الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 804/لمحة من سيكولوجية الطفل

مجلة الرسالة/العدد 804/لمحة من سيكولوجية الطفل

مجلة الرسالة - العدد 804
لمحة من سيكولوجية الطفل
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 29 - 11 - 1948


عود على بدء

للدكتور فضل أبو بكر

شرحنا في المقال السابق باختصار - آمل ألا يكون مخلاً - ناحية من سيكولوجية الطفل ووعدنا القارئ الكريم بالعود على ما بدأناه. ولما كان وعد الحر دين - كما يقولون - فأنا نفي بوعدنا في مواصلة البحث حتى يكون القارئ فكرة واضحة جلية على قدر الإمكان عن هذا النوع من الدراسات النفسانية.

أن إدراكنا لحقائق الأشياء يأتي عن طريق الملاحظة والتجارب بواسطة الحواس كالسمع والبصر، أو عن طريق المقارنة والاستنباط بواسطة العقل والبصيرة. وهذه التجارب مادية كانت أو معنوية تكتمل عندنا شيئاً فشيئاً كقطرات الماء تتساقط على الإناء الفارغ فتحتل فراغه وتفعم سعته. وكما أن الأواني تختلف من حيث السعة والطاقة كذلك التجارب عند الناس مختلفة فمنها الواسع المترامي ومنها الضيق المحدود الجوانب.

والتجارب نفسها لا بد لها من أسس ودعائم ترتكز عليها ومن ضمن تلك الدعامات نذكر اثنتين هما الذاكرة والخيال وهما موضوع بحثنا في هذا المقال الموجز.

الذاكرة عند الطفل:

ذكرنا فيما سبق كيفية ملاءمة الطفل - أو غيره من الأحياء - للبيئة التي يعيش فيها وقلنا أن ذلك لا يتم إلا عن الإخضاع والتمثيل وطريق الخضوع والتكييف

والذاكرة - كما سيتضح لنا - يكون عملها عن طريق الإخضاع كما أن الخيال يكون مفعوله من ناحية الخضوع.

وذاكرة الطفل - كما هو متوقع - تختلف اختلافاً أساسياً عن ذاكرة الكبار لأن الذاكرة جزء من (كلية) العقل والعقل محدود الجوانب، صغرها عند الأطفال يتناسب مع صغر أعمارهم وأجسامهم وهي ظاهرة فسيولوجية طبيعية.

وطريقة عمل الذاكرة على وجه العموم تكون بواسطة الطرق الأربع الآتية:

1 - تثبيت الذكريات

2 - بقاء الذكريات 3 - مكان الذكريات

4 - استدعاء الذكريات

هذه هي العوامل الأربعة اللازمة للذاكرة حتى تؤدي وظيفتها وسنشرح فيما يلي كل عامل على حدته:

1 - تثبيت الذكريات: إذا عرضنا أمام ناظر الطفل بعض الأشياء أو الصور أو روينا له حكاية بسيطة مسلية وطلبنا منه بعد حين قصير أن يصف لنا ما شاهده أو يقص علينا ما سمعه تبين لنا أن قوة التثبيت ضعيفة عنده كما أن الماديات تكون أثبت في ذاكرته من المعنويات وأنها تعتمد كل الاعتماد على الحس.

2 - بقاء الذكريات: يكون عنده بطريقة غير متساوية من حيث المدة فقد ينسى ما تقصه عليه منذ ساعات قلائل ثم يتذكره بعد مضي بعض الوقت كما أن بقاء الذكريات يكون مرهوناً بغريزة تمركز اهتمام الطفل حول نفسه ويبدو الطفل هنا أنانياً مغرضاً كما هو الواقع بدليل أن الأشياء التي تهمه دون غيره أو يرى فيها إرضاء لرغبته تكون أبقى في ذاكرته وإن كان هذا البقاء نفسه قصير الأمد، ولكنه عند الأطفال يخضع لسلطان (الوعي) بخلاف الحال عند الكبار إذ يكون بقاء الذكريات عن عمل (اللاوعي).

3 - مكان الذكريات: ونقصد بذلك المكان الذي تحتله بالنسبة لزمن حدوثها وتتابعها وفقاً لدرجة أسبقيتها، وفي هذه الحالة يتضح لنا ضعف ذاكرة الطفل لأنه يجهل فكرة (الزمن) ومن هنا يتعذر عليه ترتيب الذكريات ومن هنا كان لغطه وخلطه للحوادث، ولا ينتظم ترتيب ذكريات الطفل وإحلالها المكان اللائق لها إلا ما بين العام السابع والحادي عشر من عمره إذ يكون وقتئذ قد كون فكرة عن الزمن.

