الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 8/العلوم

مجلة الرسالة/العدد 8/العلوم

بتاريخ: 01 - 05 - 1933


التيفوس

للدكتور أحمد زكي

اليوم يوم من الأيام التي طواها القرن الثامن عشر بانطوائه. والبلد لندن حين لم يكن لها هذا الشأن الكبير، ولا لمرافقها الصحية هذا الخطر الكبير، ولا لأهلها هذه الثقافة وهذا اليسر المعروف. والدار دار المحكمة وهي التي تقع في سرة ذلك البلد العتيق.

ففي ضحوة ذلك اليوم أخذ الناس يتوافدون على تلك الدار زرافات ووحدانا. هذا مجرم فاجر وفي عينيه القسوة وفي مشيته التحدي، يقوده رجال من الشرطة على حذر وريبة. وهذا مجرم منكسر الحال وفي طرفه الذلة يقوده شرطي، وهؤلاء نفر من ذوي هذا المجرم أو ذاك في أثوابهم تهدل القِدَموعليها لون السنين، وفي أحذيتهم خروق السعي المتواصل، وعلى وجوههم شحوب الجوع وهم الرزق وقذارة الفقر، أو صفرة المرض أو سحنة الإسراف في فنون الدعارات الرخيصة. وهذا أحد المحلفين جاء يمشي في زهو المسيطر، وخيلاء الحاكم، وإلى جانبه صاحب له يرفع عقيرته يجادل صاحبه في شأن من شئون القضاء، يريد أن ينبه من حوله من الطغام أنه خبير بالقانون بالرغم من كونه محلف، عالم بسياسة الملك وتقسيط العدالة على الرغم من أنه أختير من صفوف السوقة وغوغاء الرعية. وهذه عربة فخمة برز منها رجل أنيق الملبس ناعم الحال في وجهه حمرة النعمة وفي جلده دهن الموائد، جاء للتفكه والتسلية لما أعوزه ما يشغل به وقته.

أما في داخل الدار فقد أخذت المقاعد تمتلئ، ثم ما بين المقاعد ثم الزوايا والأركان، وامتلأ ما بين المقاعد والسقف بأنفاس ثقيلة تكاد تسقط، وأبخرة كثيفة ندية تكاد تتقطر، ورائحة تألفت من روائح ذات أسباب عدة كلها مما لا يطيب إلا في أنوف الكلاب. ودخل المحلفون فأثار اهتمام الجمهور وعلم الناس حينئذ أن القاضي يكاد يدخل القاعة، ولم يلبثوا أن صاح بهم صائح قي صوته قوة وإمرة (وقوفاً) فوقف الناس ودخل صاحب الجلالة القضائية وعلى رأسه عارية من الشعر بيضاء، كأنما تطمئن الناس إلى عدل القضاء. وجاء الناس وأفتتحت المحكمة وجيء بالمذنب بعد المذنب وقام الاتهام فصال وجال وبالغ في وصف الجرم ما شاء له حرصه على المجتمع أن تعبث به يد الفساد، وتذهب بطمأنينته نزعات من

الشر خالدة في نفوس البشر. وقام الدفاع فأنكر الجريمة فدفع الحجة بالحجة والغضبة بغضبة أشد منها وتقبضت كفاه، ولما لم يكن من حسن اللياقة دخول الأكف في النقاش أنهال على المنضدة حتى أوجع كفيه، ولكن ذلك كان ثمناً طيباً للأثر الطيب الذي كان لدفاعه عند الجمهور. وجاء دور المحلفين فقالوا كلمتهم، وجاء دور القاضي فنطق بالأحكام. وانقضى اليوم والجمهور بين راض وحانق. ومضى أسبوع فأسبوع فشاع في الناس أن رئيس المحلفين قد مات، فعلم الحانقون انهم كانوا مصيبين في حنقهم وإن الحكم كان خاطئاً، وقال الراضون إن هو إلا سهم طائح طائش عارض من سهام عزرائيل أصاب المرحوم اتفاقا. ومضى أسبوع وشاع بين الناس إن إثنين من المحلفين قد ماتوا، فزاد الحانقون حنقاً على الأحكام، وأخذ الراضون يرتابون من صحة الميزان، ولكن الحق وضح واليقين تجلى لما مات القاضي بعد ذلك بأسبوع. وهل مات أحد من الجمهور؟ بالطبع لم يبلغ الناس شيءمن ذلك، وما كان من الممكن أن يبلغهم.

وجاءت جلسة قضائية تعقبها جلسة أخرى. فزادت الجنائز وامتلأت المقابر وسر الدفانون. فبان ما لم يكن بائناً من قبل، ذلك أن جمهور النظارة أيضاً حصد منه الموت أكبر حصاده، وزالت الرابطة ما بين الأحكام وبين الأموات، وعلم الناس إنه وباء من تلك الأوبئة التي يبعثها الله على عباده من حين إلى حين لغرض لا يعلمه إلا سواه، وخافوا تلك المحاكم واستشأموا منها وأسموها السوداء.

وفي هذا الشهر الحالي من القرن الحالي في مدينة القاهرة في أشد عيادات العالم المتمدن ازدحاماً وقذارة وسوء حال، وقع حادث كما ذكرناه فأصيب بضعة من أطباء القصر العيني ومساعديهم بنفس ذلك المرض الذي ذكرناه، ولكن علم الإنسانية بأعداء الإنسان زاد كثيراً، وفقهه للأوبئة تقدم تقدماً كبيراً، فما كادت تعرض الأعراض، على المنكوبين المذكورين حتى عرف المرض الخبيث وأسرع إليهم بالعلاج، أو بالقدر الذي يستطيعه الإنسان من ذلك في المرحلة الحاضرة من تقدمه في فهم هذا المرض، والذي نتمناه ألا تنشر هذه الكلمة حتى يدخل الأطباء المصابون دور النقاهة، والذي نتمناه أن يمن الله على من لم نسمع بهم ممن لاشك قد أصيبوا من المرضى الخارجين بالقصر العيني، والذي نتمناه أن يكون هذا درس نافع للجميع لا للقاهرة فحسب، بل في الريف كذلك.

أما التيفوس فمرض من أخبث الأمراض، ولاشك أنه قديم ولكن القدماء لم يتبينوه لاشتباه أعراضه بأعراض الحميات عامة، وهو قد يتوطن في الأقطار فتظهر منه إصابات قليلة، ولكنها ثابتة العدد لا تتغير إلا يسيراً، وقد يمتد في القطر فينتشر وباؤه فيحرث في الناس حرثاً، ففي الوافدة التي زارت أيرلندا عام 1846 حصد التيفوس من عاصمتها وحدها نحواً من ستين ألفاً. ويساعد على إحياء التيفوس ونشره ازدحام الناس مع سوء الغذاء والقذارة، لذلك تراه يظهر في الحروب بين الجيوش، وآخر أمثلة ذلك الوافدة التي زارت بلاد الصرب في الحرب العظمى، وذلك إن النمسا هاجمت البلاد الصربية لأول مرة فهاجر السكان من غير المحاربين إلى الجنوب في ازدحام وفاقة وعري وسوء حال، فأستيقظ الوباء النائم وبلغ أشده في عام 1915، وعندئذٍ خافت النمسا على جيوشها وكانت تنوي مهاجمة الصرب المرة الثانية فأجلتها، وقام هذا المرض الوبيل نيابة عنها ففتك بالصرب أشد فتك فمات منهم بسببه في ستة أشهر مائة وخمسون ألف نفس.

والتيفوس تنتقل عدواه بواسطة القمل، وبالقمل وحده على قدر ما حقق الباحثون. ومن الغريب أن هذه الحقيقة لم تدخل دائرة اليقين إلا في عام 1909 فأنهم حقنوا قرداً بمقدار من دم مريض بالتيفوس فانتقلت العدوى إلى القرد فربوا عليه قملا ونقلوا هذا القمل إلى قردة أخرى فأصابتها العدوى. وهذا يفسر لنا أن التيفوس يحصل إذا اجتمعت الزحمة والفقر وفي الحروب، ولقد صدق من أسماه (داء القذر) ويفسر لنا سرعة انتشاره من مريض لصحيح، ومن المريض للطبيب، ويفسر لنا أنه ينتشر في البلاد المعتدلة وفي الباردة على الأغلب في الشتاء أي في الحين الذي يرغب فيه الناس ولا سيما فقراؤهم عن الاستحمام وفي الحين الذي يزدحمون فيه في المساكن والقيعان رغبة في الدفء وهرباً من البرد.

أما سبب المرض فغير محقق تماماً إلى الآن. يظن بعضهم إنه فعل جراثيم دقت حتى عجزت عن رؤيتها أكبر المجاهر، وصغرت حتى عجزت مرشحات الجراثيم المعروفة عن حبسها، ولكن أكثر البحاث اليوم يرون أن هذه الجراثيم على صغرها يمكن ترشيحها، ودليلهم على ذلك أن دم المريض إذا رشح ثم حقن الراشح منه في جسم سليم لم تصبه العدوى. وقد حاول كثيرون الحصول على هذه الجراثيم، ونجح كثيرون في الحصول على جراثيم، ولكن جراثيم الباحث لم تطابق في الصفات جراثيم الباحث الآخر، فدل ذلك على أنها عوارض، وبعضها لا يعطي المرض فهي ليست جراثيم المرض. ولعل أوثق ما أستكشف في هذا الصدد مما له علاقة بهذا المرض جسيمات صغيرة وجدها الباحث ريكيتس عام 1909 في دم المرضى ببلاد المكسيك، وأمن على وجود أشباه لها فون فرو فازيك أثناء بحثه عام 1910 في بلاد الصرب، وجدها في باطن خلايا الدم البيضاء للمرضى، وسميت هذه الجسيمات بأسمي هذين الباحثين اللذين ذهبا ضحية المرض تشريفاً لهما وحفظاً لذكرهما. ومن بعدهما وجدت هذه الجسيمات في القناة الهضمية للقمل. والأبحاث في هذا السبيل لا تزال جارية تبعث بأشعة من نور ضئيل في ظلمات هذه العلة المبيدة.

وأعراض التيفوس تشابه من بعض الوجوه أعراض التيفود لذلك كانا يختلطان على الناس حتى جاء جرهارد عام 1837 ففرق بينهما. وسمى المرض الثاني بالتيفود ومعناها شبيه التيفوس: والمدة التي تمضي على دخول الميكروب في الجسم وظهور أعراضه تسمى مدة الحضانة، وبئست هي من حضانة، تتراوح ما بين خمسة أيام إلى واحد وعشرين يوماً، وتظهر الأعراض على الأرجح بغتة وقد تظهر بالتدرج. فترتفع الحرارة ويصحب ارتفاعها قشعريرة يصحبها صداع شديد وقيء، ويكون الهذيان أول الأمر زائطاً، ويظهر في نحو اليوم الخامس على جلد المريض طفح، وفي الوجه ثقل وبلاهة. وفي الأسبوع الثاني يصبح الهذيان تمتمة، وإن شاء له الله الشفاء والسلامة نزلت حرارته في نحو اليوم الرابع عشر فجأة وصحبها عرق غزير.

ولا سبيل لاتقاء التيفوس إلا بتطهير السكان من القمل، والقمل من الحشرات التي يمكن استئصالها ولو أن كثيراً من المصريين في الأحياء الفقيرة وبؤساء الريف يظنون أن القمل كالبق لا سبيل لاستئصاله، وربما أتينا في كلمة أخرى على طرق ذلك.