الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 808/إسماعيل في شعر شوقي

مجلة الرسالة/العدد 808/إسماعيل في شعر شوقي

بتاريخ: 27 - 12 - 1948


للأستاذ أحمد احمد بدوي

لأسرة شوقي صلة قديمة بإسماعيل سمحت له في إحدى قصائده أن يقول إنه ولد ببابه، وكان لأبيه وجده من قبل، صلة بآباء إسماعيل، وقال الشاعر في مقدمة كتابه الشوقيات: (أخذتني جدتي لأمي من المهد، وكانت منعمة موسرة فكفلتني لوالدي وكانت تحنو علي فوق حنوهما، وترى لي مخايل في البر مرجوة حدثتني أنها دخلت بي على الخديو إسماعيل وأنا في الثالثة من عمري، وكان بصري لا ينزل عن السماء من اختلال أعصابه، فطلب الخديو بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه فوقعت على الذهب أشتغل بجمعه واللعب به، فقال لجدتي: اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض قالت: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي؛ قال: (جيئي به إلى متى شئت. إني آخر من ينثر الذهب في مصر) وتلك القصة تدل ما كان بين أسرة الشاعر وعاهل مصر الكبير من رباط وثيق. ومن المؤكد أن لو كان امتد الزمن بإسماعيل في مصر، حتى نضجت مواهب شوقي في الشعر لكان شاعره الأثير، فقد عرف هذا العاهل برعايته للأدب وحبه للشعراء، ولكن الأيام لم تلبث أن أبعدته عن العرش سنة تسع وسبعين وثمانمائة وألف، وشاعرنا طفل لا يعدو العاشرة من عمره بكثير أخذ الزمن يمضي، وإسماعيل مبعد عن بلاده حتى وافته منيته في مارس سنة خمس وتسعين وثمانمائة وألف، واستقبلت مصر جثمانه؛ وهنا يثور الشعر في صدر شوقي أمام هذا المشهد الفذ من مشاهد الحياة، فيضع قصيدة إسماعيل، يحدثنا فيها عن حياته أو عن العبرة في حياته؛ وإن الجو الذي تخلقه هذه القصيدة، وتحيط به القارئ جو حزن وأسى، والشعور الذي تبعثه في النفس شعور أسف على أن تكون هذه الخاتمة خاتمة ملك ملأ عين الدنيا وسمع الزمان حيناً طويلاً من الدهر.

ليت شعري أكانت تلك الحياة غير حلم امتد ما شاء له أن يمتد حتى إذا انقضى الحلم لم يجد صاحبه شيئاً منه في يديه.

حلم مده الكرى لك مداً ... وسُّدى تبتغي لحلمك رداً

وحياة ما غادرت لك في الأحي ... اء قبلاً، ولم تذر لك بعداً ولم لا تكون حياة إسماعيل تلك الحياة، وقد جمعت الضدين: السعادة والبؤس، وعظمة السلطان، وارتفاع الشأن، ثم الانزواء في مكان ناء حيث لا أمر ولا نهي، ولا تاج، ولا صولجان:

لم ير الناس مثل أيام نعما ... ك زماناً ولا كبؤسك عهداً

كنت إن شئت بدل السعد نحساً ... وإذا شئت بدل النحس سعداً

قائماً بالعطاء والسلب فينا ... كالليالي أو أنت أكبر أيداً

يتمشى القضاء خلف نواهي ... ك حديد الأظفار يطلب صيداً

ويظل السراة منك كريم ... رضيت رفده العناية رفداً

ومعز يصير القيد تاجاً ... ومذل يصير التاج قيداً

أنت من مثل السعادة لو لم ... يك ذاك النعيم أخذاً وردًَاً

ولقد أنصف شوقي إسماعيل وكان صريحاً عندما وصف نفسية إسماعيل بأنها نفسية أبية تبغض أن تجد يداً أجنبية تحاول أن يكون لها نصيب في ملكه وسلطانه، فالعاهل العظيم لا يؤوده الدين، ولو كان في ضخامة الجبال، ولكن الذي لا يستطيع احتماله، ولا يطيق عليه صبراً، أن يجد دائنه يحاول أن يقوض عليه سلطانه أو أن يسلبه شيئاً من حرية الرأي والعمل:

قصد الشاعر منك ركن المعاني ... ورمى طودها الذي كان طودا

والأبي الذي أبى العصر في الملك ... شريكاً لو أن ذلك أجدى

لم ينؤ بالجبال ديناً ولكن ... ودَّ منه الغريم ما لم يودَّا

ولقد رجع شوقي القهقرى، فعاد إلى ذلك العهد الذي استقبلت فيه مصر ارتقاء إسماعيل عاقدة عليه كبار الأماني والآمال وهاهو ذا الأمير النبيل يحقق آمال وطنه فيه بتلك الهمة العالية التي تريد أن تحيل الجهل علماً، والضعف قوة؛ فهاهي ذي يده تشيد في كل يوم للعلم صرحاً، وتنشئ للوطن جيشاً، وتقيم مظاهر الحضارة والعمران لتصبح مصر جديرة بأن تنال ما هي أهل له من عظمة وجلال، وهاهو ذا العاهل العظيم يصغي إلى أمنية بلاده في الحكم النيابي، فتنال الأمة ما تتمناه، ويصون لها مظهرها الخارجي، فوفوده تترى إلى الملوك تنبئهم بأن مصر استيقظت تريد أن تظفر بمكانها نبيلة كريمة، وإذا كان لسلاطين الترك على مصر شيء من الأمر، فهدايا إسماعيل تعرف كيف تستخلص حقوق مصر من أيديهم، والمال في سبيل الآمال رخيص مهما كان كبير المقدار. استقبلت مصر إسماعيل يوم ولايته بقلب عامر بالآمال:

لبس الشرق من لقائك تاجاً ... وتلقى أعوام رشدك عقدا

وجرت فيه بالسعود جوار ... لك منشين مصر ملكاً ومجدا

كل يوم صرح مشيد للعل ... م، وظل يمد في مصر مدَّا

ولواء، وعدة، وعديد ... ونظام نرى به للشهب جندا

وغزاة في البيض والسود تبقى ... مصر فيها مجدداً مستردا

وبريد لها تسيل به القض ... ب، وثان بالبرق أجرى وأهدى

وخطوط بها التنائي تدان ... وبخار به الأقاليم تندى

وبيوت لله ترفع فيها ... وقصور تشاد للحكم شيدا

وأماني للرعية توفى ... وحقوق في كل يوم تؤدى

ووفود إلى الممالك ترجى ... وثمين إلى الحوانيق يهدى

وفي هذا البيت الأخير سياسة إسماعيل نحو سلاطين آل عثمان يهدي إليهم ثمين الهدايا، ليظفر منهم بما يحقق آماله وأمانيه.

ولكن إسماعيل يسير إلى غاياته في غير تمهل، ويمضي إلى هدفه غير متلبث ولا وان كأنه كان يخشى - والعمر قصير - ألا يحقق آمال قلبه الكبير، وهنا يتحدث شوقي وكأنه يهمس إلى الأمير العظيم أو يناجيه بأن في التأني السلامة، وما كان أخلق الأناة أن تحفظ التاج لرب التاج، وأن نصون السعادة والمجد للراعي والرعية! وما كان أخلق الحذر بأن يصون العرش من تلك الأيدي التي امتدت رقيقة ناعمة، فلما ملكت أصبحت شديدة عسراء. ولنصغ إلى هذه المناجاة الحزينة:

يا كبير الفؤاد والهم والآ ... راب مهلاً مهلاً رويداً رويدا

لم تكن حقبة أساءت علياً ... في جنى عمره لتحفظ ودَّا

خذلت منه واحد الترك والعرب ... ، وساءت سيف المشارق غمدا

لا غراماً بحاسديه ولكن ... رهباً أن يبلغ الشرق قصدا ولأنت ابنه الذكي فهلا ... جئت بالطلبة الطريق الأسدا

فتأنيت، والتأني فلاح ... وهو يا ثاقب النهى بك أجدى

وحميت الأيدي العوادي أن تد ... نو، وأن تمتلئ، وأن تتصدى

بالغت بعد لينها لك في العس ... ر، وصار الوعيد ما كان وعدا

وإذا العصر والملوك خصوم ... لك، والناس والمحبون أعدا

ويختم هذه المناجاة بهذا البيت الحزين المبدوء بلو:

