مجلة الرسالة/العدد 800/حب المنطق
→ طرائف من العصر المملوكي: | مجلة الرسالة - العدد 800 حب المنطق [[مؤلف:|]] |
مرصد مراغة ومكتبتها اللذان شيدهما نصير الدين ← |
بتاريخ: 01 - 11 - 1948 |
للأستاذ ثروت أباضة
بعد أن ظهر مقالي بالرسالة يحمل هذا العنوان، جمعتني بالرفاق ندوة جرى فيها حديثهم حوله. قال أحدهم:
- عرضت لنا في هذا الأسبوع شخصية غريبة لم نر لها مثيلا في المجتمع! وقد عرض صديقك آراء عجيبة من الحب وأطلقها في جرأة تدفعها ثروة الشباب، وإن حاول هو أن يكسوها وقار الشيوخ.
قلت: لا تنس أني لم أعلن موافقتي على رأيه. . وأنا عرضته متخففا من تبعته.
- يزعم صديقك.
- لا تناقشني. . فأنا معه على موعد هنا.
وحان الموعد، وجاء الصديق، وعرفوه وعرفهم، وطمأن بنا المجلس، ولكن لم يكد يطمئن حتى التفت إلي الصديق يكسو وجهه عتب وغيظ وقال:
- ماذا؟ أأصبحت تؤثر قلمك على صداقتك؟ قلبي أأفتحه لك وأنا ضنين بما يحوي، وأنت تعلم، فلا تعف بك الأمانة عن إظهاره للناس جميعا. ثم لا تكتفي بذلك، بل تعرفني بأصدقائك، وتخبرهم أني صاحب ما قرءوه من الآراء! هل أصبحت الأسرار. . .
- هون عليك. إن الجالسين أصدقاء قدماء، لم تواتني الفرصة لأعرفهم بك. ولكنني عقدة الصداقة بينكم منذ أن عرفتهم؛ فسرك عندهم في أمان. أما أنني أعرض قلبك، فو الله ما قصدت إلى ذلك، وإنما هي آراء جديدة لم أسمعها، ولابد لها أن تسمع، ولا أحد من القراء يعرفك.
هدأ صديقي بعض الشيء. وكاد أن يجري الحديث إلى غير ما كانوا آخذين فيه، لولا أن تشجع أحد الأصدقاء وعاد إليه يقول
- الآن وقد أوضح لك صديقك مكاننا منه ومكانك منا. فهل لنا أن نسألك بعض الإيضاح لآرائك. . . قلت إن العقل عاطفة يتحكم بها القلب فهل تعني أن القلب إذا أحب يذهب إليه العقل قائلا: لا؟ إن هذه لا تنفعك. . إن تلك التي اخترتها لا تصلح لك، إنها ليست من طبقتك فيطيع القلب ويسلم القياد، وينحرف عما اندفع إليه وسيبحث عن غيرها؟؟ إذ تعترف أنت بما تراه من كوارث الحب، ثم إن هذا القلب الهادئ المستكين كيف تجسر فترميه بأنه أحب؟؟ أيحب ويقبل النصيحة؟؟
قال الصديق: إن العاطفة الجياشة القوية التي يزخر بها القلب المحب هي التي تنشأ عن معرفته بالحبيبة ودراسته لها، فلا يمكن أن أصدق إنسانا وقع في الحب منذ النظرة الأولى، لأن الجمال وحده في هذا النوع من الحب سيكون العماد. ولو كان الأمر كذلك لأحببنا كل الجميلات اللائى يمررن بنا في الشوارع، ولتدلهنا في ممثلات الشاشة. الحب وليد خبرة ومعرفة ودراسة. والخبرة والمعرفة والدراسة أمور يختص بها العقل وحده. والعقل يتدخل أيضا ليعرف إذا كان صاحبه محبوبا أم لا. وعلى هذا الهدى يتجه القلب.
قال صديق آخر: لعلك محق فيما ذهبت إليه، ولو أن الواقع لا يؤيدك.
- إن الواقع لا يؤيد هذا لأن الفكرة السائدة عند القوم إن الحب لا يكون إلا من النظرة الأولى. وذلك ما يجرهم إلى هذا الحب. إنهم يعتقدون أنهم أحبوا وهم في الواقع براء من الحب
- حسن. . ولكن ما مسألة حب المنطق هذه؟ أأن بعدت الحبيبة أحسست بالشوق ليها في عقلك؟ كيف يتهيأ للعقل أن يحب؟
- إنني لم أقل هذا. ويظهر إنك لم تحسن قراءة المقال.
بل إنني أرى أنه لا شيء في الإنسان يحب غير قلبه. ولكن كيف يبدأ هذا الحب؟ بالقلب وحده؟ أم أن العقل يتدخل في هذا الأمر؟ إنني أرى أن العقل والإرادة يتدخلان، حتى إذا تم الحب، فإنهما يبتعدان كل البعد ولا أرى لهما في الأمر بعد هذا. بل إت المحب إذا أحب يفكر بقلبه. . وبقلبه وحده، ولهذا يخشى عليه إذا كان لم يحسن الاختيار في بادئ الأمر. هذا ما قصدت إليه. لعلك فهمت. فإن لم تكن فأنت مثل صديقك هذا لا تريد أن تفهم
وأشار إلي مغيظا، فقد خيل إليه أنني أنا الذي دبرت له كل هذا الهجوم. ولكنه رأى اقتناع الجالسين فارتاح إلى ذلك، والتفت إلي ساخرا
- وماذا تنتظر؟ قم إلى ورقك وقلمك. وسجل الحديث قبل أن يند منه حرف أو كلمة.
وهاأنذا أصدع بأمره. فما عودته إلا الطواعية والامتثال.
ثروت أباظة