الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 787/(حياة) بلابسي

مجلة الرسالة/العدد 787/(حياة) بلابسي

بتاريخ: 02 - 08 - 1948


للأستاذ نجاتي صدقي

عثر رجال الهلال الأحمر، بعد مجزرة دير ياسين على جثة فتاة في قميص النوم، ملقاة بالقرب من طريق فرعية مؤدية إلى القرية، فتعرف عليها بعضهم فإذا هي المعلمة حياة بلابسي.

عرفتها في أواخر سنة 1947 وقت أن قدمت للإذاعة موضوعاً أدبيا أرفقته بكتاب تقول فيه: (أرجو أن أتمكن من إذاعة حديثي هذا في أقرب فرصة ممكنة).

وبعد أيام من ورود هذا الحديث قابلت أحد قضاة القدس فذكرني (بحياة) وأوصاني بها خيراً. . . ثم قابلت أحد مفتشي معارف فلسطين فنبهني إلى حديث (حياة) وضرورة الاعتناء به. . . ثم قابلت أحد أدباء القدس فقال لي: ألا تهتم بحياة وأحاديثها فهي فتاة تحتاج إلى مساعدة وتشجيع. . . ثم قابلت مديرة مدرسة في يافا فسألتني إذا كنت قد تلقيت حديثاً من (حياة) واستفسرت عن مدى استعدادي لمساعدتها.

فساءلت نفسي: من تكون حياة بلابسي هذه؟. . وما الداعي إلى كل هذا الاهتمام بها؟. . وأخذت أترقب الفرصة لمقابلتها والتعرف إليها عن كثب.

وفي عصر أحد أيام يناير من هذه السنة، وكان الثلج يتساقط بكثرة في القدس، والرياح الباردة العاتية تعصف بشدة، دخلت على حياة وقد تدثرت بمعطف بسيط، ولفت رأسها بمنديل من الصوف وقد رصع بقطع صغيرة من الثلج، فظهرت وكأنها إكليل من زهر الليمون، رمز العفة والطهارة، يطوق رأسها الجميل. وفي هذه المقابلة عرفت منها مأساتها:

لقد فقدت أباها منذ أمد غير بعيد، ووالدتها كسيحة طريحة الفراش، وأختها صغيرة غير قادرة على العمل، فوقع على عاتقها عبء الاعتناءبوالدتها وأختها، والقيام بجميع شؤون البيت، والعمل في الوقت ذاته على كسب المعاش إذ لا مورد لأسرتها تعتاش منه، كما أن والدها لم يترك أي مبلغ من المال، أو أي نوع من العقار.

وهكذا رأت نفسها مضطرة إلى ترك المدرسة قبل أن تحصل على شهادة (المتريك)، وأن تسعى إلى العمل كمعلمة إضافية في مدرسة ابتدائية، فقيل لها في دائرة المعارف: ليس بوسعنا أن نجد لك مكانا شاغرا في القدس لكننا نحتاج إلى معلمة إضافية لقرية دير ياسين، فقبلت حياة العمل لقاء راتب شهري قدره ثمانية جنيهات.

وقرية دير ياسين تقع إلى الغرب من القدس وعلى بعد عشرة كيلومترات منها، وطرق المواصلات إليها غير متوفرة فكانت حياة تضطر للذهاب إليها والعودة منها سيراً على قدميها، فتترك القدس في الساعة السادسة صباحا مجتازة في طريقها بعض أحياء القدس اليهودية وهي ميا شعاريم، وبيت إسرائيل، ومحنا يهوديا، وروميما. . . ثم تمر بواد وعر إلى أن تصل مستعمرة بيت هاكيرم، ومن ثم تتجه رأساً إلى دير ياسين.

هذا هو طريق الآلام الذي كانت تعبره حياة مرتين في اليوم صيفاً وشتاءً.

وهي مع أنها صبية جريئة كانت تشعر أحياناً برهبة عند مرورها في الوادي، فتخشى أمرا لا تعرف كنهه. . . فتنتظر بعض الوقت إلى أن تمر بها القرويات الذاهبات إلى القرية أو العائدات منها فترافقهن. . . إلا أن هذه الخشية أخذت تتلاشى قليلاً قليلاً، وصارت حياة تعبر الوادي بمفردها محيية الحراثين والرعاة، فيجيبونها محيين مرحبين، مستفسرين منها عن أولادهم ومقدار تقدمهم ونجاحهم في دروسهم، سائلين الله أن يكلأها بعين عنايته ورعايته.

ولم تحصر حياة عملها في القرية على التعليم وإنما كانت تعمل في فترات من النهار ممرضة أيضا، فتمد من هو بحاجة إلى الإسعاف الأولي بمختلف الأدوية، وتعود المرضى في أكواخهم، وإذا رأت أن فيهم من تتطلب حالته دخوله المستشفى اتصلت على الفور بدائرة الصحة القدس تلفونياً، أو ذهبت بنفسها إلى تلك الدائرة عند عودتها إلى بيتها.

وما إن أتمت حياة السنة الأولى من عملها في دير ياسين حتى غدت معبودة سكانها يترادف اسمها مع التربية والطهارة والوطنية الصحيحة.

وفي يوم عادت الفتاة إلى القدس فوجدت إنها فارقت الحياة، فتحملت الصدمة بقلب قوي، ولم تنهزم أمام صروف الدهر القاسية، وثابرت على عملها في دير ياسين بنا طبعت عليه من عزيمة وثبات، فحمل ذلك دائرة المعارف على أن تزيد راتبها الشهري جنيهين آخرين.

وأعلنت هيئة الأمم المتحدة تحقيق ما حلم به هرتزل سنة 1895 في كتاب (الدولة اليهودية)، فهب العرب يدافعون عن أراضيهم ومواطن معيشهم، وانتصب ملاك الموت والمحصد في يده يجني الرؤوس آحادا، ثم عشرات، ثم مئات. . . وكان على حياة أن تختار أحد أمرين: إما أن تقبع في بيتها تنتظر حظها من الزواج، وإما أن تسكن دير ياسين لتتابع كفاحها في سبيل العلم والصحة.

ولم تتردد والفتاة كثيراً فحملت بعض أمتعتها ورحلت إلى القرية، وسكنت في غرفة من غرف مدرستها.

وفي هذه الغرفة عانت المعلمة أنواعا شتى من الحرمات وشظف العيش. . . أما الضوء فكان مصباح الزيت. . وأما التدفئة فكان الحرام تلفه على نفسها وهي تراجع الدفاتر، وتعد الدروس.

وانتشرت الحوادث بسرعة إلى أن شملت دير ياسين أيضا. . . ولما كانت هذه القرية محاطة بأربع مستعمرات يهودية. خشيت خيانة جيرانها فألفت من فتياتها وفتيانها حامية وكانت حياة من أركانها.

قالت لي ذات يوم: حدث بينما كنت أتدرب على إطلاق النار من البندقية أن أخطأت الهدف وراحت الرصاصة تزغرد في مستعمرة مجاورة!. .

ومضت أيام وأسابيع تأزمت في أثنائها العلائق بين دير ياسين والمستعمرات التي حولها، ولم يدر القرويون أن القيادة اليهودية قد اختارت قريتهم كبدء مرحلة جديدة في خططها (العسكرية).

وعند الساعة الثالثة من صباح يوم قاتم أطبق ألفان من اليهود المسلحين بالبنادق السريعة الطلقات والخناجر، على سكان القرية النيام، ونشبت بينهم وبين الحامية معركة لم تدم طويلا، فتغلب المعتدون على المناضلين القرويين، وبدأت المجزرة!. .

أما حياة فما إن سمعت أزيز الرصاص وانفجار القنابل حتى هبت من فراشها وهي في قميص النوم، وهامت على وجهها في الحقول وبين التلال. . . وبعد لحظات وجدت نفسها في مكان أمين خارج القرية، وبوسعها الالتجاء إلى قرية عربية أخرى. . . إلا أنها سمعت في هذه الآونة أنينا بالقرب منها، فاتجهت إلى مصدره وإذا أمام جريحين من حامية دير ياسين، فتقدمت منهما ومزقت جزء من قميصها ضمدت به جراحهما، ثم قر رأيها على أن تضعهما في مغارة في تلك الناحية إلى أن تتمكن من إخبار رجال الهلال الأحمر عنهما، فحملت أحدهما على كتفيها وصارت به نحو المغارة. . وبعد مسير عشرة أمتار مزق الجو صوت طلقات سريعة فسقط الجريح قتيلا، وسقطت حياة فوقه مضرجة بدمائها.

أما الجريح الثاني، فقد قدر له أن يعيش، ويروى خاتمة حياة فتاة تذوقت الجهاد في سبيل العلم، والأسى في سبيل العائلة، والبطولة في سبيل الوطن!. .

نجاتي صدقي