4 - استدعاء الذكريات: هو نوع من الاجترار لما يختزنه مستودع الذاكرة إذ يتسنى للكبار أن يستدعوا ذكرياتهم، وقد تسعفهم في كثير من الأحيان لأنه في استطاعتهم أن يوجهوا تفكيرهم في ناحية خاصة ويتحكموا فيه بخلاف الحال عند الأطفال إذ يكون بطريقة تلقائية غير إرادية كالببغاء وهذا ما يحدث عند الطفل ما بين سن الثانية إلى الخامسة وهو ما نشاهده عند الأطفال حينما يسمعون قطعة من المحفوظات فيكون إلقاؤهم لها بصوت على وتيرة واحدة لا تتغير نبراته بطريقة حرفية تلقائية خالية من الفهم والوعي لما يلقونه.

أسباب ضعف ذاكرة الطفل:

قلنا أن تثبيت الحوادث وبقاءها وترتيبها حسب الزمن واستدعاءها عند اللزوم في ذاكرته كل ذلك إنما يكون بطريقة بدائية غير مكتملة، وذكرنا الأسباب المؤدية لذلك. وهنالك عاملان يؤديان إلى ضعف ذاكرة الطفل وهما: (1) النسيان. و (2) تشويه الذكريات وتبديلها في ذاكرته.

1 - النسيان: يحدث عند الكبار لعدة أسباب: منها (الفسيولوجية) بمعنى أن يعتري الذاكرة نوع من (التأكسد) وعدم القابلية للاستيعاب بسبب التعب الجسمي أو العقلي. وهنالك أسباب (سيكولوجية) كالصدمات النفسية العنيفة التي تحدث في النفس نوعاً من القبض فينشل التفكير ويغيض معين الذاكرة. وأسباب (باثولوجية) كما يحدث في بعض الأمراض العقلية كالذهان والعصاب، أو بعد نوبة الصرع، أو لأمراض معدية أو وبائية كالحمى التيفودية والالتهاب السحائي، كل هذه الأمراض تسبب ضعفاً في الذاكرة ينتج منه النسيان.

كل ما ذكرنا من أسباب إنما هي شخصية تعتري الشخص نفسه فتسبب له النسيان. وهنالك أسباب أخر خاصة بالأشياء تتصف بها تلك الأشياء فتسبب أو تساعد على نسيانها. مثال ذلك تفاهة الأشياء والأثر الضعيف الذي تتركه في الذاكرة فلا يلبث أن يزول وتختفي معالمه. ومنها كون الأشياء بغيضة على النفس غير محببة لها فتلفظها لفظ النواة وتسقطها من حسابها.

أما عند الطفل فأكبر سبب للنسيان ناشئ عن انحطاط درجة تفكيره الذي يشمل الذاكرة أيضاً ولأن إدراكه للأشياء خاطئ وقد سبق أن شرحنا ذلك وبينا الأسباب المؤدية للنسيان عند الكبار.

2 - تشويه الحوادث وتبديلها في ذاكرة الطفل: تأخذ الحوادث والأشياء صورة ممسوخة مشوهة في ذاكرة الطفل وهو يعتقد بصحتها، كما أنه من الصعب بل المتعذر في كثير من الأحيان الوصول إلى تغيير هذا الوضع الخاطئ في ذاكرته.

ولنضرب لهذا مثلاً وهو إذا روينا قصة لطفل ورجوناه بعد قليل من الوقت أن يروي لنا ما سمع أو يقصها على طفل آخر ورجونا هذا الأخير أن يقصها على طفل ثالث تبين لنا في النهاية أن القصة الأولى قد مسخت وكادت معالمها أن تزول؛ وذلك أن كل طفل يزيد عليها من الحواشي والتعاليق بما يتفق وهواه؛ كما نلاحظ ظاهرة أخرى وهي نزعة الطفل إلى (الخرافة) كما قد تبقى آثار هذه الظاهرة عند الكبار ولكنها تصدر منهم عن (وعي) بخلاف ما يحدث عند الأطفال إذ تصدر من (اللاوعي).

الخيال عند الأطفال:

علمنا مما سبق بأن الذاكرة عامل لا بد منه لملاءمة البيئة وهي عند الطفل تخضع لظاهرة الإخضاع ملؤها التحيز والأنانية والمادية، وهي صفات فسيولوجية وسيكولوجية لأزمة لنمو الطفل.

إن الذاكرة والخيال يعملان معاً ويكمل كل منهما الآخر؛ ولكن في بدء حياة الطفل يكون أثر الذاكرة أوضح ظهوراً وأقوى مفعولاً من أثر الخيال الذي يكون في بادئ الأمر ضئيلاً جداً، ثم ينمو بنمو جسم الطفل وعقله وهو بلا شك أسمى مرتبة من الذاكرة، ويعد خطوة واسعة إلى الأمام في سبيل التطور العقلي، وهو بالعكس من الذاكرة يخضع لظاهرة الخضوع والمصانعة وهو العالم الثاني اللازم لملاءمة البيئة، وظاهرة الخضوع والمصانعة هي ظاهرة شاقة عسيرة على الطفل وفيها نوع من التضحية من جانبه.