ولو أنا صنا وصنت، لعش ... نا الدهر في العز والسيادة رغدا

وكأن هذه المناجاة قد أثارت في نفس الشاعر الكبير ذكرى هذا اليوم الذي لا ينسى في تاريخ إسماعيل، وهو يوم افتتاح قناة السويس. وهل شهدت مصر في تاريخها الحديث مهرجاناً مثله، جعل اسم إسماعيل على كل لسان، وذكر مصر في كل مكان. أين هذا اليوم الذي جعل البحرين يلتقيان، وأضافت مصر فيه ملوك الزمن، وعظماء الأمم، يجدون عند إسماعيل، كرماً أندى من البحر، وأعذب من ماء النيل. ما بال هؤلاء الملوك قد تغيروا مع الدهر، وانقلبوا انقلاب الأيام! وما بال تلك الصور قد مرت كأحلام الليل، لا يلبث الصبح أن يتنفس حتى تمضي ولا تعود!

تهضت مصر بالزمان نزيلاً ... وبأهليه يوم ذلك وقدا

خطروا بين زاخرين ولاقوا ... ثالثاً من نداك أحلى وأندى

بين فلك يجري وآخر راس ... ولواء يحدو، وآخر يحدى

وملوك صيد يراح بهم في ... واسع الريف والصعيد ويغدى

صور لم يكن حقاً، وحلم ... فجع الصبح فيه لما تبدى

وهنا لا ينسى شوقي أن هذا الجلال الذي بدت فيه في ثيابه البلاد قد دفعت مصر ثمنه غالياً، قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وكأن عقل الشاعر ضاق عن أن يدرك كيف أنفقت فتسائل قائلاً:

وقناطير يجفل الحصر عنها ... كل يوم تعدها مصر عدا

ليت شعري؟ هل ضعن في الماء، أم هل ... يضمر الماء للودائع ردا

ولكن الشاعر كان عظيم التفاؤل فأقسم ليعودون هذا المال غلينا كما ذهب، ولسوف تكون تلك القناة مصدر سعادة الوطن كما كانت ينبوع بؤسه وشقائه فيقول:

ليعيدنها إلينا بوقت ... زمن طالما أعاد وأبدى

إن ما أجرت يداك لنرجو ... أن سيحيي البلاد من حيث أردى

ويخيل إلى أن سر هذا التفاؤل إنما هو التأدب أمام ذكرى الراحل الكريم، أما الحوادث التي مرت على الوادي بسبب القناة فقد أوحت إليه بالسخط على حظ مصر منها. وهاهو ذا يقول في قصيدته الكبيرة التي يؤرخ فيها لكبار الحوادث في وادي النيل

جمع الزاخرين كرهاً فلا كا ... نا ولا كان ذلك الالتقاء

أحمر عند أبيض لليرابا ... حصة الفطر منهما سوداء

وليس منشأ تلك النظرة السوداء إيمانه بأن تلك القناة عمل باطل لا خير فيه للوطن، بل هي - كما قال في أسواق الذهب - عز الغد، وكنز الأبد. والنجم الأحد، والوقف الذي إن قلت الوالد قلن يفوت الولد.

وإذا كان هذا المجاز - كما قال أيضاً - هو حقيقة السيادة، ووثيقة الشقاء أو السعادة، خيط الرقبة، من أغتصبه اختص بالغلبة، ووقف للأعقاب عقبة - فلن تكون مصر السعيدة الرائجة إلا إذا كان لها خالصاً، وسلطانها عليه تاماً. ولقد كان شوقي صادقاً في ثورته، شأن كل مصري يرى على ضفتي القناة جنوداً وعدة ليس لمصر فيها فتيل ولا قطمير، يقول شوقي لولديه انظرا ترى على العبرين عبرة الأيام، حصون وخيام، وجنود قعود وقيام؛ جنس غيرنا فرسانه وقواده، ونحن بعراته وعلينا أزواره، ديك على غير جداره خلا له الجو فصاح، وكلب في غير داره انفرد وراء الدار بالنباح.

ولازال هذا شعورنا إلى اليوم، فما دامت القناة ليست لنا فهي خطر البلاد الأغير، من التقاء الأبيض بالأحمر. ولعل ما تنبأ به شوقي يتحقق في القريب فتحيا البلاد بالقناة، وتصبح ينبوع عز ومجد ورخاء.

