة قد التقيا بها بعد فراق طويل
وقال الزوج: (على الأقل ليس هذا السحر الذي مسك بالسحر البغيض. وقد يستفيد الغير فائدة محققة لو أنه وقع لهم مثل هذه الحوادث. أنظري الآن، إنك لم تدركي من قبل ما في دارك هذه. عليك أولاً أن تجوبي العالم وتضلي الطريق مرات عدة حتى تنظري بمثل هذه العين وتدركي قيم الأشياء على حقيقتها
فقالت القروية: (نعم، الحق معك، ومن الحسن أيضاً ألا يضل المرء كثيراً لدرجة يتعسر عليه معها الاهتداء إلى داره.)
عربها عن الألمانية:
ا. ا. ي.