والخيال - على وجه العموم - هو المقدرة على رسم صور لما وعيناه أو تأملناه من فكر وأشياء، ثم الربط بين تلك الصور والأفكار وإبرازها جليه واضحة في مخيلتنا في شبه (لوحة) كاللوحات الزيتية التي يصورها ويرسمها الفنانون والرسامون.

والخيال ضد الواقع، وإذا قيل عن إنسان إنه خيالي فمعنى ذلك أنه ليس واقعياً، وكما يعرف الفيلسوف الفرنسي (باسكال) بأنه قد يكون مصدراً للأخطاء والأغلاط.

يختلف خيال الكبار عن خيال الأطفال لا في وسعه وخصوبته وذكائه عند الكبار فحسب، ولكن في نوعه وطريقة عمله، فهو أجنح إلى المادية يعنى بها أكثر بكثير من عنايته بالمعنويات كما أنه تلقائي يصل إلى الهدف عن أقرب طريق.

فإذا ما شاهد الطفل مثلاً قطرات الندى في الصباح الباكر تكلل الحشائش أو تتدلى من أعطاف الورد فقد يتبادر إلى ذهنه فوراً بأن الورد حزين باك يذرف الدمع؛ وإذا رأى فراشاً ملوناً يتطاير في الحقول فقد يظنه زهوراً طائرة.

فمن هنا نرى أن خيال الطفل يصل إلى هدفه من غير كبير عناء. وقد يتراءى لنا في هذه الحالة بأن الطفل مسحة شاعرية لأن الشاعر مثل هذه المواقف وبعد أن يكد خياله ويتذوق ما في المشهد من جمال وروعة لا يقول أكثر مما قاله الطفل بأن الورد قد أحمر خجلاً أو بكى حزناً، أو أن الزهور تتطاير فرحاً أو هلعاً، وكل ما هنالك من فرق هو أن الشاعر يحلم ويتذوق والطفل يجزم ويجسد ما يقع تحت ناظره ويرتسم على خياله.

يقول الفيلسوف (أوجست كمت) مؤسس مذهب الإيجابية بأن الخيال يمر بثلاثة أطوار:

الطور الأول: هو الطور الديني فقد تخيل الإنسان الأول فكرة الدين والآلهة، وهي فكرة مرماها الفسيولوجية، والسيكولوجي هو ملاءمة الإنسان لبيئته وأمله في الخلود تتجلى فيها ظاهرتا الإخضاع والخضوع بصورة جلية واضحة. يخضع للآلهة ويتقرب إليها حتى إذا ما فاز منها بالخطوة والرضا استعمل بدوره تلك الخطوة وذلك الرضا في إخضاع بيئته من طبيعية واجتماعية وأصبح أقوى نفساً وأشد مراساً في حربه الدائمة السرمدية مع تلك البيئة.

ذكرنا أيضاً في المقال السابق بأن (الحيوية) هي من مميزات عقلية الطفل يشاركه الإنسان الأول في هذه الصفة إذ كان يعير الأصنام والجمادات شيئاً من الحيوية والإرادة والتفكير ومن هنا كان يخشى بأسها ويرتجي معونتها. كذلك الطفل في سنه المبكرة يرى في بعض الجمادات حياة وإرادة، فأنظر إليه يناجي لعبته ويناغيها حيناً، ثم لا يلبث أن تتغلب عليه صفة القلق السريع والتحول المفاجئ فينبذها ويقصيها. وقد تتغلب عليه غريزة (الإخضاع) والسيطرة وحب الذات إذا لم تسر على هواه أو تتكيف على صورة خاصة كما لو كانت ذات وعي وإرادة.