وإذا كان يوم افتتاح القناة من أيام إسماعيل التي لا تنسى؛ فهناك من آثاره الغر المخلدة ما لا ينساه التاريخ ولا تستطيع مصر أن تنساه يوماً؛ فقد أنشأ لها جيشاً مدرباً قادراً، فتح به أرجاء السودان وقسمه ونظمه، وإن أرض السودان لجديرة أن تفتدى بالمال والدماء. وقد امتدت الآمال بإسماعيل، وداعبته الأماني، تغويه أن يملك كل منابع النيل. فلم يكفه خط الاستواء، وراح إلى الحبشة يغزوها، يريد تلك المنابع التي تجلب الخير إلى مصر مع طميها. وكم ود أن يركز فوق تلك المنابع رايته، فكانت غزوة مشئومة أودت بجيش مصر، ولننصت إلى الشاعر يحدثنا بزهو وفخار على جهود إسماعيل في السودان:

وملكت السودان في الطول والعر ... ض، وفي شأنه المعظم عبدا

نلت بالمال والدما منه أرضاً ... بجبال الياقوت والدر تفدى

ثم نظمته ممالك كانت ... نار تنظيمها سلاماً وبردا

فهنئنا به السعادة عمراً ... وأصبنا به للعين المهدا

وطريق البلاد نحو المعالي ... وسياجاً لملك مصر وحدَّا

ولكن هذه النغمة الفرحة لا يلبث أن يشوبها الألم والحسرة عند الحديث عن غزوة الحبشة وما نال جيش مصر القوي فيها.

ليت لم تغش بعده في حماها ... حبش المكر والخديعة أسدا

سلبوا مصر أي جيش كريم ... كان للمجد والفخار أعدَّا

وما أشد الحسرة تنبعث من هذا البيت:

أنت أنشأته فلم تر مصر ... جحفلاً بعده، ولم تر جندا

وهنا تنهار آمال إسماعيل في فتح تلك الديار.

ونفضت اليدين بأساً على الرغ ... م كأن لم تجد من الصبر بدا

وإذا لم يكن من الله عون ... فأطراح الآمال بالنفس أبدى

وحين انتهى شوقي إلى هذا الحد، وقف يتأمل العبرة في هذه الحياة المجيدة التي قلب الدهر لها ظهر المجن، (وما إسماعيل إلا قيصر لو أنه وفق، والإسكندر لو لم يخفق). ولقد راع شوقي أن رأى الناس يشبهون الدهر في غدره وتقلبه، فأين الملوك الذين وفدوا إليهن وأين السادة الذين تربوا ببابه، وأين الأصدقاء الأوفياء؟ لقد اعرض كل هؤلاء وجفوا، وكفر بالنعمة قوم لولا إسماعيل ما عرفوا معنى الحياة.

ما لمصر رآك في العز لا ير ... سل دمعاً، ولا يبلل خدا

أين ود عهدت منه وعطف ... وولاء مؤكد كان أبدى

وملوك له أتتك وسادا ... ت حداها إليك وفداً وفدا أبت الناس فيك للناس إلا ... أن يجاروا الزمان وصلاً وصدا

فرأيت الحميم أول جاف ... ووجدت الولي في البؤس ضدا

ورجالاً لولاك لم يعرفوا العي ... ش أبوا أن يقدموا لك حمدا

ما رأوا بعدك الأمور ولكن ... يحسنون الكفران حلاً وعقدا

ولقد مرت مصر من الأحداث ما كان مدعاة لأن يذكر الناس هذا العاهل، وما كان ينتظر منه لو أنه ظل على العرش يحوطه ويرعاه. ولقد كان الظرف الذي أنشأت فيه تلك القصيدة مدعاة لأن يثير في نفس الشاعر هذا المعنى، وما كان أخلق دهاء إسماعيل أن يمر ببلاده وقت العاصفة بسلام لو أنه لم يقص عن عرشه إقصاء

بان مجد البلاد إذ بنت والصف ... و، وكان الرجاء حياً فأودى

ودعتك الخطب فينا فلم تت ... رك صواباً لنا ولم تبق رشدا

ولقينا من الحوادث ما لم ... يك يعيا به دهاؤك ذودا

فبكى البائسون منك حساماً ... طالما قد هامة الخطب قدا

وبصيراً إذا المشورات لم تنجد ... ذويها ساس الأمور مُسدا

والآن بعد أن قضى حقوق التاريخ، ووقف يستقبل هذا الجسد الهامد، عاد إلى وطنه بعد طول غيبة، ليرقد فيه رقدة الأبد، وليستريح بعد ما قاساه من عناء الغربة، وبعد البنين، وفقدان الصحة والشباب، والجاه والسلطان، وإن مصر لوفية وإن ظن منها الجفاء، مقبلة وإن خيل منها الإعراض، لا تحمل لخادمها بغضاً، ولا تكن له حقداً؛ وإذا كانت الظروف قد جرت على مصر ببعض المحن فقد غفرت مصر لإسماعيل كل شيء؛ فقد كان يبني لها المجد وضخامة السلطان، وترك لها ما خلد من جليل الآثار.

نازح الدار ما لبينك حد ... ولقرب الديار زادك بعدا؟!

هكذا من قضى حنيناً وشوقاً ... وأنيناً مع الظلام وسهدا

شاكياً للبنين والأمر والصح ... ة والجاه والشبيبة فقدا

عد إلى مصرك الوفية وانزل ... في ثراها واسكن من المهد لحدا

لا تقل أعرضت بلادي وصدت ... مصر خير هوى وأكرم عهدا

وقبيح بالدار أن تعرف البغض ... وبالمهد أن يباشر حقدا غفرت مصر ما مضى لعلى ... وبنيه وللحفيد المفدى

ولآثارك الجلائل فيها ... ولجسم من نابها خر هدا

وختم شوقي قصيدته محاولاً أن يظهر سأمه من الحياة ويرمه بها، ولكنه ضعف ونزل عن مستوى قصيدته الأول: ولم يدل شعره على انفعال حقيقي حاد.

لقد أنصف شوقي إسماعيل في تلك القصيدة فذكر بإعجاب مآثره على هذا الوطن، ولم ينس أن يبين برفق فضل الأناة والإصلاح على مهل.

ولشوقي مقطوعة أخرى قالها حين أشرف في مدينة نايلي على الدار التي كان يقيم فيها إسماعيل، وهنا ذرف عبرتين أثارهما فيه هذا الزمن المتقلب وما مر بإسماعيل من إدبار بعد عز ونعيم، فهاهو ذا يضطر إلى مغادرة داره والرحيل عن بلاده، ويستقبل في كل يوم من الدهر آلاماً مبرحة حتى تنتهي متاعبه بالموت:

أبكيك إسماعيل مصر وفي البكا ... بعد التذكر راحة المستعبر

ومن القيام ببعض حقك أنني ... أرثي لعزك والنعيم المدبر

هذي بيوت الروم كيف سكنتها ... بعد القصور المزريات بقيصر

ومن العجائب أن نفسك أقصرت ... والدهر في إحراجها لم يُقصر

مازال يخلى منك كل محلة ... حتى دفعت إلى المكان الأفقر

وشوقي في غير هذا الشعر الذي خصه بإسماعيل وأنشأه من أجله لا يكاد يعرض لذكره إلا مقترناً بأسمى آيات الإجلال والتكريم، فهو وفي لأبناء إسماعيل؛ لأنه ولد ببابه وارتدى آلامه فمن العار أن يخونه في بنيه.

أأخون إسماعيل في أبنائه؟! ... ولقد ولدت بباب إسماعيلا

ولبست نعمته ونعمة بيته ... فلبست جزلاً وارتديت جميلا

وعند افتتاح الجامعة المصرية، وكان الفضل في إنشائها لابنة إسماعيل الأميرة فاطمة لا ينسى شوقي أن يشيد بولائه العظيم فيقول:

شمائل كان إسماعيل معدنها ... قد يخرج الفرع شبه الأصل للناس

وكثيراً ما نراه في حديثه مع المغفور له فؤاد الأول يلقبه بابن إسماعيل ويدعوه أن يقفو في الإصلاح أثر المصلح الكبير: هلم مثال إسماعيل وانسج ... على منواله المنن الجساما

وأحب أن أشير إلى موضعين آخرين أطال فيهما شوقي الحديث عن إسماعيل. أما الموضع الأول فالقصيدة التي ودع بها اللورد كرومر، وقد أقام له رئيس الوزراء يومئذ مصطفى باشا فهمي حفلة وداع في دار الأوبرا، وخطب اللورد في هذه الحالة فأهان الأمة وأهان الخديو إسماعيل في وجه الأمير حسين كامل ولم يراع شيئاً من الأدب ولا المجاملة، فأنشأ الشاعر في ذلك الحين قصيدة ثائرة، تعبر عن نفس كليمة وقلب موتور. وليس المجال مجال تحليل تلك القصيدة الرائعة، ولكنني أكتفي هنا بدفاع شوقي عن إسماعيل، فقد تمدح المحتل بأنه جلب لمصر الغنى ومد لها أسباب الحضارة، وقضى على إسراف إسماعيل وتبذيره فخاطبه قائلاً:

