مجلة الرسالة/العدد 808/سيكولوجية الحظ والنجاح
→ الأسرة المنبوذة | مجلة الرسالة - العدد 808 سيكولوجية الحظ والنجاح [[مؤلف:|]] |
إسماعيل في شعر شوقي ← |
بتاريخ: 27 - 12 - 1948 |
للدكتور فضل أبو بكر
أهبت بالحظ لو ناديت مستمعاً=والحظ عني بالجهال في شغل
(الظفراني)
الحظ أو البخت أو الجد أو غير ذلك من المترادفات العديدة التي تعني حسن الطالع والمصادفة الموفقة، إنما هي ألفاظ كثيرة الانتشار تجري على كل لسان بل وفي كل زمان ومكان.
والاعتقاد في الحظ من سعيده أو سيئه ليس مقصوراً علينا نحن معشر الشرقيين دون غيرنا من أمم الأرض؛ فالغربيون بالرغم من دعوتهم بأنهم أكثر منا واقعية - وإن كانوا أجنح إلى المادية - يؤمنون أيضاً بالحظ وربما سبقونا في هذا المضمار.
كلمة الحظ يرددها خاصة الناس وعامتهم. يرددها الغني في لهفة وجشع يود المزيد ويخشى الفقر والإملاق، وهو يشكر للحظ ابتسامته في كثير من الأحيان، لأن الثراء يجذب الثراء من غير كبير عناء، وإنما العناء والمشقة هما في بداية الأمر عند وضع حجر الأساس لصرح ذلك الثراء. والأمل وما فيه من حياة لمحتضر، ومال لعوز، وسعادة لشقي، وأنس لشجي؛ هذا الأمل يخول الفقير المعدم أن يترقب ابتسامة الحظ وإن كانت ابتسامة شاحبة حيناً وعبوساً وتنكراً من جانب في معظم الأحيان فيتبرم بحظه ويشكو من قسوة دهره.
ظاهرة الحظ قديمة كالأزل، فقد ندب آدم - عليه السلام - حظه وشكا من سوء طالعه الذي أوقعه في الخطيئة بأكله من الثمرة المحرمة وما ترتب على ذلك من عقوبة وحرمان هما فقدانه الفردوس وخروجه منه، فكانت جناية جناها على نفسه وعلى بنيه من بعده.
والإنسان من أقدم العصور قد شخص بصره إلى السماء يرصد نجومها ويترقب ما يجري في عالمها، يسائلها عما يخبئه له الغيب من حظ سعيد أو نحس يحل به. وقد تمخض عن ذلك علم (التنجيم) ثم تطوره بمرور الزمن إلى علم ثابت الأساس هو علم الفلك الحديث. ولأسباب مشابهة - إن لم تكن مطابقة - بحث عن (حجر الفلاسفة) الذي إذا ما لامس معدنا ما صيره ذهباً فجلب بذلك السعد والغنى؛ وقد كان ذلك من أكبر العوامل في وجود علم الكيمياء القديم الذي تطور منه علم الكيمياء الحديث. . .
وتلك التمائم والأحجبة التي لجأ إلى استعمالها الإنسان منذ أزمان بعيدة، وما زالت بعض الشعوب البدائية تستعملها إلى يومنا هذا، إنما ترمي كلها إلى غاية واحدة هي جلب الحظ السعيد ودرء النحس والأذى.
كذلك العرب، كانوا في جاهليتهم يتفاءلون ويتشاءمون، يؤمنون بحسن الحظ ويتقون شر النحس وسوء الطالع، يتشاءمون من بعض الحيوانات وخاصة الطيور مثل البوم والغربان. وهاهو شاعرهم يقول من قصيدة يعاتب فيها قومه ويفاخر بتسامحه وبكونه يدرأ السيئة بالحسنة:
وإن زجروا طيراً بنحس تمر بي ... زجرت لهم طيراً تمر بهم سعداً
بيد أن بعض الناس، برغم فكرة الحظ السائدة - أو ظاهرة كما يحلو لي أن أسميها - لا يؤمنون بالحظ، ويعتقدون بأن الإيمان بالحظ فيه شيء من ضعف الإيمان بالقضاء والقدر وإن كنا لا نشاركهم هذا الرأي، إذ أن الاعتقاد في القضاء والقدر لا ينافي بحال من الأحوال الإيمان بوجود السعد والنحس.
وهناك بعض من الناس يفكرون بالحظ ويحسبونه ضرباً من الخيال والخرافة ورأيهم فيه هو رأيهم في (الفول والعنقاء) وينعتون من يؤمن بالحظ (بالمشعوذين) والمهووسين.
وفئة أخرى تؤمن بالحظ في قرارة نفسها وتنكر ذلك أمام غيرها لأن في ذلك خروجاً عن العرف على سبيل (خالف تعرف) كما أن في ذلك - كما يتوهمون - دليلاً على القوة والاعتماد على النفس والاعتداد بها.
