مجلة الرسالة/العدد 783/السيدة غريغوري
→ نداء الفداء | مجلة الرسالة - العدد 783 السيدة غريغوري [[مؤلف:|]] |
من تاريخ الطب الإسلامي ← |
بتاريخ: 05 - 07 - 1948 |
للأستاذ نجاتي صدقي
قال لي أحد معارفي ذات يوم: اذكر أنني قرأت لك منذ سنة تقريباً قصة بعنوان (الأب غريغوري) وقد ختمتها بان (كلاره) كانت تذهب كل يوم أحد إلى مقبرة صهيون بالقدس لتبكى القسيس الراحل.
قلت - نعم. . . وهل من عيب في هذه الخاتمة؟
قال - كلا. .
قلت - إذن ما هي رغبتك؟
قال - أتشوق إلى معرفة مصير هذه السيدة. وهل هي باقية على قيد الحياة؟. وهل تزوجت أم لا تزال على العهد الذي قطعته لزوجها الشيخ وهو على أبواب الأبدية؟.
قلت - أتريد أن أضع ملحقاً للقصة؟.
قال - كلا، ولكني أحس برغبة ملحة في معرفة ما تم لهذه السيدة التي وصفتها بأنها السحر الحلال، والأنوثة المغرية قلت - لا تزال السيدة غريغوري مقيمة على عهدها إلا تتزوج أحداً بعد الأب غريغوري، فتمثاله ما فتئ معلقاً في صدر غرفتها، وصورة السيد المسيح لم تتزحزح عن مكانها منذ خمس سنوات، وقنديل الزيت يواصل إضاءة أيقونة العذراء ليلاً ونهاراً. أما خطاب السيدة غريغوري فكثيرون، واعرف منهم أربعة، وإليك قصصهم:
الخاطب المثال:
جاءها في بادئ الأمر مثال وقال لها: أتسمحين أيتها السيدة أن اصنع تمثالاً نصفياً لزوجك الراحل؟
فأظهرت كلاره ارتياحها لهذا العرض الكريم، وأذنت له بصنع التمثال، فصنعه، وكان ابرز شيء فيه لحية الأب غريغوري، ونصبته في صدر غرفتها. ثم قال لها المثال: أتسمحين أن اصنع تمثالاً جانبياً (بر وفيل) لوجهك الجميل؟. فأبدت ارتياحها وموافقتها، أخذت تزوره كل يوم في أستوديو عمله إلى أن تم له صنعه، وقد ظهرت فيه السيدة غريغوري بوجهها النحيف الكئيب، وقد تدلى شعرها المشعث على صدغيها، وكان تمثالاً أخاذاً مما حدا بأحد السياح الأميركيين أن يبتاعه بثمن باهظ.
وقال لها المثال يوماً: أتسمحين لي أن اصنع تمثالاً لجسمك بأكمله ليكون مثالاً حياً لصنع الخالق جل جلاله؟.
قالت - هذا لم يكون. . فالمرحوم الأب غريغوري هو الشخص الوحيد الذي كنت اظهر أمامه كما خلقت، وكثيراً ما كان يتحسس جسمي كالضرير ويقول: (سبحانك ربي على قدرتك في تكوين الجمال!). أما الآن فما قيمة هذا التمثال الذي تود صنعه لي؟. . كلا، ودع عنك هذه الفكرة.
قال التمثال وقد ركع على ركبتيه: وهل لفنان مثلي أن يحتفظ بتمثالك الحي لنفسه؟!. انك ضرورية لي لاستوحي منك الفن الرفيع. هاك يدي يا كلاره فلا ترفضيها، أتوسل إليك.
فأنهضته كلاره قائلة: لن أتتزوج بعد الأب غريغوري أحداً. أما أنت فكفاك فجراً انك صنعت تمثالاً نصفياً للأب غريغوري حاز إعجابي. وصنعت لي تمثالاً جانبياً (بر وفيل) حاز إعجاب أحد الأمريكيين. وهذا وذاك احسن دعاية لك كفنان كبير. فاذهب الآن ترافقك السلامة، وخير لك أن لا تعود إلا بعد هذا اليوم.
الخاطب كاتب العرائض:
أما الخاطب الثاني الذي تردد على السيدة غريغوري فكان أحد كتاب العرائض وهو من معارف المرحوم زوجها، فكان يزورها بين حين أخر معزياً فيحمل لها بعض الهدايا ويجلس صامتاً ل يجرؤ على الإفصاح عما يخالج نفسه نحوها، خشية أن تصده وتجرح شعوره، إلا أن عينيه كانتا تتحدثان عن أمر ما.
وفي فجر أحد الأيام اقترب كاتب العرائض خلسة من مسكن السيدة غريغوري واسقط رسالة في صندوق رسائلها وفر. ولما التقطتها قرأت فيها ما يلي:
(كلاره!)
لدي ما أقوله لكِ ولكني لم اجرؤ، حينما كنت أتتردد إلى بيتك، على مفاتحتك بما كنت أفكر فيه من خطط ومشاريع.
والذي كنت أريد أن أبوح به إليك دون موارية هو أنني أهيم بك يا فتاة أحلامي. إنني أعجبت بك في حياة المرحوم الأب غريفوري، ثم أحببتك بعد وفاته. كم يؤلمني دائماً أن أراك مطرقة حزينة. فما الداعي إلى حزنك هذا؟ وهل تتوقعين أن يعود القس إلى قيد الحياة؟ انسيه كما نسي هو زوجته وابنته من قلبك!. فكري في مستقبلك وشبابك ونضارتك.
كلاره!.
أنت وحيد وان وحيد. فلماذا ما نعمل معاً على إزالة آلام وحدتنا هذه؟. أن اكسب من عملي شهرياً خمسة عشر جنيهاً، وأنت تكسبين من عملك شهرياً عشرة جنيهات. فلماذا لا تصير معاً خمسة وعشرون جنيهاً؟!.
أجيبي أيتها العزيزة. أجيبي هذا القلب الكسير. وآمل أن أتلقى ردك بالبريد حتى أتحمل الصدمة، السارة أو المؤلمة، برباطة جاش).
من المخلص لك أبداً
(. . .)
وبعد أن قرأت السيدة غريغوري هذه الرسالة ذهبت بنفسها إلى حيث يعمل مرسلها وقالت له: تلقيت رسالتك، أما جوابي فهاكه. وعركت الرسالة بيدها، ثم قذفت بها في الهواء، وانصرفت تاركة كاتب الرسائل في حيرة وذهول شديدين.
الخاطب القيصري:
وكان الخاطب الثالث ضابطاً روسياً من ضباط القيصر نيقولا الثاني، يدعى إيفان بوغاتيرسكي، وهو رجل في حدود عمر الأب غريغوري تقريباً، وشاربان طويلان، ولحية متدلية من الحدين دون الذقن.
فبينما كانت السيدة غريغوري في عصر يوم تجلس إلى جانب النافذة تقلب ما تركه المرحوم زوجها من آثار أدبية، إذ بباب دارها يقرع قرعاً خفيفاً. ولما فتحته وجدت نفسها أمام ضابط روسي قديم، يحمل بيد علبة حلوى وباقة زهور، ويحمل باليد الأخرى بقعته ومنديله. وبادر السيدة غريغوري قائلاً: وقد اشتركت معه في معركة تاننبرغ سنة 1918، وتذوقنا البؤس معاً في أزقة مونمارتر بباريس سنة 1925. ورحلنا إلى فلسطين في باخرة واحدة، فصار هو قساً، وبقيت أنا آمني النفس بالعودة إلى روسيا.
فاضطربت السيدة غريغوري قليلاً، وأذنت لهذه الشخصية الغامضة بالدخول.
وبعد أن قدم الزائر الزهور وعلبة الحلوى لصاحبة البيت، اطرق قليلاً، ثم انحدرت دمعة على خده فمسحها بمنديله وقال وهو يتنهد: رحمك الله ياغريغوري! لقد كنت اعز صديق لي، ثم قضى علينا أن نفترق ولا مرد لقضاء الله وقدره. ولكن ثق يا أخي باني لم أنساك وستبقى ذكرياتك الطيبة عالقة في خاطري ما حييت.
وساد الغرفة صمت، ثم قطعة الزائر بمخاطبته السيدة غريغوري قائلاً: بلغني يا سيدتي أن عندك غرفة تودين تأجيرها، فهل تجدين مانعاً يحول دون تأجيري اياها؟. أنت بحاجة إلى رجل ليدافع عنك ويعينك على تخطي مصاعب الحياة. . . أنت بحاجة إلى مال، وما من ريب في أن معاشك لا يسد بعض نفقاتك. أرجو أن تأذني لي باستئجار غرفة في مسكنك وسأدفع أي مبلغ تطلبينه، يضاف إلى ذلك انك ستجدين إلى جانبك من يحدثك باللغة الروسية التي كان يعلمك إياها المرحوم غريغوري.