قالوا جلبت لنا الرفاهة والغنى ... جحدوا الإله وصنعه والنيلا

وحياة مصر على زمان محمد ... ونهوضها من عهد إسماعيلا

ومدارساً ببني البلاد حوافلاً ... حظ الفقير بهن كان جزيلا

قد مد إسماعيل قبلك للورى ... ظل الحضارة في البلاد ظليلا

إن قيس في جود وفي سرف إلى ... ما تنفقون اليوم عد بخيلا

أو كان قد صرع المفتش مرة ... فلكم صرعت بدنشواي قتيلا

لا تذكر الكرباج في أيامه ... من بعد ما أنبت فيه ذيولا

وما أجمل هذا التهكم يزجيه شوقي للمحتل الذي يعد من سيئات إسماعيل إكثاره من بناء القصور:

وامدح قصوراً شادهن بواذخاً ... قد أصبحت مأوى لكم ومقيلا

لو أنه لم يبنها لتخذتمو ... منها المضارب والخيام بديلا

والموضوع الثاني قصيدة أنشأها يحيي بها المؤتمر الجغرافي الذي وفد إلى مصر في عهد الملك فؤاد، وكان إسماعيل قد أنشأ في عهده سنة خمس وسبعين وثمانمائة وألف جمعية جغرافية وكان المؤتمر نزل بدارها فكان في ذلك ما يجدد ذكر إسماعيل قال يخاطب رجال المؤتمر:

كفى بدار تبوأتم أرائكها ... من عبقرية إسماعيل عنوانا ولقد هاجت به الذكرى فذكر أنه لو أدرك عهد إسماعيل لنال ما لم ينله المتنبي من سيف الدولة:

ولو مشت بي الليالي تحت كوكبه ... غادرت أحمد نسياً وابن حمدانا

ولقد وجد شوقي المجال لإحياء ذكرى إسماعيل فأخذ يعد مآثره وجليل أعماله:

ذو همة كفؤاد الدهر لو نظرت ... إلى بعيد دنا، أو جامح لانا

باني المآثر يعجزن الملوك بنى ... بكل ارض لكسرى العلم إيوانا

مد الكنانة أطرافاً ووسعها ... ملكاً وأترعها خيلاً وفرسانا

وفجر الماء في جنباتها فسقى ... ما كان بين عيون النيل ظمآنا

ونص في ثبج الصحراء رايتها ... كالنجم يهدي بأقصى الليل حيرانا

لا تبرح الخيل بالسودان ملبسها ... حتى تغازل بالصومال أرسانا

ولا حقيقة من ملك ومن وطن ... حتى ترى السيف دون الملك عريانا

وقد أفصح شوقي في هذه القصيدة فذكر أن الذي أحبط جهود هذا العاهل، فلم يجن ثمار عمله، هو إنجلترا أدعى الممالك وشيطان الدول، فأينما كان يتجه يجد منها ما يفسد عليه غايته:

شيطان ملك وفتح قد أتيح له ... أدعى الممالك والدولات شيطانا

لم يمض في غارة إلا أصاب لها ... كيداً ينازعه الغايات يقظانا

وهكذا ضاعت آمال إسماعيل التي بناها، يريد بناء ملك عريض وطيد:

خيال ملك تلمسنا حقيقته ... فأخطأتنا، وكانت حظر (يابانا)

لم نصح من عرس دنياه وموكبها ... حتى سحبنا على الأحلام نسيانا

وفي تلك القصيدة تعرض شوقي لتهمة إسراف إسماعيل، ودافع عنه بأنه إنما أسرف في سبيل بناء الملك والنهضة والإصلاح.

وبعد فهذه صورة إسماعيل في شعر شوقي الذي كان يرى فيه - فضلاً عن ذلك كله - خالق نهضة الفكر في مصر والشرق وبهذا العنوان أهدى إليه الجزء الأول من شوقياته.

أحمد احمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول