مجلة الرسالة/العدد 783/نقلة مستحبة في تاريخ البلاد الأمريكية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 783 نقلة مستحبة في تاريخ البلاد الأمريكية [[مؤلف:|]] |
حجة خيط العنكبوت وقد فات وقتها ← |
بتاريخ: 05 - 07 - 1948 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
إذا كان الأستاذ محمود الخفيف يطيب له أن يعود إلى حديث لنكولن فنحن لا نكره العودة إليه، أو يكره العودة من أحاديث أمريكا الحاضرة إلى أحاديث أمريكا في أي عهد من العهود، فضلاً عن العهد الذي كان رئيسها فيه اعظم رئيس تولى أمورها، أو كان على الأقل واحداً من ثلاثة على الأكثر بين اعظم هؤلاء الرؤساء.
أنها نقلة مستحبة لأنها بغير شك نقلة من اصغر رئيس تولى أمور الولايات المتحدة أو يمكن أن يتولاها فيما نظن، إلى رجل من اكبر رؤسائها ومن اكبر ولاة الأمر في أمم العالم الحديث.
أخذنا على كتاب الأستاذ الخفيف عن أبرا هام لنكولن بعض ملاحظات، وقلنا أن الملاحظة على كتاب يؤلف عن لنكولن أمر لا مناص منه كائناً ما كان الكاتب، وكائناً ما كان منهج الكتاب. لأن آفاق الحياة الفردية أفاق الحياة الاجتماعية التي تفصل بسيرة هذا الأرجل العجيب أوسع من أن تستوعب في كتاب واحد، ولا سيما كتاب يوضع بالعربية ويحتاج المؤلف فيه إلى اطلاع القراء في لغتنا على مراجع ومناسبات تعد من تحصيل الحاصل في عرف ألا كثرين منم القراء الأميركيين والأوربيين.
وكانت خلاصة ملاحظاتنا أن الكتاب خلا من تعريف كاف بأسلاف لنكون من جانب أبيه وأمه، وليس فيه إلمام كاف بسلسلة المصادفات المتوالية التي ساقته إلى رئاسة الجمهورية، وليس فيه تعليق على مقتله، ولا عن المتآمرين عليه يشرح هذه الجريمة شرحاً يناسب مكانها في تاريخ الإجرام عامة وفي تاريخ الولايات المتحدة على التخصيص.
وقد اعتقد الأستاذ الخفيف أن البيان الكافي عن أسلاف لنكولن غير ميسور لان الرجل كان كما هو معلوم عصامياً خامل الباء والأجداد. ولكن الواقع أن اللغز يعرض لنا من أمر آياته المعروفين ونستطيع حله من تاريخهم المعروف. وقد قال الأستاذ الخفيف أن ثمة شيئاً كان يجذب الصبي إبرا هام إلى أمه: (وذلك هو معرفتها القراءة والكتابة ثم رغبتها في أن يتعلم الصبي على الرغم من مجادلة زوجها إياها في ذلك ـ إذ كان يرى الصبي أحوج إلى الفأس منه إلى القلم، وحجته انه لا يعرف من الكتابة إلا أن يرسم اسمه ومع ذلك فهو يكسب بفأسه ما يقيم أود أسرته).
وربما كان تاريخ لنكولن كله رهنا بسر هذا الاختلاف بين نزعة المعرفة في أمه، ونزعة المرح في أبيه، ولا شك أننا نعرف الشيء الكثير عن هذا السر متى عرفنا أن هذه النزعة في أمه موروثة متأصلة، لأنها من سلالة غير شرعية لفتاة نسيت في سبيل المعرفة نفسها ومستقبلها. وقد أشار هر ندون - وهو حجة في تاريخ لنكولن - إلى هذه القصة وظهر بعد ذلك كتاب (لنكولن المجهول) لديل كارنيجي فزادها تفصيلاً وجاء قيها بما يغنى في هذا المقام
أما مصرع لنكولن فالكلام فيه عن القاتل أهم من الكلام عن الحادث - لان حادث القتل قد يقع في كل قطر من أقطار الأرض، وقد تكون الخصومة السياسية سبباً في اغتيال الساسة في كل ثورة من ثورات الأمم، ولكن الدوافع التي نزعت بقاتل لنكولن إلى فعلته لا تعهد في غير الحياة الأمريكية وفي غير بدورات المغامرة التي اشهر بها طلاب الظهور في القارة لا جديدة ولا يزالون يشتهرون بها لحد ألان.
فقد كان للرئيس العظيم أعداء كثيرون يودون قتله لتحقيق مطالب أهل الجنوب، ولكن المثل الفاشل الذي قتله - وهو جون ويلكزبوث - لم يكن صاحب رأي ولا صاحب غيرة وطنية، ولا كلن من همه فض الاتحاد الجمهوري أو توسيع حقوق الولايات؛ ولكنه كان فتى وسيماً وممثل عظيم، وكان أبوه جونيوس بروتس اقدر المثلين لأدوار شكسبير، وكان إلى جانب ذلك مثلاً في الصلح والاستقامة والرحمة بجميع خلائق الله، وكان من اجل ذلك يحرر أكل اللحوم ويتجنب إزهاق الحياة ولو كانت حياة أفعى أو حشرة مؤذية. فإذا بولده يقتل اعظم رجل في بلاده لان وسامته جفت عليه وصرفته عن إتقان التمثيل على المسرح إلى إتقان التمثل في موقف الغرام، فتخلف عن زملائه فخطأته الشهرة في ميدانه واحب أن يعوض ما فاته منها بمسرحية تاريخية تطفي على كل مسرحية فنية ينبه بها شأن نابغة من نوابغ لا تمثيل. ولم يكن من قصده في بادئ الأمر أن يزهق حياة الرئيس، وأما خطر له انه يستطيع أن يختطفه ويحمله إلى الجنوب ويسلمه إلى الولايات لا جنوبية لتملى شروطها على ولايات الشمال كما تريد.
وما هو إلا أن فرغ من تدبير هذه المسرحية حتى فوجئ بتسليم قادة الجنوب وضاع كل رجائه في مؤامرة الاختطاف فخطر له يومئذ أن يقتل الرئيس في دار من دور التمثيل ثم يلوذ بالهرب لعلمه بمخارج هذه الدور ومداخلها وخبرته بمواضع النور الظلام فيها.
ولولا انه ممثل فاشل لما خطر له هذه المؤامرة، ولولا اعتماده على معرفته بمسارح التمثيل ملا اختار المسرح لتنفيذها. فهل كثير على تفصيل هذا الحادث صفحتان من كتاب عن حياة الرئيس القتيل؟ وهل يكون مصرع هذا الرئيس مفهوماً وموقعه من طبيعة الحياة الأميركية واضحاً بغير هاتين الصفحتين؟
ويأبى الأستاذ الخفيف أن يصدق انه أهمل بعض المصادفات التي كان لها الأثر الأكبر في ارتقاء لنكولن إلى رئاسة الجمهورية فيكفي أن نذكر له في هذ1 الصدد أن مصادفة واحدة من هذه المصادفات كانت سبباً لتحول الحزب الجمهوري من وليوم سيوارد إلى لنكولن في المؤتمر الكبير الذي عقده الحزب بمدينة شيكاغو سنة 1860 لاختيار مرشحه لرئاسة الجمهورية.
فقد حدث الاجتماع في يوم ميلاد سيوارد، وكان الإجماع بين المندوبين أن ينعقد على اختياره. ولكن مصادفة واحدة غيرت مجرى التاريخ في ذلك اليوم. . . لماذا. . .؟. . . بسبب بسيط، غاية في البساطة. . . وهو أن عامل المطبعة لم ينجز أعداد الأوراق التي كانت لازمة للاقتراع، فاتفقوا على تأجيل البدء بالاقتراع، وتم التأجيل فعلاً، وحدث الانقلاب المفاجئ في هذه الأثناء. فأن الصحفي النابه هو رأس جر بلى - عدو سيوارد اللدود - تمكن في تلك الفترة من تحويل معظم المندوبين عن رأيهم، فرجحت كفة لنكو لن على غير قصد من جر بلى ومن شيعته، لأنهم لم يكونوا مع لنكو لن على وفاق.
ولولا أننا لا نستطيع أن نعيد تاريخ لنكو لن وتاريخ ترشيحاته في مقال واحد لفصلنا الكثير منت أمثال هذه المصادفات.
ولم يكن نصيب المصادفات التي كان لها اكبر الأثر في الترجيح بين الأحزاب نفسها وبين جيوش الشمال وجيوش الجنوب أو في نصيباً من هذه المصادفات التي صعدت بلنكولن إلى رئاسة الجمهورية فأن كثيراً من الأحداث التي ارتفعت بحزب على حزب ونصرت جيشاً على جيش، ترجع إلى مصادفات لم تذكر في الكتاب.
ومن الطريف أننا نأخذ على الأستاذ الخفيف أن ميزانه المشترك بين أبطال كتبه ناقص، فيقول في مناقشة هذا النقد: (أني لست اذكر أني عنيت بالميزان المشترك. فقد كنت اصف كل شخص على حدة، ولم اصدر حكماً على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره).
وهذه هي العقدة وليس هذا هو حل العقدة كما رأى الأستاذ الخفيف. وإلا فهل يرى أن تأريخاً يقوم على الكفاح بين الشخصيات والقادة ثم لا يصدر فيه حكم على لنكولن بعد الموازنة بينه وبين غيره يمكن أن يقال انه وافى الميزان من جميع الوجوه؟
وإنني انتهز فرصة الكلام على الميزان المشترك فأصحح هنا خطأ مطبعياً عرض لجملة من مقالي حيث جاء فيه من أمثلته في تاريخ احمد عرابي انه لم يحرر الميزان كل التحرير عند الحكم على عرابي ومن يمده مثلاً) وصوابها (على عرابي ومحمد عبدة) لان المقصود هنا هو الأستاذ الأمام رحمه الله.
وبعد فلست أظن أن الأستاذ الخفيف يرى أن كتاباً يوضع في تاريخ لنكولن وتاريخ الولايات المتحدة في عصره يصدق القائل فيه ذا قال انه يخلوا من ملاحظات.
فإذا كان كلام كهذا لا يقال في مثل هذا الكتاب فهل هناك من ملاحظات على تاريخ لنكولن الذي كتبه الأستاذ الخفيف أهون من هذه الملاحظات!
عباس محمود العقاد