مجلة الرسالة/العدد 791/لأنها مصرية
→ بين اليأس والرجاء! | مجلة الرسالة - العدد 791 لأنها مصرية [[مؤلف:|]] |
فلسفة التاريخ: ← |
بتاريخ: 30 - 08 - 1948 |
للأستاذ ثروت أباظه
أخلى الشتاء للصيف سبيله هادئاً أول الأمر، ولكنه حين تمكن من القوم أصلاهم ما تعودوا منه مبالغاً في ذلك مفتناً فيه.
ونفر القوم إلى حيث يهادن الصيف، فازدحمت القطُر التي تقصد الشاطئ، وكأنما أبى الحر أن يتيح لهم متعة السفر فجعل من زحامهم عوناً له على إنجاح مهمته في إقامة مشهد من مشاهد جهنم على الأرض.
لم أكن من هؤلاء السعداء قصاد الشواطئ فقنعت بيومين أقضيهما في الريف. ولم يعرف السفْر ذلك فأشركوني في بلائهم فاشتركت مرغماً.
كان بالمقصورة ثمانية أشخاص بين رجال ونساء، وكان لكل منهم صاحب سفر يهمس أحدهما للآخر بما يقطع به الطريق ويخفف القيظ.
وظننت أنا وصاحبي أن الأمر سيقتصر على الهمس، ولكنه حين انجلت ضجة المحطة واستبد القطار بالطريق. علا صوت ناعم برطانة فرنسية، فهمست إلى صاحبي:
- إنها تجيد الفرنسية إجادة أهلها لها، ولعلها أن تكون هي نفسها فرنسية.
- أما قسماتها فلا تدل على ذلك، ورفيق سفرها كما ترى يلبس طربوشاً، وما أظنك ترى أنه هو الآخر فرنسي.
- ومتى عرفت أن المصري لا يصاحب فرنسية؟ وعلى أي حال إن تكن فرنسية فهي من طبقة مصرية راقية. .
- ولا هذا. . لأن الطبقة التي تعنيها لم تعد تباهي بتعلم الفرنسية كما تفعل صاحبتنا الآن. . وقد كان آنسات هاته الطبقة يباهين بتعلم هذه اللغة ليتصيدن بها الرجال. . أما اليوم وقد وجد أغنياء الحرب وتمكنوا من إدخال بناتهم حيث يتعلم الآنسات الراقيات - كما يردن أن يسمين أنفسهن - أما والأمر كذلك فلم تعد بالراقيات حاجة إلى إظهار علمهن باللغة الفرنسية، فهي اليوم لا تدل على شيء. . . وما أظنالآنسة إلا بنت ثري حرب لم يكن ليتوقع لابنته أن تلوي لسانها في فمها بلغة غير العربية. .
- والعربية الدارجة. . فحين حقق الله له شيئاً لم يكن لينتظره أطلق ابنته من عقالها فرحاً بها فخوراً. . وراحت بدورها تعلن على الملأ - كما ترى - أن أباها. . . بائع الدجاج علمها في (اللسيسه فرنسيه).
- لم أكن أتوقع كل هذا النقاش، ولو كنت توقعته ما اقتحمته. . إذ أن صديقي لا يقتنع أبداً مهما تبين له الحق، وكان القيظ شديداً فآثرت السلامة، وانحرفت بالحديث عن وجهته، معتقداً أنني على حق، ولاحظ هو ما قصدت إليه، فآثر السلامة بدوره، وانحرف معي بالحديث معتقداً أنني على باطل.
وشاء القطار أن يقف فجأة. . محدثاً بذلك صوتاً عنيفاً ذعر له الرجال ذعراً أخفت رجولتهم معظمه. وظهر ما لم تطق الرجولة كبته على وجوههم، أما النساء فقد أظهرن بكل ما يستطعن من القوة ذعرهن، معتقدات أنهن كلما أمعن في الذعر كان ذلك أدنى إلى الأنوثة، ولكن واحدة منهن لم يخرج بها الذعر عن الأدب المنتظر من سيدة. . أما ربيبة المدارس الفرنسية فماذا فعلت؟ لقد استنفد السيدات الجالسات كل المظاهر التي كان يمكن أن تلجأ إليها، ولا يصح أن تقلد واحدة منهن.
وكيف يكون ذلك وهي ابنة الغني، صاحبة الرطانة الفرنسية الصافية الخالصة. . أهي بكل هذا الأمجاد تقلد سيدات مصريات لا يتكلمن الفرنسية؟. . لا ودون هذا كل شئ. . أطلقتها صرخة وأتبعتها بقولة. . . ولكن الحظ خانها فخرجت الكلمة (بلدية) صريحة، وقد أرادتها فرنسية صحيحة. . وخرجت ساقطة تشير إلى القفص الذي أثقل كاهل أبيها قبل أن تدخل المدارس الفرنسية.
- لحاها اللهّ!. لقد أخجلتني أمام صاحبي وقد كنت أدافع عنها وعن أصلها. .
نظر صاحبي إليَّ في شماتة. ونظرْت إلى السيدة في احتقار وغيظ، وشاركني في احتقارها كل من كان بالمقصورة. . وأحست هي بهذه النظرات فألمت لضياع جهادها الطويل الذي بذلته في سبيل احترامنا لها. . جهاد ساعة باللغة الفرنسية.
- سألت صاحبها أن يخرج بها إلى الممشى ليلتمسا هواء. فأجابها إلى طلبها. . سألته في بلدية واضحة وأجابها في بلدية أفصح وخرجا. . وإذا بصاحبي ينفجر ضاحكا، وقد كنت والله مع احتقاري للسيدة أفضل بقاءها حتى تمنع عني ما سألاقيه من سخرية الصديق. . قال: - إنها فرنسية. أليست كذلك!. . إنها من طبقة راقية ألا ترى هذا!. . إنه والله لن يأتي يوم تنال فيه السيدة المصرية ما هي أهله من احترام حتى تعلم أننا نحترمها لأنها مصرية، وأننا حين نراها قد جنحت إلى جنسية أخرى نزدريها لنكولها عن جنسيتها. . لن نحترم السيدة المصرية إلا حين نعلم أن لكل علم تعلمته مكاناً يظهر فيه. . فلو أن هذه السيدة تكلمت بلغة بلادها وأطلقت نفسها على سجيتها، لما كان بها حاجة إلى كل هذا التكلف الذي ارتكبته وركبها فحاد بها عن سلوك السيدة المحترمة. . . قلت:
- لعلها حسبت أن أحداً من الجالسين لا يعرف الفرنسية وأرادت أن تقول لصاحبها سراً.
- ما هذا التخبط: أفهمت مما قالته أنه سر؟ ولم تحسب هي أن الجميع جهلاء ما عداها؟. . وأي سر هذا الذي يقال بأعلى صوت؟. .
- انتهينا. . إذن أنت لا تريد المصريات أن يتعلمن الفرنسية.
- ما رأيتك أكثر لجاجة منك اليوم. . إنني لم أقل ذلك ولا يمكن أن أقوله. . بل إنني أرى أنه يجب عليهن أن يعلمن اللغات، ولا ارتقاء لهن بغير تعلمها. . ولكن يجب عليهن أن يعلمن أن لغتهن الأولى هي العربية، فإذا لم يعرفنها فأولى بهن ألا يتعلمن شيئاً، ويجب أن يعلمن أيضاً. . . أن فخرهن إنما يكون بلغتهن وبعقلهن لا بأنهن يتكلمن الفرنسية. . إن أحداً لن يحترم السيدة المصرية أو تحس باكتمال شخصيتها وعظمة بلادها ولغتها.
كانت حجة صديقي ناصعة بين يديه لم أطق إغفالها، فقلت:
- لا عليك، فأنت على حق يا صديقي. . ولكن هدئ من روعك فإن اليوم قائظ، وأخشى أن تنفجر وأنت تدافع، وأرى صوتك قد ارتفع حتى لتكاد تفعل فعلتها. .
هلم إلى الممشى، وعهد علي ألا أحترم السيدة المصرية إلا لأنها مصرية.
- أجل، وحسبها أن تحترم لأنها مصرية.
ثروت أباظه