مجلة الرسالة/العدد 796/طاغور وغاندي بين الشرق والغرب
→ مصر والعالمفي القرن الثالث عشر الميلادي | مجلة الرسالة - العدد 796 طاغور وغاندي بين الشرق والغرب [[مؤلف:|]] |
أبو خليل القباني باعث نهضتنا الفنية ← |
بتاريخ: 04 - 10 - 1948 |
للأستاذ عبد العزيز محمد الزكي
(تتمة)
لم يجد غاندي في مقاطعة الهند للغرب وعدم تعاونها معه ما ستوجب فزع طاغور وخوفه على الوحدة العالمية، لأن مساوئ الحضارة الغربية وضلالاتها، واستعمار الغربيين البغيض للشعوب الضغيفة، واستغلالهم الشره لمواردها الطبيعية، يزهد الهند من ناحية في أن تقيم أية علاقة تربط بهذا الغرب المادي الطاغي ما دام التعاون معه يعرضها لأخطار مدنية لا تعرف إلا صالحها، ويعطي فرصة للدول الاستعمارية لأن تستغل مواردها المتنوعة من دون الشعب صاحب الحق في الاستفادة منها، ويجبرها من ناحية أخرى على أن تعتزل العالم، وتقطع علاقتها بتلك الأمم التي تفسد عليها حياتها المادية والمعنوية، وعلى أن تستغني عن خدمات الغرب وتعتكف في نفسها تستجمع قواها وتجدد نشاطها وتبعث مواهبها وتشحذ ملكاتها، وتنهض بمستوى الشعب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والروحية، وتخلصه من الجهل والبؤس والخوف، وتسمو بنزعاته الخلقية، فيقدر أن يقوم بواجبه نحو الهند والهنود. وحينئذ فقط يطلب من الهند أن تساهم في تأسيس الدولية العالمية، وأن تفنى في العالم، لأن الشعب المتحد القوي المثقف أقدر على تكوين هذه الوحدة من الشعب المفكك الجائع الجاهل الجائف. ومن صالح الهند والانسانية جميعاً أن تعيش الهند لنفسها اولا، حتى تتحد وتتقوى مادياً ومعنوياً، وتتطهر من كل نقص وضعف قبل أن تبذل أي جهد في خدمة الإنسانية، أو تسعى لأن تلاشى كيانها في العالم.
وكان غاندي مخلصاً لمبادئه، فشجع الهند على إن تعتمد على نفسها في رقيها، حتى لا تأخذ من الغرب شيئاً. وعمل على إن يتبع الهنود نفس الأساليب الاقتصادية الهندية القديمة لتدعيم الحياة الهندية المادية، واهتم بأن يستعينوا بالثقافات الأسيوية التي مرت بالهند في ابتكار حضارة روحية هندية فتية تصون مقومات الهند وتخلو من مفاسد المدنية الغربية. فرد أولاً على لوم طاغور في أتخاذ الهنود المغزل اليدوي وسيلة للتكسب بأن ملايين الهنود يوشكون أن يموتوا جوعاً لأنهم لا يجدون عملا يرتزقون منه. فالفقر هو الذي أرغم الهند على أن تستخدم المغزل العتيق كوسيلة تكفل العيش لشعب فقير. بينما كان ما ينادي به طاغور من ضرورة تمسك الشعب بتعاليم الدين وسعيه في تحقيق ذاته حتى يتجلى الله في القلوب، لا يمكن أن يشبع جائعاً، وأن الله لن يتجلى لشعب يتضور جوعاً إلا في صورة العمل والطعام الذي يتقاضاه أجراً عن هذا العمل، فإن أناشيد طاغور الشاعرية الدينية لا يمكنها أن تسكن آلام الجائعين أو تغنيهم عن عمل يستطيعون به أن يجدوا ما يأكلون.
إن المغزل هو الذي ينقذ الهند من قسوة الفقر وآلام الجوع ويمهد لاستقلال حياة الهند الاقتصادية، ويغنى الهنود عن خدمات الغرب المادي الجشع، فعلى طاغور إن يغزل مثله في هذا مثل أي هندي، ولا يعارض، لأن الغزل والنسيج فريضة دينية يشرعها الواجب الوطني على الهنود.
ورد غاندي ثانياً على نعت طاغور الهنود بضيق الأفق وضعف المدارك لتحيزهم السقيم للثقافات الأسيوية بأنه لا يمانع في معرفة الشعب الهندي لأية ثقافة كانت، ويود لو تترك دراسة جميع الثقافات حرة في الهند سواء أكانت أسيوية ام غربية من غير أن تحاول ثقافة من الثقافات أن تفرض سيادتها على الثقافات المحلية، وتدعى الرقي والرفعة، وتقضي على كل ثقافة تنافيها، وتزعم أنها تحاول أن توجد ثقافة موحدة، وتتحكم في الحياة الثقافية في البلاد. فالمستعمر الإنجليزي يلزم الهنود تعلم برامج ثقافية جميع موادها العلوم الغربية وتغفل الثقافات الأسيوية وهي أحق بالأولية من دراسة أي ثقافة غربية، لأنها تلائم المزاج الهندي، وتعرف الهنود مواضع القوة في روحهم، وتساعدهم على تأسيس ثقافة جديدة حية تعبر بصدق عن التفكير الهندي. فما أمر غاندي بمقاطعة الثقافة الغربية إلا ليعطي فرصة للثقافات الاسيوية لأن تثبت وجودها في الحياة التعليمية في الهند ويحمي اللغات القومية والتراث الوطني من الضياع والنسيان.
لم اقصد من عرض مناقشات طاغور وغاندي حول تآزر الغرب والشرق أو عدمه أن أقف بينهما حكما أفضل عالمية طاغور على وطنية غاندي، أو أوازن بين واقعية غاندي ومثالية طاغور. وإنما قصدت أن يستفيد العالم العربي، وهو في ظروفه الحاضرة الملبدة بغيوم الشك وسحب الأرتياب، من غدر الغرب وسوء نيته، وأن أرجع للأذهان مجادلة بين شرقيين عرقيين في الروحية أحسا بما نشعر به من أنفعالات نحو الغرب، أحسب أنها تفيدنا في وضع خططنا العامة الدولية. فطاغور المفكر الإنساني قد بين للشرق ما يجب أن يصبغه من روحية على ما يأخذه من الغرب من علوم وفنون وجد ونشاط، وما يجب أن ينبذه من مادية وأنانية وحب للسيطرة وإمعان في الإباحية واستهتار بالقيم الروحية. فلو سرنا على هديه لأخذنا من الغرب زبده، وتركنا أوساخه وأقذاره، ونهجنا السبل القديمة في تكوين حضارة جديدة طاهرة تؤسس على روحية الشرق ونبوغ الغرب في العلوم والفنون ومهارته في العمل.
أما غاندي الزعيم الوطني، فقد علم الشرق كيف يحارب أنانية الغرب وغروره بغير عنف أو إيذاء، ويتخلص من ضلالاته من غير حقد أو بغض، ويستعين بأبعد الأسلحة عن العنت وإثارة الحقد، ويتخذ من أقرب القوى إلى الحب والتسامح ذريعة فعالة لنيل المآرب القومية. فلو سرنا على هدى غاندي في مقاومته السلبية السليمة، وقاطعنا الدول الغربية، وحاولنا أن نلم شملنا، ونقوي من تعضدنا لأرغمنا الغرب على طلب التعاون معنا، ولتنازل عن غروره وكبريائه، وسلم بضرورة رد جميع حقوقنا التي سلبها منا عنوة وغصباً.
فكل من طاغور وغاندي قام بدور هام في حياة الإنسانية؛ فقد خدم طاغور الهند والشرق بل والعالم أجمع بسعيه في ضم أشتات الدول المتخاصمة، وتأسيس وحدة عالمية لها ثقافة واحدة لا حياة واحدة، كما خدم غاندي الهند والشرق، وعلمهما كيف يتسلحان بالطرق الروحية في مقاومة مادية الغرب، وجعله يشعر عملياً بأن تفيده شيئاً، بل تؤذيه وتضر بمصالحه، وأجبره على احترام الشعوب واحترام حقها في المساواة بالشعوب الغربية. وهذه السياسة الغاندية تجمع بين تقوية الهند وردع الغرب، وتمهد في نفس الوقت لإقامة وحدة عالمية بطرق عملية. فغاندي لا يختلف عن طاغور في هذه الناحية وإن بدا لنا وطنياً. وذلك لأنه آمن بأن إحياء وطنه أمر اساسي لاتحاد العالم، لأن الوحدة لن توجد لها قائمة ما دام هناك دولة تستبعد دولة أخرى.
يجب أن تتحرر شعوب العالم جميعاً اولاً، ثم نعمل بعدئذ على توحيد العالم.
عبد العزيز محمد الزكي
مدرس الآداب بمدرسة صلاح الدين الأميرية بكفر الزيات