الطور الثاني: هو أن الطور (الرومانتيكي) والوهمي يظهر فيه الطفل تقدماً محسوساً، فبعد أن كان في الطور الأول يعتقد في حيوية بعض الجمادات من أدوات لعبه تتضح له ماهيتها الحقيقية، ولكنه في هذا الطور يلجأ إلى (الغرض) ويستعمل (المجاز) فيتخيل مجازاً بأن لعبته كائن حي لأن في ذلك لذة شاعرية نفسانية وهذا الغرض نفسه إنما ينتج عن (الوعي). ويمكننا أن نعتبر هذا الطور بداية الشاعرية والخيال الحقيقي. كذلك بعد أن كان الطفل في الطور الأول يعتقدون في وجود (بابا نويل) ولا يرتابون في أمره وبأنه هو الذي يهبط من السماء في صبيحة رأس السنة الميلادية وعيدها ويأتيهم بالهدايا والتحف يبدءون يتشككون في أمره بل ينكرون وجوده وإنما هي حيلة ودعاية من والديهم وذويهم يقصد منها جلب السرور إلى أنفسهم. غير أن هنالك نوعاً من خيبة الأمل تحدث للأطفال حينما تتبين لهم حقيقة (البابا نويل) أو غيره من الأشياء التي كانوا يتخيلونها على هواهم؛ لهذا يفرضون مجازاً وبمحض وعيهم وخيالهم بأن (البابا نويل) يهبط من أعلى السماء ويأتيهم بما يشتهون لأن في الوهم الرومانتيكي لذة نفسية، كما أن في ذلك يحلو للكبار ويشعرون بشيء من السرور لبقاء آثار هذا الطور الرومانتيكي عالقة في أذهانهم وأن كنا لا ننكر بأن غبطة صغارهم هي العالم المباشر لجلب السرور إلى أنفسهم. وهذه اللذة النفسية يشعر بها مؤلفو قصص الأطفال والأمثال الخرافية مثل أمثال لافونتين الخرافية.

الطور الثالث: يتولد فيه عند الطفل كبير من الوعي وينقد فيه ما كان يسلم به تسليماً آلياً تلقائياً كما يجنح إلى الواقعية ويصبح خياله مرتبطاً منظماً بعد أن كان مفكك الحلقات مفقودها في أغلب الأوقات وهو ما يظهره خطأ أو يتراءى للإنسان وسعه بالنسبة لعقلية الطفل هذا الخيال الذي كان واسعاً سطحياً - لتفككه يصبح عميقاً - لتركزه وربطه - محدود الجوانب. كما تبدو عند الطفل آثار قوة الملاحظة.

كما أن آثار الطور الثاني لا تزال تبقى لدى الطل ولكنها تضمحل شيئاً فشيئاً ويحل محلها الخيال العلمي وهو كما يلقبونه (بطور البناء) هو بداية الإنتاج والابتكار لدى الطفل.

هذا وقد يعتري الخيال نوع من الشذوذ في سن المراهقة وهي كما نعلم أخطر الأطوار في نمو الطفل جسمياً وعقلياً ونفسياً نذكر بعضها باختصار.

1 - (الميثومانية) وهي نزعة يجنح فيها لخلق الأكاذيب والقدرة على حذفها وتصبح له عادة وهواية لا ينفك عنها بل تلازمه طيلة حياته إذا لم يبادر بعلاجه منها.

2 - (البوفارزم) نوع من (الميقالومانيا) هو تخيل المراهق بأنه ذات مصونة وشخصية مرموقة.

3 - (الشزويدية) وهو أخطر أنواع الشذوذ والأمراض النفسانية التي قد يصاب بها المراهق. ومن خواصها وعوارضها أن المراهق يستسلم (لأحلام اليقظة) ويستحل الاستغراق فيها يطلق لخياله العنان ويسبح في ملكوت الأوهام ثم يجنح إلى العزلة يهاب المجتمع أو يحتقره في بعض الأحيان ويبني (قصوراً في الهواء) كما يقول المثل.

هذا الشذوذ قد يصاب به بعض الفلاسفة والفنانين ولكنه يقف عندهم عند هذا الحد. أما لدى الطفل فقد تشتد وطأته ويفضي به إلى ما هو أدهى وأمر، ونقصد بذلك داء (الفصام)

ومن علامات ظهوره عند المراهق هي اشتداد عوارض (الشزويدية) فينطوي الطفل على نفسه انطواء تاماً ويبدو خجولاً متكتماً ولا سيما في حضرة من هم مثل سنه، وإذا أرغم على مجالسة غيره فقد يفضل أن يكون ذلك مع الكبار.

يصور له خياله آفاقاً بعيدة وأهدافاً عالية تصبو نفسه إلى تحقيقها ولكنه لا يبدي مجهوداً لتحقيقها لأن المجهود يتطلب مواجهة الواقع ومصارعة الصعاب وهو ما يفر منه فراراً فيفضي به الحال إلى الإخفاق فيحز ذلك في نفسه ويريد من فصامه في شكل (دائرة خبيثة) وكلما ازداد تحفزه وطموحه وتوثبه ازداد إخفاقه وابتعاده عن غايته على حد قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس

أو كما تقول الحكمة القائلة (السائر على غير هدى كلما ازداد جداً ازداد عن غرضه بعداً).

هذه لمحة مختصرة من سيكولوجية الطفل علّ القارئ أن يجد فيها بعض الفائدة.

(باريس)

فضل أبو بكر

عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا