مجلة الرسالة/العدد 791/بين اليأس والرجاء!
→ تعقيب: | مجلة الرسالة - العدد 791 بين اليأس والرجاء! [[مؤلف:|]] |
لأنها مصرية ← |
بتاريخ: 30 - 08 - 1948 |
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
بين مرارة الواقع ومثالية الواجب، وبين يأس يخامر قلوب الناس ورجاء يجيش في نفسي، وبين غمرة تشاؤم الكهول ونفحة من تفاؤل الشباب، أكتب مقالتي هذه مخلصاً فيما تخطه يميني، مبتغياً الإصلاح ما استطعت.
ومن الأمانة ألا أكتم القارئ أن الذي أوحى إليّ هذا الموضوع هو الأستاذ الفاضل محمود الشرقاوي في مقالته (الأزهر والإصلاح) بالعدد 786 من الرسالة.
وللأستاذ في قلبي تجلة واحترام هو بهما جدير: لأن تفكيره في إصلاح الأزهر يعود إلى عشرين عاماً يوم كان شاباً لم يجاوز عقده الثاني، ولأنه - وهذا من جليل محامده - لم يغادر فرصة يستطيع بها خدمة هذا المعقل الإسلامي الحصين إلا انتهزها خالص النية، طاهر القلب، سديد الرأي. ولو نسي القراء مقالاته القيمة في السياسة والسياسة الإسبوعية والبلاغ فما أظنهم قد نسوا ما كتبه إلى عهد قريب عن الأزهر وإصلاحه في مجلة الرسالة التي أبى أستاذنا الجليل الزيات إلا أن يجعلها منبراً من منابر العروبة والإسلام.
وليطمئن الأستاذ الشرقاوي على أني - وقد عرفت روحه - لن أتعمد أن أسأله سؤال الأزهري أو غير الأزهري: لماذا ولمه؟ ولن أسأله عمن يريد بمقالته، أو ماذا كان يقصد بتوجيهه، لأني لا أرى أن لكل شئ ظاهراً وباطناً كما يرى بعض الناس، وإنما أعتقد في الشيء الظاهر له ولي ولكل بصير، وأحب أن أناقشه في هذا الظاهر مناقشة الخبير. . .
والظاهر من مقالة الأستاذ أنه يريد أن يقطع على الأزهريين سبيل مناقشته في موضوعه، لأنه سيدلي برأي خطير لا يقبل فيه جدالاً، ولأنه لا يحب ممن لم تنضجهم التجارب أن يأتوا بالرأي الفطير لئلا يسمعوا مقالاً. وكنت أوثر أن يرسم الأستاذ هدفه كما كان يرسمه من قبل من غير أن يكترث باعتراض المعترضين، ولا بنقد الناقدين: فنحن في عصر تحرم فيه حرية الدفاع عن بلادنا لرد عدوان الغاصبين، ونكره فيه بالقوة على هدنة كلها جور وعسف لئلا نغاضب مجلس الأمن، ولا نستطيع تحويل قضية فلسطين إلى محكمة العدل الدولية لتفصل في النزاع بين حقنا وباطل المبطلين، ولكنا ما زلنا نملك حرية الكلام والنشر والخطابة والحمد لله. فليت الأستاذ استعمل هذه الحرية كما يشاء في توجيه مقالته بغير تلك المقدمة، وليته ترك الأزهريين يستعملون حريتهم كما يشاءون في السؤال والمناقشة ولو بلماذا ولمه.
بيد أن هذا كله لا يغض - فيما أرى - من قيمة مقالته فلن آخذه عليه؛ وإنما أشير - وما أملك إلا أن أشير - إلى أنه ما كان له وهو الذي بذل في إصلاح الزهر ما بذل من وقت وجهد أن يحكم ذلك الحكم الذي يقطع كل أمل، ويخيب كل رجاء، ويخنق كل صوت، ويثبط كل همة، حين قال: (إن بين الأزهر وبين الإصلاح شأواً بعيداً وبوناً شاسعاً ومرحلة طويلة جداً، وإني لست أدري هل إلى هذا الإصلاح سبيل).
والأعجب من هذا كله أن الأستاذ كرر هذه العبارة في مفتتح موضعه ومنتهاه، وأنه تساءل في المرة الثانية: أهو متشائم في حكمه؟.
وإني لأسأل الأستاذ: إن لم يكن هذا تشاؤماً فكيف يكون التشاؤم؟.
ألا يسمى تشاؤماً قسمه بالله العظيم واستعماله عبارات التأبيد والتأكيد مثل قول الأزهر اليائس: والله لن يصلح الأزهر أبداً مهما حاول المخلصون، وجد العاملون؟.
لو قال أحد هذه الكلمة لاتهمناه بأنه لا يريد أن يواجه الحياة، ولا أن يصادم الواقع، لأنه يعلم من نفسه العجز عن تذليل العقاب واقتحام الأخطار واحتمال المتاعب، فهو يعترف بضعف سلاحه وقلة استعداده، فليتنح للآخرين فلعلهم أقوى منه بداً، وأصلب عوداً، وأثبت جناناً.
ولكن الذي قال الكلمة الأولى رجل مصلح يحفظ له الأزهر خدمات أمينة، ولا ينكر له فضلاً، ولا ينسى له ذكراً، فلماذا يجني هذا الأستاذ الكريم على حماسة الشباب؟ ولماذا يقطع عليهم سبيل الرجاء؟ وليغفر لي كلمة (لماذا) فما يستطيع أحد أن يحذفها من كلامه في مثل هذا المقام.
ألا يرى الأستاذ أن أبسط ما يفهم من مقالته أن أحدنا لو أفنى عمره في إصلاح الأزهر لن يصل إلى غايته أبداً، لأن الطريق محفوفة بالأشواك، والعقبات قائمة هنا وهناك؟.
وماذا يصنع الأزهري الشاب الذي لا يرضى عن حال كلياته ومعاهده بعد أن سمع هذا الكلمة الغضبى من رجل أمضى عشرين سنة يفكر بالإصلاح؟.
أفنعتب عليه إذا حطم قلمه إن كان أديباً، أو كم فمه إن كان خطيباً، أو أسكت عبقريته إن كان شاعراً، أو آثر لعقود ولو خلقه الله راغباً في الإصلاح!.
وهل لنا فائدة في تحطيم الأقلام أو كمّ الأفواه أو إسكات العبقرية أو قعود القادرين على العمل؟.
لا والله لا يعتب على هذا الزهري منصف بعد تلك الكلمة اليائسة المتشائمة التي تفيض ارتياباً بإمكان إنقاذ الأزهر من ورطته. . .
فيا سيدي الأستاذ:
إنك تعلم أن الرغبة شئ والعمل شئ آخر، ويؤسفني أن أصرح لك بأننا لم نكن إلى اليوم سوى راغبين، ولم نحاول أن نكون عاملين: وإن الأزهر من الميادين إن وجد العاملين نهض وانبعث، وإن وجد المتشائمين تلاشى ومات.
الأزهر صورة من حياة الشرق الذي دبت فيه الفوضى، بل من حياة المسلمين في القرن العشرين: طعام وشراب، وأوهام وأحلام!.
ولا والله ما ضر المسلمين أكثر من التشاؤم، ولا أضعف جهودهم أكثر من القنوط!.
إن دخلنا المساجد يوم الجمعة نستمع الإرشاد صدع الخطباء قلوبنا بأننا أمة التأخر والانحطاط وأن لا أمل في نهوضنا؛ وإن قرأنا صحيفة من صحفنا وجدناها قليلة الثقة برجال تعمل، أو جماعات تضم الشتات؛ وإن سألنا مفكرينا آراءهم في مستقبلنا أفزعونا بنبوءات كأنها الليل المظلم: فلحننا دائماً حزين، ونغمنا أبداً شاك، وقيثارتنا في كل وقت باكية!.
هذه علتنا معشر المسلمين في جميع الميادين - لا علة الأزهر وحده في محيطه الخاص، فأنا لينقصنا عنصر التشجيع، فلا نشكر عاملاً على صنيع، وإنما نقابل الناس بالوجه العبوس حين نستطيع أن نلقاهم بالوجه الطليق!.
أيها المسلمون: شجعوا الأزهر ولا تقنطوه، وساعدوه على القيام من عثرته ولا توئسوه، وأصغوا إلى صوته ولا تخجلوه، وامنحوا ثقتكم للبقية الصالحة من الشيوخ والشباب، فسترون الأزهر الوثاب!.
ويا أيها الكتاب: أقنعوا الرأي العام بتغيير نظرته القاسية إلى الأزهر حتى تشعروه بشيء من الثقة بنفسه؛ حتى إذا لم ينفع تشجيعكم عودوا علينا باللائمة إن كنتم فاعلين.
ويا صاحب الرسالة يا أديب العروبة الأكبر: لقد أمنت بالأزهر وما أحسبك كفرت به كما كفر الناس، ولقد شجعته طويلاً وما أظنك ترضى بيأسه بعد اليوم: فهلا نفحته من نفثات قلمك بكلمة طاهرة تعيد إلى النفوس طمأنينة بعد القلق، وراحة بعد العناء، لينسج الكتاب على منوالك، في هذه الأيام الحوالك! ليتك تستجيب لهذا النداء، فتنير الطريق للأدباء. . .
وبعد. . . فما هذه بكلمة شاب مثالي أو خيالي يعيش في دنيا الأحلام، وإنما هي كلمة من قلب يقدس التفاؤل في عصر نصرنا فيه اليأس على الرجاء، وتثبيط العزيمة على التشجيع.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح