الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 783/القصص

مجلة الرسالة/العدد 783/القصص

بتاريخ: 05 - 07 - 1948


جناية وصية!

عن الإنجليزية

- 1 -

في بقعة من بقع الريف الجميل، جلس المفتش البوليسي (باول) في مجلس من الأصدقاء، بين أشجار الحديقة الباسقة وأزهارها الباسمة ذات الشذا المسكي. وقد عبث بها النسيم الرطب. فبعثت الطبيعة الجذابة في الجالسين حب الحديث؛ فاقترح أحد الجالسين على المفتش أن يمتعهم بسرد أغرب قضية حققها في حياته. فتظاهر المفتش بالكلال، إلا أن زوجته همست بصوت رقيق النبرات لتبعث في زوجها الشجاعة والأقدام على سرد القصة فقالت له:

- لماذا لا تقص عليهم قضية (سيرفين)؟؟. أنها في الواقع قضية غريبة في بابها.

فنزل المفتش على حكم زوجته. فاعتدل في مجلسه أشعل غليونه. . وأرسل أفكاره في جو القصة وشعر أخيراً يقول:

- تبدأ هذه القصة على وجه التحديد في غرفة شبه معتمة، بها عجوز شمطاء مسجاة فوق سريرها. جاوزت التسعين من عمرها. وقد تغلل المرض الفتاك في جسمها الهزيل، فكانت تتنازع أنفسها بمجهود كبير. ولم يكن بجانبها غير رجلين كانا يتطلعان إلى العجوز في لهفة وترقب. كانت العجوز تحتضر في تلك الليلة، إلا إنها كانت تصارع الموت فغي يأس وعناد. ولم يكن حبها للحياة هو الدافع إلى مقاومة الموت بهذا الإصرار. وإنما دافعها إلى ذلك حبها للمال ومعزتها له. فقد كانت اشد ما تخشاه أن تفارق ذلك الصم الذي أثرت عبادته على عبادة الله. فقد كان في العام المنصرم تتمتع بصحة موفورة. فما بال الموت يدهمها في النهاية ويغمرها على ملازمة الفراش، وانتظار الموت. وفقدان المال. وتركه في أياد تبعث به وتفنيه في أيام وقد جمعته في سنين!! على أن الطبيب كان يتوقع موتها بين لحظة وأخرى - ولكن حبها للحياة - أو حبها للمال - بعبارة أخرى، ظل يدفع عنها الموت إلى أن حانت الساعة وقبل ملك الموت يتحدى الحياة. . .

وأما الرجلان فما كانا يرقبان إلا موتها ليضعا يديهما على ثروتها الضخمة. فقد طال عليها انتظار موتها حتى امتد إلى الثلاثين عاماً. . ذاقا خلالها ألواناً من العذاب، وضروباً من الإهانات التي كانت تمطرهما بها عمتهما القاسية الشحيحة. حتى تبدد أملهما وظنا أن موتهم سوف يسبق موتها!.

وبينما هما يدمنان النظر إليها وهي تتابع أنفاسها المتلاحقة. إذ بجسمها يختلج، وصدرها ينقبض. فابتسم أحد الرجلين وهمس في آذن أخيه:

- أكبر ظني أنها في النزاع الأخير يا (موريس) فيرد عليه موريس شقيقه الأصغر:

- نعم، يا (شارلس) - لم يبق غير دقائق معدودة. فعلى ما يبدو لي أن ما نسمعه من أنين هو حشرجة الموت!. وفي هذه اللحظات، فاضت روح العجوز، فتنفس الشقيقين الصعداء. وغمر الفرح صدريهما، حتى كادا يبديان سرورها بالتهاني لولا أن اعتراهما الخجل. حينما أعلن الطبيب موتها بشيء من الألم.

- 2 -

وما كادت جثة العجوز تواري التراب في صباح اليوم التالي، حتى أسرع الأخوان إلى مكتب محامي عمتهما للاطلاع على وصيتها. وقد أدهشهما أن استقبلهما ابن المحامي مبدياً اعتذاره عن والده إذ قال:

- إن أبي مريض منذ شهور. أظنكما أبناء أخي السيدة (سيفرين) لقد كنت أتوقع قدومكما وسآتيكما بالوصية بعد لحظات.

ابتسم ألا رجلان، وجلسا ينتظران عودة ابن المحامي. وكانت الدقيقة كأنها ساعة. حتى ابن المحامي يحمل غلافاً مختوماً، فقال وهو يفض أختامه.

- هل تريدان أن أقرا لكم الوصية أو أعطيكما إياها لقرأتها ودراستها؟؟. فأشارا بقراءتها:

فقال إذاً فسأصرف النظر عن القسم الخاص بمكافآت الخدم.

وأقرأ الشطر الخاص بكما فأمن (موريس) (وتشارلس) على رأيه. فاستطرد ابن المحامي يقول:

- أقول لكما أن شروط الوصية فيما يختص بكما من الغرابة بمكان؛ ولهذا أرى أن تقراها بأنفسكما. ودفع لهما الوصية. فأخذها (تشارلس) واخذ يقرا ما يلي: (وأما ابنا أخوى اللذان انتظرا موتي بصبر وجلد، فأن حديثي أليهما قصير. يقولون أن الصبر فضيلة. ولا بد له من حسن الجزاء، ومع أن أبني أخي سيحصلان على جزائهما الحق في جهنم، فيجب أن يحصلا على جزائهما في الأرض قبل السماء.

لقد فكرت في أن ادعهما يتقاسمان ثروتي. ولكن لم ألبث أن خطرت ببالي فكرة افضل كثيراً من ذلك. لقد انتظرا طويلاً. وصبرا كثيراً، أفلا يكون (من بواعث رضاي في مثواي أن أرى أيها اعظم صبراً واكثر جلداً؟.

لهذا فكرت بان أوصي جميع ثروتي وعقاري لابن أخي الذي يستطيع أن يعمر في الحياة اكثر من احيه. فإذا مات أحدهما تؤول جميع ثروتي لمن بقى منهما على قيد الحياة. وفي أثناء حياة الاثنين احرم عليهما الحصول على قرش واحد من ثروتي!!.)

شهق الأخوان طويلاً. واحمر لونهما. وراح كل منهما يتطلع إلى الآخر في ذهول عظيم.

كانت الوصية بشروطها تحوي إيحاء وتحريضاً على أن يحاول كل من الأخوين قتل الآخر حتى يفوز بالثروة. لقد أرادت عمتهما الشيطانة أن تحطمهما بضربة واحدة. فافترق الأخوان. وعاش كل منهما على بعد من أخيه!.

- 3 -

وتحولت حيلتهما منذ ذلك اليوم إلى جحيم دائم، وقلق مستمر. تسرب الشك إلى كل منهما إلى الآخر. وكان الشيطان اللعين يوسوس لكل منهما أن يفتك بالآخر ليظفر بالثروة. وهزل جسماهما من فرط السهر واصبحا كشبحين لهما هيكل محطم لا حياة فيه ولا حراك!.

واتفق أن عثر (تشارلس) على موسوعة (بريطانيا) الطبية. فكان يسهر لياليه ساهدا لا يغمض له جفن. وهو فمسك بيده ذلك الكتاب يقتله قراءة ودراسة. وقعت عينه في الموسوعة على فصل عن (الأعشاب السامة) واسكنه نموها في إنجلترا. فخطرت (لتشارلس) فكرة شيطانية. فراح من ساعته يجد في الحصول على بعض الأعشاب السامة، فطحنها، ودس المسحوق الناتج في طعام أخيه (موريس) بخطة جهنمية - حتى تمت بالنجاح.

فحدد يوماً لارتكاب الجريمة. وبعد الانتهاء من خطته، سافر إلى بلدة مجاورة. فتناول (موريس) طعامه الممزوج بالسم. ولما عاد (تشارلس) من لندن في صباح اليوم التالي.

وجد أخاه في اشد حالات المرض. فاستشعر شيئاً من الندم. إلا أن بريق المال أطفأ تلك النار المتأججة. ولطالما بذل طبيب الأسرة مجهوداً جباراً لشفاء (موريس) إلا أن جهوده ذهبت أدراج الرياح. فذهب ضحية لشروط الوصية!.

على أن (تشارلس) لم يجد صعوبة كبيرة في إقناع الطبيب بان الوفاة كانت طبيعية. ولزم بعد ذلك الصمت بضع أيام. قلم يطالب بالإرث مباشرة خشية أن يثير ذلك الريب، ويحرك الظنون. وفي ذلك الظرف الذي كان (تشارلس) مقسم الفكر بين وخز الضمير وجاذبية المال اخذ الناس يتكلمون ويتهامسون. وسرى بينهم الشك والارتياب في أمر (تشارلس) وانتشرت الإشاعات في كل الأمكنة بان وفاة (موريس) لم تكن طبيعية. وانه مات مقتولاً بسبب شروط الوصية. ولم يمض وقت طويل حتى تلقى البوليس رسائل من مجهولين فيها، اتهام صريح (لتشارلس)، وأصدر قاضي المقاطعة أمراً باستخراج الجثة وتشريحها. وسرعان ما اكتشف أثار السم في أمعاء الميت.

وما كدت أواجه تشارلس بالاتهام حتى خارت قواه، واعترف بما جنت يداه. وقدمته للمحاكمة. فكان مصيره الإعدام. ولم يزداد قلي حرقة ونفسي ألماً حينما أتذكر ساعة قيادته إلى الإعدام. فقد استحال في تلك اللحظة إلى شبح مخيف.

- 4 -

كف المفتش (باول) عن سرد القصة. فنظر أحد الجالسين إليه بحزن وقال:

- إنها قصة غريبة ومحزنة في وقت واحد!!.

- فنظر إليه المفتش باسماً متألماً. . وقال:

- في الواقع أن الباعث الأكبر على غرابة القصة لم يذكر بعد. فاستطرد يقول:

ومضت شهور. ونسى الناس كل شيء عن هذه القضية. إلى أن جاء يوم تلقيت فيه رسالة من رجل كان يعاني سكرات الموت في إحدى المستشفيات. قال الكاتب ف رسالته:

(أريد مقابلتك حتماً، فإن لدي معلومات خطيرة عن قضية (سيفرين). فاسبق بالمجيء اجلي. فقد يقول الأطباء. أن ساعتي محدودة.

وكان الخط من السقم بحيث لا يقرأ مما أكد لي أن حالة كاتبه جد خطيرة. فنظرت عجلان إلى التوقيع فإذا بي اقرأ (ستيفن دريك) وهو اسم لم يطرق سمعي قبل إلية. فركبت سيارتي. ومضيت إلى المستشفى، ولما استعلمت من كاتب المستشفى عن (دريك) إلا لي انه نقل إلى المستشفى في صباح ذلك اليوم مصاباً بجروح قاتلة على اثر تصادم شديد بين سيارة كان يركبها، وسيارة نقل كبيرة، وان حالته تدعوا إلى اليأس!

ودخلت عليه في الحجرة. فإذا أرى بي شاباً ممدوداً فوق الفراش. يئن أنات الألم. ويتلوى كالأفعى من آلام الجروح. فلما رآني سكن ورسم على شفتيه ابتسامة الهزيل الياس، فابترني بقوله:

آه! إذاً فقد جئت أخيراً أيها المفتش بأول. يبدو أن الدهش يمتلكك لأنني اعرف اسمك، وأشار ألي بالجلوس. لقد كان شاباً جميل الوجه، مشرق الجبين، إلا انه كان بادي الإعياء من فرط ما ناله من آلام وما نزف من دمه. فاستطرد يقول لي:

(أنا (دريك) محامي قضية (سيفرين). أن بيني وبين الموت دقائق. ولكني اشعر برغبة ملحة في إشراك شخص آخر في سري قبل أن انطلق للاجتماع بعميلي في السماء؛ وقد هداني تفكيري إلى اختيارك لأبثك سري، وأوضح لك أمري، ولا سيما وأنت الرجل الذي قدم (تشالرس) إلى يد العدالة.

وأطال الشاب النظر إلى وجهي. ثم ابتسم بسخرية واستطرد:

- (يخيل إلى انك بدأت تفطن إلى ما أنت بسبيل قوله. نعم، أنا هو الرجل الذي كان يجب أن يوضع في حبل المشنقة بدلاً من (تشارلس) المسكين، ولكني لا اعني بذلك إنني الذي دسست السم لأخيه. كلا؛ أن (تشارلس) هو الذي فعل هذا، ولكني أنا الذي دفعته إلى ذلك، فقد كانت الوصية التي قرأتها على الرجلين مزيفة. كان المحامي المحتضر يتكلم بلهجة الساخر المتحدي، لا بلهجة النادم الباكي. ولا عجب فقد كان يعلم انه أصبح في مأمن من يد العدالة.

وواصل حديثه بقوله:

(أجل. لقد كانت الوصية مزيفة، فقد كتبتها بعد طوال تفكير. كتبتها على أمل أن تجني، وفعلاً جنت على نفسين لا ذنب لهما. لقد جعلت في محتوياتها شرطاً يكفي لحض (موريس) و (تشارلس) على أن يجني أحدهما على الآخر فيقتله. وهذا هو متمناي أن يقتل أحدهما الآخر. أما لماذا كنت أسعى لذلك، فالأمر جلي بسيط. ذلك أنني كنت قد بعثرت إرثهما في المضاربات المالية، وما يماثلها من ضروب المراهنة. ولم يكن ثم خطر يتهدد ني عندما كانت العجوز (سيفرين) على قيد الحياة. إلا أن الموقف تغير بعد موتها واصبح خطير الجانب، مرهوب الظهر!. فقد كان من المحقق مطالبة الأخوين بإرثهما. وعندئذ تتجلى الحقيقة، وتسوء العقبى.

ثم توقف (المحامي) قليلاً. وتنفس طويلاً. ثم أردف:

- إنك بالطبع تعرف بقية القصة. فعندما ماتت (سيفرين) اضطررت ' إلى تزيف الوصي الجانبية العاتية، وأنا آمل أن تدفع شروطها أحد الوارثين إلى قتل الآخر، فقد مضى أسبوعان بعد وفاة العجوز ولم يقدم أحد الرجلين على جريمة القتل؛ فلجأت إلى حيلة أخرى لأحثهما على ارتكاب الجريمة. فوضعت (الموسوعة البريطانية) في متناول يد (تشارلس) وأنا آمل أن يلجأ إلى استخدام أحد السموم المذكورة فيها للتخلص من (موريس).

وقد نجحت خطتي بالتخلص من (موريس) فرحت أبت الدعايات وأنشر الإشاعات، في طول المدينة وعرضها، مؤداها أن (موريس) مات مسموماً. وقمت أيضاً بإرسال الكثير من الرسائل المجهولة إلى البوليس ألقي فها تهمة موت (موريس) على أخيه (تشارلس).

(وانتهى الأمر كما تعلم بإعدام (تشارلس) المسكين!. ولكن. حل بي انتقام السماء.)

ثم كف بعد ذلك عن الكلام. فأدهشني انفجاره في الضحك. وبعد لحظات همد جسمه.

سيد أحمد قناوي