مجلة الرسالة/العدد 8/الفضاء وقياسه وتطور رأي العلم فيه
→ العلوم | مجلة الرسالة - العدد 8 الفضاء وقياسه وتطور رأي العلم فيه [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1933 |
عرف من زمن بعيد أن طول الشيء الواحد يتغير قليلا بتغير وضعه بالنسبة لاتجاه سير الأرض، فمثلا إذا أخذت قصبة ووضعتها في اتجاه سير الأرض حول الشمس كان لها طول معين. فإذا أدرتها بحيث تصبح عمودية على اتجاه سير الأرض وجدتها أطول قليلا مما كانت عليه في الوضع الأول. هذا يتعارض طبعا مع الاعتقاد السائد بأن طول الشيء ثابت لا يمكن أن يتغير لمجرد تغير وضعه. والواقع أن هذا التغيير ضئيل جداً لا يظهر إلا في الحسابات الدقيقة وهو أضأل من أن يؤثر أي تأثير محسوس في تجاربنا العادية.
ولم يخطر بالبال أن هذا التغير الضئيل ستنبني عليه نتائج غاية في الخطورة إلى أن تطور العلم عرف سبب هذا التغير. وهاك بيان السبب:
من الثابت الآن أن كل جسم مادي يتألف من دقائق متناهية في الصغر تسمى كهارب بعضها متحمل بشحنة كهربائية موجبة، ويسمى بروتون وبعضها شحنة سالبة، ويسمى ألكترون. فالقلم الذي بيدي هو مجموعة هائلة من تلك الدقائق الصغيرة المكهربة وكذلك كل جسم آخر.
ومن الثابت أيضاً أن أي جسم مشحون بشحنة كهربائية إذا تحرك بسرعة فأنه يصبح مغناطيساً له خواص الجذب. وعلى ذلك إذا تحرك أي جسم مادي بسرعة كبيرة فأن كل دقيقة من دقائقه المكهربة يصبح مغناطيساً، فينشأ بينها تجاذب ينتج عنه انكماش في ذلك الجسم. وقد حسم العلماء مقدار هذا الانكماش بناء على القوى المغناطيسية الناشئة فوجدوه مساوياً تماماً لما يحدث فعلا للأجسام بحركتها مع الأرض.
وعلى ذلك صار من الثابت أن الجسم المتحرك ينكمش قليلا ولهذا الانكماش علاقة بمقدار سرعة الجسم، فكلما زادت السرعة زاد الانكماش وهكذا.
ولكننا نعلم أن في الكون كواكب مثل كواكب السدم اللولبية تتحرك بسرعة هائلة بحيث يصبح لها تأثير محسوس في حجوم الأجسام التي عليها. ومنها ما تبلغ سرعته حداً ينتج عنه حتماً انكماش كل جسم عليها إلى نصف الحجم الذي يكون عليه لو كان عندنا هنا على الكرة الأرضية. بمعنى أن الحجر هنا الذي يكون حجمه متراً مكعباً لو أنتقل إلى هناك ووضع على ذلك الكوكب وأصبح متحركاً معه لصار حجمه نصف متر مكعب فقط.
فإذا فرض مثلا أن في تلك السدم كوكباً مثل الأرض تماماً وعليه أشخاص مثلنا وحياة كحياتنا بالضبط لكان حجم الرجل هناك نصف حجم الواحد منا وكل شيءهناك ينقص حجمه بنفس النسبة.
ولكن ثمة سؤال غاية في الدقة والصعوبة وهو (أينا يا ترى الذي يتحرك بتلك السرعة الهائلة. نحن أم تلك السدم؟) إن كل ما نعرفه أن تلك السدم تبتعد عنا كذا ميلا في الثانية. ولكننا لا نعرف أين المتحرك وأين الثابت. من السهل على سطح الأرض أن يقول الرجل هذا الشيء متحرك وهذا ثابت لأنه يقارنهما بسطح الأرض، فراكب القطار يخيل إليه أن عمود التلغراف هو الذي يجري إلى الوراء ويخيل إليه أنه هو جالس لا يتحرك ولكنه يعرف أن الحقيقة عكس ذلك، إذ ينسب حركة الأجسام إلى الشيء الثابت وهو سطح الأرض.
أما الحركة في الفضاء فليس لها ضابط تنتسب إليه، اللهم إلا إذا اعتبرنا مجموعتنا الشمسية ثابتة وكل ما عداها متحركاً، واعتبرنا أنفسنا مركز الوجود، وهذا غرور نربأ بأنفسنا عنه لعلمنا بأن شمسنا ما هي إلا واحدة بين ملايين الملايين من أمثالها، وإن من الشموس ما هو أعظم منها بآلاف المرات.
لا يحق لنا إذن أن نعتبر أنفسنا ثابتين وإن تلك السدم تطير مبتعدة عنا، لأن لتلك نفس الحق في أن تعتبر نفسها ثابتة وإننا الذين نطير مبتعدين عنها. وعلى ذلك فالحجر الذي نقيسه على سطح الأرض فنجده متراً مكعباً والذي قلنا عنه واثقين أنه إذا أنتقل إلى تلك السدم صار حجمه نصف متر فقط لا يحدث له شيءمن هذا إلا في زعمنا وعلى اعتبار أننا ثابتون، أما في عرف من يكونون عائشين على تلك السدم فالأمر بالعكس، وفي زعمهم أن هذا الحجر إذا قيس على أرضنا فحجمه نصف متر فقط وإذا أنتقل عندهم أصبح حجمه متر كامل.
إذن فحجم الشيء ليس بالقدر الثابت، بل يختلف باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الشخص المشاهد له، والجزء الواحد من الفضاء يختلف مقداره باختلاف الموضع الذي يشاهد منه، فلا معنى إذن لعبارة (متر مكعب من الفضاء) ويجب أن نحدد هذا المتر بأن نقول (بالنسبة لرجل يعيش على كوكب كذا).
عبد الغني علي حسين. مدرس بمدرسة المنصورة الثانوية