مجلة الرسالة/العدد 787/الشعر في السودان
→ خليل مطران | مجلة الرسالة - العدد 787 الشعر في السودان [[مؤلف:|]] |
(حياة) بلابسي ← |
بتاريخ: 02 - 08 - 1948 |
للأستاذ علي العماري
كنت أود أن يكون عنوان هذا البحث (النهضة الأدبية في السودان) فأتناول فيه من حديث الشعر والنثر ما يرسم صورة صحيحة أو قريبة من الصحيحة للحياة الأدبية هنا، ولكن يبدو أنه سيمضي وقت ليس بالقصير دون أن يجد الباحث المادة الضرورية لمثل هذا البحث؛ فإن نثرا مستقلا يكون أدبا لم يتح بعد لباحث.
ومن عجب أن يجد الإنسان مادة غير نزرة ولا قليلة للشعر، ولا يجد شيئا يمكن أن يعتمد عليه في النثر، وربما كان لذلك أسباب كثيرة هي في الغالب أسباب سلبية، وقد يكون من الخير التغاضي عنها، حتى إذا كان من الخير أن نقول في هذا الشأن قلنا، ولهذا أرى من الحسن أن أقصر بحثي على الشعر وحده.
وطبعي أن يكون في السودان شعر، وأن يكون فيه شعر وفير، فإن أسباب الشعر ودوافعه قوية مستفيضة غالبة، ولو استجاب الشعراء لها، ولو لم تشغلهم شئون أخر عن التأثر بها، والتنبه إليها، لجاءنا شعر وخير كثير.
وإنه لتروعك الرغبة القوية في دراسة الآداب، واستظهار المنظوم والمنثور عند كثيرين من أبناء السودان فإنك تجد عددا غير قليل يحفظ الآلاف من أبيات الشعر، ففضيلة زميلنا الشيخ محمد العبيد الأستاذ بالمعهد العلمي بأم درمان يحفظ شعر شوقي كله، لا يند عنه بيت منه؛ وفضيلة الشيخ أحمد العاقب - وهو شاعر - ال يكاد يمر بمسألة، أو يأخذ في حديث حتى يستشهد بأكثر من بيت من الشعر القديم، أو من الشعر الحديث. ولقد لاحظت أن دواوين: شوقي وحافظ والبارودي والعقاد هي الدواوين المفضلةعند الأدباء السودانيين. أما القراءة فهم مغرمون بها، وأكثر ما يقرأون للأساتذة المصرين من كبار الكتاب أمثال طه حسين والعقاد والزيات وهيكل، وآثر المجلات الأدبية عندهم وأحبها إليهم مجلة الرسالة.
ولا مندوحة لمن يريد الدقة والإنصاف في الحديث عن الشعر السودان، أن يقسمه إلى قسمين، شعر المدرسة القديمة، وشعر المدرسة الحديثة، وكلتاهما تعيش في هذا القرن. وتستطيع أن تقول إن المدرسة القديمة سيطرت على الشعر منذ ابتداء هذا القرن أو قبله بقليل، وبقيت سيطرتها إلى عهد قريب، وبعض أساتذتها لا يزالون يرفدون الأدب بأشعارهم، وإن أخذت أشعة المدرسة الحديثة تبدو في الأفق.
وطابع المدرستين جد مختلف، فبينما نجد سمة التقليد، والتمسك بالتقاليد، والسير على النهج القديم، غالبة على المدرسة القديمة، نجد شيئا كثيراً من التحرر والطموح والاستقلال في المدرسة الحديثة. وقد تأخر - ولا شك - ظهور هذه المدرسة ولم يستقر لأصحابها منهاجهم بعد، ولكني أعتقد أن الخطة الجديدة في نشر التعليم، وإرسال البعوث إلى مصر وإلى غيرها ستؤتي أطيب الثمار في هذه النواحي، نعم لا يزال الشعراء المحدثون في أول الطريق، ولكن بواكيرهم تبشر بأنهم يسيرون بخطى حثيثة نحو الكمال والنضوج.
وسأقصر حديثي في هذا المقال على مقومات المدرسة القديمة ومنهاجها، وطابعها، وشعرائها.
التقليد - في الواقع - هو السمة الأصلية في أساتذة هذه المدرسة. التقليد لشعر القديم وطرائقه، تقليد في الأغراض، وتقليد في المعاني، وتقليد الأساليب، كما أن من السمات الغالبة على هؤلاء الأساتذة سمة الوقار والرزانة والتحفظ. ولا غرو فأكثرهم من (المشايخ) بل إن منهم من وصل إلى أعلى المناصب التي يصل إليها الشيوخ في السودان. نعم من شعراء هذه المدرسة من تخرج في كلية غردؤن، ومن تعلم تعليما مدنيا، ولكن هؤلاء - أيضا - لا يقفون بعيدا عن طائفة المشايخ، لأن روح الدينية أبرز مظاهر الحياة في السودان، وهي قوية مسيطرة، والشعر - ونحن نتحدث عنه من الناحية الفنية - في حاجة شديدة إلى الانطلاق والتحرر والاندفاع.
الشعراء ينظمون كثيراً في المدائح النبوية، وفي المدح، والهجاء، والرثاء، وقل منهم من يخرج على هذه الأغراض. أما معانيهم فهي هي التي نشأت مع الشعر العربي؛ فالشجاع أسد هصور، والجميل بدر منير، والممدوح أندى من الغمام كفا، وأجود من البحر يدا، والفقيد تعزى فيه المروءة والندى، والعاشق لا يزال يقف على الأطلال، ويستوقف الصحب، ويبكي الديار، وأما الأساليب فقلما تميل إلى شئ من الخروج عن منهج الشعر القديم، فلا تجد شاعراً نظم في غير البحور المعروفة بل إنك لتجد أكثر ما ينظم من الشعر على أوزان البحور المشهورة من الطويلوالكمال والبسيط، هذه الأبحر التي تمثل الوقار والشيخوخة والهدوء، ولا أثر في هذه الأشعار لظل الحياة الجديدة الناعمة المتألقة، فهي أكثر تأثرا بما يقرأ أصحابها من الشعر القديم، وهم يجلونه فلذلك يحتذونه.
وأبرز ما يصور لنا النهج هو ابتداء القصائد بالغزل، الغزل المصنوع طبعاً، فالمدائح، والتهاني، والتوديعات، وأشعار المناسبات، لا بد من بدئها بالغزل، ولا بد - مع ذلك - من إظهار المهارة في حسن التخلص، وجودة الانتقال. على أن بعض الشعراء يترك هذه السنة ليحبى سنة أخرى، فيبدأ قصيدته بذكر الخمر وسقاتها وندمائها، أو يذكر النوق وحثها على المسير كأن يقول الشيخ محمد عمر البنا، وهو يمتدح عثمان دقنه وأعوانه
ما ضرني أن لو حثثت العيس في ... أثر الحمول، وإن علا التأنيب
وزجرت للبكرات دامية الخطا ... قد مسها نحو الحبيب لغوب
أوجعتها سيراً فصارت ضمراً ... كهلاك شك، ينجلي ويغيب
ثم تسأله هذه العيس إلى أين المسير؟ ومن تريد - وأنت تذرف الدمع -؟ فيجيبها بأنه يمم الزهادة والتقى، فعساه يلقى نفحة من سر من زهد الدنيا وطلقها:
(عثمان دقنة) من رقي أوج العلا ... بفخارة، والطاهر المجذوب
ومن الابتداء بذكر الخمر قول الشيخ عبد الله عبد الرحمن يهنئ أحد أصدقائه بزواج:
هات اسقني حلب العصير ... حمراء كالخد النضير
وادع الخلاعة والصبا ... واهتف بحي على السرور
وأقم (لأحمد) من بيوت الشعر أمثال القصور
وهذا ابتداء واضح الدلالة على الصنعة والتقليد، فالشيخ عبد الله هذا العالم الوقور الذي نشأ في بيت العلم والتقى، ال يطلب الخمر، ولا يدعو الخلاعة، ولا يستطيع أن يشبه الخمر بالخد إلا وهو مأخوذ بما في فكره من شعر القدامى، ثم ما هذه المفارقة العجيبة؟ دعوة للخلاعة، وحي على السرور، ولكن الشيخ - وهو من شعراء السودان المعدودين - لا يجد أنسب لذكر الخمر - التي لم يذقها طبعا - من تهنئة بزواج، على أ، هـ يبتدئ مدحه نبوية يذكر الخمر فيقول:
أديري علىَّ الكأس يا ربة الشعر ... وجودي بمعسول الرضاب من الثغر
لعلي بهذي الكأس يا عز انتشى ... فاسموا بإدراكي إلى العالم الشعري
وأنا - في الحقيقة - حائر في هذه الكأس، أي شئ فيها؟ أهو خمر؟ أم شعر؟ أم رضاب عزة؟
وكقوله في مطلع قصيدة ألقاها في حفلة الميلاد النبوي:
أدرها بعد نومات العشى ... كميت اللون كالخد الوضي
مشعشعة بماء المزن رقت ... كما رقت شمائل أريحي
حواليها نواعم آنسات ... نواعس، ذات لحظ بابلي
وعلى ذكر الابتداء بالخمر أقول إن وصف الخمر ليس غرضا أساسيا في الشعر السوداني، وإن كنا نجد بعض الشعراء يتسلى بها، كما يقول الشاعر صالح عبد القادر.
اسكب الراح، وناول من طلب ... وأدر كأسك، فالدنيا طرب
وأسقنيها بنت كرم عتقت ... تطرد الهم، وتشفى من تعب
يا رفاقي لا تلوموني على ... حبها، فالعيش في بنت العنب
ما علينا أن شربناها وقد ... كتب الله علينا ما كتب
أما الابتداء بالغزل، فهو - كما قلت آنفاً - اللازمة التي لا تنفك لكثير من القصائد، ومن ذلك قول الشيخ عمر الأزهري يمدح صاحب مجلة الجوائب حيث يقول في أولها:
سلوا عن فؤادي مسبلات الذوائب ... فقد ضاع من بين القلوب الذوائب
فلا سلمت نفس من الحب قد خلت ... ولا كان جفن دمعه غير ساكب
سبا مهجتي لدن المعاطف أهيف ... له لفتات دونها كل ضارب
ولا عيب فيه غير أن جفونه ... بنتها على كسر جميع المذاهب
هذا شعر جيد، لولا ما ذكر فيه من هذا الاصطلاح النحوي، وإن كان ذلك يعد ملحة ملفتة، وهكذا يمضي في غزله حتى يقول متخلصاً.
وحبي له يخف في الكون أمره ... كحب العلا مصباح أفق الجوائب
ولا نعدم في هذه الناحية من يستن سنة أخرى أيضاً، فيبتدئ شعره بانكار الغزل، كقول الشاعر عبد الرحمن شوقي يمدح سيادة الحسيب النسيب السيد علي الميرغني.
وقفت ولم أنسب ولم أتغزل ... ولم أشك حالي في الهوى وتذللي
ولم أبك دارك قد عفت وتغيرت ... وصحبا كراماً بت عنهم بمغزل
ومثلي إذا جن الظلام رأيته ... يقوم قيام الناسك المتبتل يقولون حب الغيد تيم قلبه ... وما حب ربات الخبا عنك مشغلي
وما في فؤادي موضع لمحبة ... لغيرك حتى قال ذلك عذلي
على أني سأوفي هذا المعنى حقه عند الحديث عن الغزل، وإن كنت أبادر فأقول: إن جريان الغزل على ألسنة كثير من هؤلاء الشعراء، وخاصة أولئك العلماء الأعلام، من أمثال شيخ علماء السودان سابقاً الشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، والشيخ عمر الأزهري، والشيخ البنا وغيرهم، أقول إن هذا مما لا يدع شكا في سلطان التقليد على الشعراء.
ولست أريد من هذا أن أحط من قيمة الشعر السوداني، ولكني أقصد أن السمة الغالبة عليه في هذه الحقبة سمة الاحتذاء والمتابعة، والتقليد فيه خير كثير، وفيه كذلك شر كثير. وإن في هذا الشعر لوثبات طيبة، وملامح مشرقة، سنكشف عنا في أثناء هذا الحديث، كما أن سير الشعراء في ركاب القدامى جعلهم يبعدون بأشعارهم عن تصوير الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولم يجعل لوصف الطبيعة السودانية الحلابة مكانها البارزة في أشعارهم.
(للحديث بقايا)
علي العماري
مبعوث الأزهر إلى المعهد العلمي بأم درمان