بعض ظواهر الحظ ومتناقضاته:
نشاهد في كثير من الأحيان أن نفراً من الناس قد يلازمهم الحظ السعيد طيلة حياتهم فيفوزون بالجاه والثراء ويصلون إلى القمة من أقصر طريق وبغير عناء شديد، مع أن مؤهلاتهم لا تتناسب مع ما حصلوا عليه بل تتنافى معه في بعض الأحيان، وقد يختلف الناس في تعليل ما يشاهدون ولكنهم يتفقون جميعاً بأن ذلك النفر محظوظ سعيد.
وترى أيضاً بعض ذوي الأعمال من الرجال يغامرون في مشروعات ضخمة ينفقون فيها المبالغ الكبيرة من المال من غير وجل ولا خوف مستبشرين متفائلين، يكاد الواحد منهم يجزم مقدماً بنجاحه في شيء من الإلهام وقد تسفر النتيجة في معظم الأوقات عما توقعوه، مع أن نجاحهم قد لا يكون ناتجاً عن تفكير أو تبصر في عواقب الأمور، ومثل هذا النفر يرسم لهم الحظ خطاً يسيرون عليه سيراً (آلياً) بخطوات ثابتة.
كذلك ما نشاهده حول (الموائد المستديرة) للعب الميسر ترى بعض اللاعبين قد تكاثرت أرباحهم وقد يكون ذلك ناتجاً عن كونهم أمهر من خصومهم، ولا سيما في بعض الألعاب التي تحتاج إلى مهارة مثل النرد والدومينة و (البردج)، ولكن هناك أنواعاً من الميسر لا تحتاج إلى حذق أو دراية في كثير أو قليل مثل أوراق (اليانصيب) إذ من الناس من يفوز بربحها مرات عديدة مع أن غيره قد يكون أكثر مواظبة على شرائها، وقد يشتري منها الشيء الكبير ومع ذلك يخسر على الدوام.
ومن الناس من يلازمهم النحس طيلة الحياة، رغماً عما يتصفون به من كفاية ودماثة أخلاق؛ وإذا حصلوا على شيء من الجاه، فهو أقل بكثير مما يستحقون. والكاتب البلجيكي (ماترلنك) وهو كاتب درامي مشهور نال جائزة نوبل سنة 1913 يضرب لنا مثالاً ناطقاً لبعض منكوبي الحظ في وصف جاء منه: (أتيح لي أن أتتبع عن كثب حياة صديق يائس خانه الحظ ولازمه النحس في كل خطوة خطاها. كان مثالاً لدماثة الخلق ورجاحة العقل، ورغما عن ذلك فقد أخفق في معظم ما تصدى له من عمل، كما كان يجيد العاب الفروسية، ويحسن استعمال المهند القرضاب ومع ذلك فقد هزمه خصم هزيل ثلاث مرات متوالية وجرح في كل مرة، وكان ذلك على أثر خصومة سياسية أفضت بهما إلى المبارزة وألجأتهما إلى تحكيم السيف، كما تخلى عنه معظم أصدقائه رغماً عن وفائه لهم إذ الناس ينفرون ممن ينفر منهم الحظ، ويقبلون على من يقبل عليهم. ولم تكن حياته الغرامية بأسعد حظاً من حياته الاجتماعية، فقد أحب وأخلص في الحب ولكنه لم يجن من حبه إلا الخيانة ولم يحصد غير الغدر).
ظاهرة قانون التسلسل والتتابع:
يقول المثل (إن المصائب لا تأتي فرادى)، وهو يطابق تماماً المثل الفرنسي نشاهد في كثير من الأحيان بأن المصائب تتلاحق ويسبب بعضها بعضاً، كما أن النجاح والسعادة يفضيان إلى غيرهما في شبه سلسلة ذات حلقات سعيدة.
ويمكن أن نطبق هذا القانون على سيرة بعض عظماء الرجال مثل هتلر ونابليون وغيرهما من كبار الناس. ولنأخذ مثلاً لذلك نابليون بونابرت.
لما كان نابليون طالباً في المدرسة الحربية بباريس قال يوماً بعض أساتذته: (إن هذا الطالب القرصقي جنسية وأخلاقاً سوف يتبوأ مكاناً عالياً إذا واتاه الحظ). وقد صدقت نبوءة ذلك الأستاذ وسطع نجم نابليون وتألق.
امتاز نابليون في حصار ميناء طولون سنة 1793، وهزم الإنجليز وأنصارهم من الفرنسيين الملكيين، ورقي إلى وظيفة جنرال على اثر ذلك، كما انتصر انتصاراً باهراً في حملته على الإيطاليين سنة 1796 ثم فوزه على النمساويين سنة 1804، ثم هزيمته للروس سنة 1805، وبروسيا الشرقية سنة 1806، ثم هزيمته لإسبانيا والبرتغال بعد ذلك، وهكذا أضحى نابليون سيد أوربا وأعظم رجل بها.
ثم بدأ يخونه الحظ ويأفل نجمه رويداً رويدا وكان بدء ذلك بعد حملته الغير موفقة ضد الروس سنة 1812، إذ حلت بجيوشه هزيمة منكرة في سهول روسيا المترامية الأطراف المكسوة بالجليد ففتك البرد بجيوشه التي لم تجد مأوى ولا قوتاً؛ وبعد ذلك هزيمته في (ليبزج) سنة 1813 واحتلال فرنسا سنة 1814 ونفي نابليون في جزيرة (ألبا)، ثم فراره منها وجمعه لفلول جيوشه التي هزمت هزيمة نكراء في واقعة (واترلو) سنة 1815 ونفيه في جزيرة (سنتهيلانة)، حيث ظل بها يعاني من قسوة الطقس آلاماً جسيمة، ومن قسوة الهزيمة والإخفاق آلاماً نفسية، حتى قضى نحبه سنة 1821.
إن سيرة هذا البطل تخضع لقانون التتابع في صورة واضحة. نجاح متلاحق متواصل يجذب بعضه بعضا حتى إذا ما وصل إلى القمة أعقبه هبوط متواصل أيضاً كما لو كانت الجاذبية تعمل عملها بجذبها إلى مركزها كل جسم من الأجسام، وكما تفعل مع جسم قذفته إلى أعلى طبقات الجو فهو يصل إلى غايته القصوى، ثم بفعل الجاذبية يهبط في خط أقرب إلى الشكل البيضاوي على حد قول الشاعر:
إذا تم أمر بدا نقصه ... توقع زوالاً إذا قيل تم
أو قول الآخر:
ما طار طير وارتفع ... إلا كما طار وقع تبدو هذه الظاهرة أي ظاهرة قانون التتابع غريبة حقاً، وأكبر عامل يمكننا أن نعلل به هذه الظاهرة هو الثقة بالنفس والإيمان بمقدرتها. إن الثقة بالنفس أساس كل نجاح، والنجاح بدوره يزيد من تلك الثقة ويقوي الإيمان، فيتضاعف المجهود ويصدق العزم، وهكذا يجذب النجاح بعضه بعضاً في معظم الأحيان كما يحدث عندما تضعف الثقة بالنفس؛ يحدث الإخفاق وتتوالى المصائب والإخفاق بدوره يزيد من إضعاف الثقة بالنفس والروح المعنوية، وهكذا في شبه دائرة خبيثة حتى تنعدم نهائياً الثقة بالنفس حيث لا يكون غير الهبوط والإخفاق.
الأحاسيس التي تبشر بالسعد أو تنذر بالنحس:
هذه ظواهر مشاهدة لدى الكثير من الناس وقد قصت علينا سيدة تشتغل بالتجارة أنها تشعر مقدماً بما إذا كان التوفيق سيحالفها في عملها أم سوف يخونها الحظ، فزعمت أنها في الحالة الأولى تشعر بنشاط يغمرها ويشر يشع من محياها كما تجد في نفسها مقدرة على التعبير والإقناع وقلما يفلت الزبون - في مثل هذه الأحوال - من قبضتها كما أن توفيقها في إبرام صفقة رابحة يرفع من روحها المعنوية ويكثر من تفاؤلها.
كذلك تروي لنا السيدة المذكورة أنها تشعر في أحيان أخرى بانقباض في النفس وقلق - علمتها التجارب بأنهما مقدمة لعدم التوفيق والنحس فيما تقوم به من أعمال، وإنها لتجزم مقدماً - في مثل هذه الأحوال بالخسارة، أو على الأقل بقلة الربح.
ومثل هذه الأحاسيس يشعر بها لاعبو الميسر، بل هم أعرف بها من غيرهم.
وهنالك ظاهرة (التخاطر) التي أثبت علم النفس وجودها كما أعترف وأقر بها (بيرجسن)، وهي أن ترى رأي العين صديقاً أو قريباً بمناسبة حادث خطير وقع لهما أو تسمع صوتهما وأنت في كلتا الحالتين متمتع بجميع قواك العقلية، وفي حالة صحو تام.
كذلك قد يكون هذا التخاطر في صورة أحلام، وقد تنبئ هذه الظاهرة - سواء كانت في حالة يقظة أو في نوع من الأحلام - بما سوف يحدث من خير أو شر.
بعض الطرق المؤدية للنجاح:
1 - الاعتماد على النفس: هو أساس كل نجاح في الحياة وهو ناتج عن القوة والثقة بالنفس، كما أن عدم الثقة بالنفس هو علامة الضعف ومدعاة للتردد؛ والتردد لاشك فاشل على حد المثل الإنجليزي القائل
2 - تجنب سوابق الإخفاق: إن الإخفاق سابقة تجر إلى غيرها لأن في ذلك إضعافاً للثقة بالنفس، وإذا تكررت فقد تخلق عقدة نفسية عصية الحل ومركباً للنقص يصعب الخلاص منه كما يحدث في (فسيولوجية) الهضم مثلاً إذا أصيب إنسان مرتين أو ثلاث مرات متوالية بسوء الهضم فقد يخلق في نفسه نوعاً من الخوف كفيلاً بإحداث اضطراب قد تطول مدته.
لهذا كان على الطالب الذي يريد أن يدخل في امتحان عام - كالمسابقات - ألا يقدم على ذلك إلا بعد تحضير كاف يكفل له النجاح وألا يقول - كما يقول الكثيرون -: دعني اجرب حظي.
دكتور فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا