الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 796/مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي

مجلة الرسالة/العدد 796/مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي

مجلة الرسالة - العدد 796
مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 04 - 10 - 1948


للأستاذ عطية الشيخ

المفتش بوزارة المعارف

كنانة الله:

أيها المصري الكريم! إذا ادلهمت حولك الخطوب، واكتنفتك المحن، وطمع الإنجليز في جنوب واديك، وكشر الصهيونيون عن أنياب غدرهم في فلسطين، ومالأت هيئة الأمم ظلم أعدائك وأهملت حقك، فلا يهولنك الأمر ولا ترع، فمن قبل هذه الأقوام كانت أمتك تحتضن الدهر وهو غلام، وتعلم الشعوب وهم رعاع، وتحمل مشعل العلم والمدينة والناس جميعاً في ظلام، ثم قامت عروش، وتكونت دول، وبادت أمم، وتغيرت خرائط العالم مرات ومرات، ومصر هي مصر، كنانة الله في أرضه، وجامعة المبادئ الفاضلة، وملاذ المدنيات وقبلة العالمين. أقرأ إن شئت ما قلت به مصر في القرن الثالث عشر الميلادي وحده، لتعلم كم لبلادك العزيزة من أياد على الناس أجمعين، وأنها بحق كنانة الله في أرضه.

أمة تتحطم:

جاء القرن الثالث عشر الميلادي والخلافة العباسية في بغداد تحتضر، ويقوم بالحكم الفعلي في أرضها (الأتابكة) وهم أمراء سلاجقة، تقسموا الدولة بعد موت ملك شاه سنة 1092 ميلادية. هذا في المشرق، وأما في المغرب، فكانت مدن الأندلس تتساقط أوراق الخريف أمام هجمات الأسبان حتى سقطت (قرطبة) نفسها 1236م وكانت دولة الموحدين في الشمال الإفريقي قد آذنت بزوال، كما كانت سواحل بلاد الشام جميعها لا تزال في ايدي الصليبيين بعد أن أسترد صلاح الدين الأيوبي مدنهم الداخلية، أما في مصر فكان سلاطين الأيوبيين ومن بعدهم المماليك يحكمون من القاهرة مملكة قوية، تضم في معظم أيامها مصر، والنوبة، واليمن، وبرقة، وأكثر بلاد الشام وفلسطين؛ ويمتد ملكها من الأناضول شمالاً إلى بلاد السودان جنوباً، ومن الفرات شرقاً إلى تونس غرباً. وتعاقب على العرش في هذا القرن الملك العادل أخو صلاح الدين (1198 - 1219) ثم الصالح أيوب بن الكامل (1238 - 1249) ثم شجرة الدر زوجة الصالح، وأبنه نوران شاه (1239 - 1250) ثم أنتهى سلطان الأيوبيين وورثهم المماليك (1250 - 1517) وكانت مصر في هذا القرن أقوى أقطار الإسلام لأتساع ملكها ووفرة خيراتها، وما انضوى تحت لوائها من ممالك وأمصار، ولما في عنصر هذه الأمة الكريمة من حيوية يشيب الدهر من حولها ولا تزال أبداً فتية، ولأن حكامها آنذاك، من أيوبيين ومماليك، كانوا قواداً عسكريين، قبل أن يكونوا ملوكاً حاكمين نبتوا في كنف المعارك ونشأوا تحت ظلال السيوف.

أخطار ثلاثة:

كان أعداء الإسلام في ذلك القرن ثلاثة: هم الصليبيون، والمغول، والحشاشون.

(1) الصليبيون: قضى المسلمون القرن الثاني عشر كله في جلاد مرير مع الصليبيين، تزعمه عماد الدين زنكي، نور الدين محمود، وصلاح الدين الأيوبي، وأنتهى القرن الثاني عشر ومات صلاح الدين الأيوبي 1193، ولا يزال الصليبيون يملكون سواحل الشام من إنطاكية إلى غزة، وقد علمتهم حروب صلاح الدين أنهم لا يستطيعون الأستقرار في بلاد الشام ما دام في مصر دولة قوية، فوجهوا غزواتهم في القرن الثالث عشر إلى مصر ليفتحوها بعد القضاء عليها، وبذلك يؤمنون مملكة أورشليم. وكانت أول حملة صليبية على مصر في هذا القرن (1218) بقيادة (جان دي برين) واستولوا على دمياط، وأخذوا يزحفون على القاهرة، فمات الملك العادل حزناً، وترك أمر الدفاع لأبنه الملك الكامل الذي ورث البطولة عن أبيه وعمه (صلاح الدين)، فأقام الاستحكامات في المكان الذي سمى فيما بعد بالمنصورة، وجاءته النجدات من اليمن والشام، والمتطوعة من سائر البلاد الاسلامية، وأنتهز فرصة فيضان النيل، فقطع الجسور، وأحاطت المياه بالصليبيين، ورأوا استماتة المصريين في الدفاع، فطلبوا الصلح وانقلبوا خائبين سنة 1221م.

وفي سنة 1228م. استطاع فردريك (إمبراطور ألمانيا وملك جنوب إيطاليا وزوج ابنة قائد الحملة السابقة جان دي برين) بحسن حيلته وبما أشتهر عنه من حب الإسلام والمسلمين، أستطاع أن يعقد مع الملك الكامل اتفاقاً على أن يعطي بيت المقدس بشرط أن يحتفظ المسلمون فيها بأماكنهم المقدسة، وأن يساعد (فردريك) (الكامل) على أعدائه، وأن يمنع النجدات الأوربية عن الإمارات الصليبية الباقية في سواحل بلاد الشام، كطرابلس، وإنطاكية. وقد أنكر هذا الأنفاق المسلمون أشد الإنكار، لأنه أخرج بيت المقدس من أيديهم، كما أنكره الصليبيون لأنه حرمهم سبل النجدات الأوربية، وتركهم فرادى في بلاد الشام، يحيط بهم المسلمون إحاطة السوار بالمعصم، وقد برهن الزمن على بعد نظر الملك الكامل إذ حفظ بهذه المعاهدة مصر من الغزو، وكانت أمل الإسلام والمسلمين في هذا القرن، واستطاع الصالح أيوب بن الكامل أن يسترد بيت المقدس سنة 1244م وأحرق أحياءها الصليبية.

ثارت أوربا لعودة القدس إلى كنف الإسلام فجاءت حملة صليبية بقيادة (لويس التاسع) ملك فرنسا، واحتلت دمياط سنة 1248م. فعسكر المصريون في قلعة المنصورة، وكان الملك الصالح يقود الجيش محمولا على محفة لمرضه، وأستنجد بالمسلمين فجاءوه من كل مكان، حتى اكتظت المنصورة بالعسكر، ورابط الأسطول المصري في النيل تجاهها، ولواؤه معقود (لبيبرس) ثم أشتد المرض على الملك فمات في نوفمبر سنة 1249، وأخفت زوجته شجرة الدر موته، وحملته في تابوت سراً إلى القاهرة في جنح الظلام، وإمعاناً منها في الإخفاء، كانت تمد سماط السلطان كالعادة، وتوقع باسم السلطان على ما تصدره من أوامر، توقيعاً مشابهاً خطه لمهارتها في الكتابة، وأخذت البيعة لأبنه (توران شاه) على الأمراء والقواد، وأرسلت تستدعيه من الشام سراً. مع كل هذه التحوطات من شجرة الدر؛ علم الإفرنج في دمياط بموت الملك، فزحفوا إلى الجنوب براً وبحراً، واستولوا على فارسكور، ووصلوا المنصورة في ديسمبر سنة 1240 يفصل بينهم وبين المصريين بحراً أشموم (البحر الصغير) وبدأت المناوشات وكان المسلمون ينفردون بمعرفة أسرار النار الإغريقية فأصلوا الفرنج بها براً وبحراً، ولم يستطع (لويس) بناء جسر على البحر الصغير، ولكنه وقف من خونة بلدة سلامون (غير المسلمين) على مخائض في البحر الصغير، فعبرته فرقة كبيرة من جيشه إلى بر المنصورة، وفاجأت المصريين على غير أستعداد منهم ولا علم، فقتل القائد المصري ووصل (الصليبيون) إلى أبواب (القصر السلطاني) وشجرة الدر تدير المعركة بجأش رابط فأصدرت أمرها لرجال الأسطول، فأسرعوا بقيادة بيبرس، وكانوا نحو ألف، وأطبقوا على الفرنج ومزقوهم شر ممزق، وقتلوا زهرة شبابهم، فلم يستطع الإفلات منهم الإ القليل. وكانت واقعة المنصورة هذه في فبراير سنة 1250، وبعد عشرة أيام منها وصل توران شاه إلى الصالحية، فأعلن وفاة الملك الصالح لأول مرة، وسلمت إليه مقاليد الملك، بصفة رسمية، ثم جاء إلى المنصورة وتسلم من شجرة الدر القيادة ومقاليد الأمور. وكان الصليبيون لا يزالون معسكرين بجدبلة، في العدوة الأخرى من البحر الصغير، والمؤن تأتيهم من دمياط بطريق النهر، فصنع المصريون سفناً حملوا أجزاءها على ظهور الجمال، وأنزلوها في البحر بعد تركيبها قريباً من دمياط، لتقطع الطريق على جيشه الفرنجة، فقامت بعملها خير قيام، وأشتد الأمر على الصليبيين وساءت حالتهم، ودب إليهم الجوع والوهن، وكانت النيران التي تطلقها عليهم حراقات المسلمين تزيد كربهم. فطلب (لويس التاسع) المفاوضة، ولكن المصريين لم يقبلوا، فأخذ ينسحب بجيشه في جنح الظلام، ولم يدر أن عيون المصريين منه بالمرصاد، فطاردوه طيلة ليله، ولم يسفر الصباح حتى أحاطوا بجيشه براً وبحراً قرب فارسكو، وهزموه شر هزيمة، وقتل من جيشه ثلاثون ألفاً غير من غرق منه في النهر. ولجأ الملك هو وخمسون من خاصته إلى قرية (منية أبي عبد الله). (ميت الخولي عبد الله)، وطلب الأمان فمنحه، وأعتقل بالمنصورة في دار القاضي فخر الدين بن لقمان، وأرسلت البشائر إلى جميع الأنحاء نذكر منها على سبيل المثال رسالة توران شاه إلى نائبه بدمشق يبشر المسلمين كافة بما منّ الله به على المسلمين من الظفر بعدو الدين، فإنه كان قد أستفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد والأهل والأولاد، فنودوا لا تيئسوا من رحمة الله وبذلنا الأموال وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان المطوعة، وخلقاً لا يعلمهم إلا الله.

فلما كانت ليلة الأربعاء، تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم وقصدوا دمياط هاربين، ومازال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، وقد حل بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى بنفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس (الملك) إلى المنية وطلب الأمان فأمناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته، وجلاله وعظمته.

وقد خلد أبن مطروح ما حل بهذه الحملة في قصيدته التي منها.

قل للفرنسيس إذا جئته ... مقال نسح من قئول فصيح

آجرك الله على ما جرى ... من قتل عباد يسوع المسيح

سبعون ألفاً لا يرى منهم ... إلا قتيل أو أسير جريح تخلصت مصر من هذه الحملة. . . ولكن مهمتها التاريخية لم تنته بعد، إذ كان الصليبيون لا يزالون ممتلكين سواحل بلاد الشام، فأخذ الظاهر بيبرس بعد أن تبوأ عرش مصر ينازلهم، حتى أستولى منهم على (صفد ويافا وأنطاكية) ثم جاء السلطان خليل بن قلاون من بعد، وحاصر (عكا) وضيق عليها الخناق ففتحها سنة 1291م ولم ينج من حاميتها أحد، وأحرق المدينة، فدب الخور في قلوب الباقين من الصليبيين ببلاد الشام، ولاذوا بالفرار، مخلفين وراءهم قلاعهم وحصونهم، وخلصت مصر المسلمين من شرور الصليبيين الذين دفعهم تعصب البابوات إلى هذه الحرب الطاحنة التي أستمرت قرابة قرنين من الزمان، وعاد السلطان خليل إلى القاهرة يسوق اسرى الفرنج مكبلين، وأعلامهم من خلفهم منكسة، ورءوس قتلاهم على ألسنة الحراب (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً).

(ب) المغول: في أوائل القرن الثالث عشر خرج (جنكبر خان) من أواسط الصين على راس جيش من المغول، وهجم على بلاد الاسلام، فأستولى على التركستان، وخراسان، والهند وخرب مدنها سنة 1219، وعاد إلى بلاده بعد أن ترك البلاد التي فتحها في أواسط آسيا وجنوبها قفراً بلقعاً، ثم غزا خلفاؤه بلاد فارس والعراق، ولم تأت سنة 1258 حتى كان (هولاكو) عاهل المغول على فارس، قد استولى على بغداد، وأزال ملك العباسيين وقتل الخليفة المستعصم وأفراد أسرته وعشرات الألوف من البغداديين، في مناظر هائلة، ومشاهد مروعة، من التدمير والتخريب، وتابع سيره نحو الشام كالسيل الجارف، والريح العاصف، فأستولى عليها في سرعة البرق، وأرسل إلى مصر رسالة تهددها فيها بالغزو إن لم تخضع وتسلم؛ وكان على عرش مصر إذ ذاك المملوك (قطز) الذي قابل رسالة هولاكو بما تستحقه فمزقها، وقتل رسله، وكان هذا الرجل المجاهد قد أعلن للمصريين أنه لم يتبوأ العرش إلا لتخليص البلاد من المغول، وأنه سيترك الملك بمجرد الانتصار عليهم، فسار بجيشه لملاقاة التتار، وقابلهم على مقربة من بيسان في موقع يسمى (عين جالوت) ولأول مرة ذاق المغول على يد المصريين هزيمة منكرة فروا على اثرها هاربين إلى ما وراء نهر الفرات، واستطاعت مصر أن تؤدي رسالتها التاريخية في حماية المدنية الإسلامية.

ولما تولى عرش مصر (الظاهر بيبرس) بعد قطز أخذ يعمل على إعادة الخلافة العباسية، وإرجاع المغول إلى ديارهم.

ولتحقيق الغرض الأول، أستدعى أحد أبناء العباسيين إلى القاهرة، ونصبه خليفة، ولقبه (المستنصر بالله) وبقيت هذه الخلافة العباسية في مصر حتى فتحها العثمانيون.

ولتحقيق الغرض الثاني سار على رأس جيش كبير وعبر نهر الفرات على ظهور الخيل، وأوقع بالمغول هزيمة شنيعة، وطردهم من تلك الأصقاع.

يئس المغول من التغلب وحدهم على مصر، فأخذوا يراسلون (بابا) روما، وملوك أوربا، لإرسال حملة صليبية، تشاركهم في محاربة المصريين، وكان ذلك في أيام السلطان (قلاوون) (1277 - 1270) فسار إلى المغول وهزمهم هزيمة منكرة عند (حمص) لا تقل عن هزيمتهم في (عين جالوت) كما أن السلطان خليل بن قلاوون قد حارب المغول واستولى على كثير من قلاعهم، وبذلك قضى على الخطر المغولي المهدد لمصر قضاء تاماً.

(ج) الحشاشون أو الباطنيون: أسس مذهبهم الحسن الصباح في أوائل القرن الثاني عشر، وكانوا فرقة إرهابية في بلاد الشام، لها حصون ومعاقل منيعة، تمتد من خراسان إلى سواحل بلاد الشام، وتعيث في الأرض فساداً، وكانوا كما يقول أحد المؤرخين (أداة رائعة للقدر كالوباء والحرب، كارثة على الملوك الضعفاء والشعوب المنحلة).

وكم سفكوا من دماء بريئة، وعاثوا في الأرض فساداًن وتآمروا بملوك وسلاطين مع ترويج لعقيدتهم الزائفة التي يقول فيها الإمام الغزالي (مذهب ظاهره الرفض، وباطنه الكفر المحض، ومفتحه حصر مدارك العلوم، في قول الإمام المعصوم، وعزل العقول عن أن تكون مدركة للحق، لما يعثريها من الشبهات، ويتطرق إليه النظار من الخلافات، وإيجاب طلب الحق بطريق التعليم والتعلم، وأن كل زمان فلا بد منه فيه من إمام معصوم يرجع إليه فيما يستبهم من الدين. والمنقول عنهم الإباحة المطلقة، ورفع الحجاب، واستباحة المحظورات واستحلالها، وإنكار الشرائع).

أتخذ هؤلاء الأشرار عاصمتهم (حصن مصياب) في بلاد الشام بالقرب من طرابلس، وحاولوا غير مرة قتل صلاح الدين وتحالفوا مع الصليبيين على المسلمين، وظلوا في شرورهم المادية والمعنوية، عوامل هدم للدنيا والدين، إلى أن سير الظاهر بيبرس حملة إلى بلادهم سنة 1269 حاصرت قلاعهم وأقتحمهما وفتحت (حصن مصياب) ومزقت الباطنية كل ممزق، فأنهار نفوذهم، وأصبحوا شرازم لا أهمية لها، وأنتهى على يد المصريين أهرهم، وطهرت الدنيا من أرجاسهم.

أيها المصري الكريم! هذه أعمال بلادك في قرن واحد، سحقت جيوش المغول المدمرة، وحملات الصليبيين الجائرة، وخزعبلات الباطنية الفاجرة، منتصرة بذلك على كل ما في آسيا وأوربا، من جند وعدة وعتاد، فهل يخامرك بعد الآن شك فيما ينتظر بلادك من مجد، وما سيلاقيه الصهيونيون من هول وذل. أرجو أن تكون متفائلا بالمستقبل، عالماً أن مصر كالهرم والمقطم والنيل، تقوض العروش وتزول الدول، وهي هي تفنى الفناء وتعي العياء.

عطية الشيخ.