وساد الغرفة الصمت مرة ثانية، ثم نهضت السيدة غريغوري وأحضرت باقة الزهور وعلبة الحلوى أعادتهما إلى السيد إيفان قائلة: اذهب وضع هذه الباقة على قبر صديقك إذا كنت توده حقاً، ووزع هذه الحلوى بين الفقراء ليترحموا على روحه.
وشيعته إلى باب الدار الخارجي. . .
الخاطب الفاسق:
أم الخاطب الرابع فكان يهودياً بولونياً صاحب خطة جهنمية. فقد طرق بيت السيدة غريغوري عصر يوم وبرفقته امرأة وفتاة في الثانية عشرة من عمرها. فاستقبلتهم ربت البيت مرحبة بهم، وبعد لحظات تبودلت فيها النظرات والابتسامات استهل الرجل كلامه بان ترحم على روح المرحوم زوجها، وذكر محامده ومآثره، ووصفه بأنه كان مثالاً للنزاهة والإخلاص بين الناس، غير أن الموت الذي اختطف روحه لا يتردد في اختطاف روح أي إنسان إذا ما حانت ساعته.
ولما قدمت السيدة جريجوري الشاي لضيوفها قال لها الرجل وهو يحرك الملعقة في قدحه: تجول في خاطري فكرة أود عرضها عليك، وربما تجدين فيها بعض الغرابة والجرأة، ولكنها مبنية على شعور عاطفي، لا تتنافى مع ناموس الاجتماع. انظري إلى هذه السيدة فهي زوجتي، وانظري إلى هذه الفتاة فهي ابنتي. إلا أنني غير راضي عن حياتي الزوجية هذه، وقد عقدت النية على أن أطلق زوجتي طلاقاً لا رجعة فيه، وزوجتي توافقني على هجري اياها، اليس كذلك يا راحيل؟.
فطأطأت راحيل رأسها وأومأت بالإيجاب.
ثم أن ابنتي سونيا تفضل طلاق أمها على أن يظل سوء التفاهم سائداً في منزلنا. أليس كذلك يا سونيا؟.
فطأطأت الفتاة رأسها وأزمات بالإيجاب أيضاً.
وهكذا ترين أيتها السيدة إنني آتٍ لأطلق زوجتي أمامك، ولأخطبك أمامها وابني شاهدة. وقد انتهجت هذه الخطة لاختصر الطريق، ولأزيل كل العقبات التي يمكن أن تعترض سبيل زواجنا.
وتناول الرجل جرعة كبيرة من الشاي، ولعق ما علق على شاربيه من قطرات وتابع حديثه قائلاً: لقد أدركت مقدماً انك ستقولين لي انك متزوج. وان لك ابنة لا ترضى عن هجرك لامها، فقررت أن أحضرهما أمامك لأضع النقاط على الحروف كما يقول المثل. فما أنا إلا طالب حلال، وبيتك الجديد في انتظارك، والقول الفصل لكِ.
كانت السيدة جريجوري تستمع إلى كلام هذا الزائر وهي تقرض شفتيها بأسنانها وقد انفعلت انفعالاً شديداً، لكنها تمالكت نفسها وقالت للرجل بهدوء ورزانة أنها غير مستعدة لسماع مثل هذا الهذيان، ونصحت الرجل أن يبحث عريس لابنته وأشارت إليهم بالانصراف.
وقد اتضح للسيدة جريجوري فيما بعد أن هذا الخاطب هو صاحب بيت الدعارة السرية، وان زوجته وابنته تعينانه على نصب حباله وشباكه. وإن (البيت الجديد) الذي كان في انتظارها ليس إلا بيت الفسق والموبقات.
قلت لمحدثي - هؤلاء هم الخطاب الأربعة الذين توددوا إلى السيدة جريجوري، وكانت تصدهم الواحد تلو الآخر. ولعلك ترى فيهم نماذج بشرية مختلفة.
قال - أود سماع كلمة منك تفسر سلوك هذه المرأة من نفسها، وسلوك هؤلاء الخطاب الشاذين منها.
قلت - السيدة جريجوري هذه مشكلة سيكولوجية، فهي صبية مثقفة، وفاتنة، وفيها الشيء الكثير من الجاذبية الجنسية، عاشرت قسماً اكبر من أبيها ومات.
فهل وقعت هي فريسة للأب جريجوري عندما كانت في حالة من أللاشعور الجنسي؟.
هل ثابت هي إلى رشدها بعد أن مات القس ورأت أنها ارتكبت حماقة بمعاشرتها إياه، لكنها تكابر وتحاول أن تظهر بمظهر المرأة المخلصة للزوجية المثالية؟
هل تشعر هي بأنها فشلت في هذا الزواج الذي آثار حولها الكثير من اللغط وتخشى السقوط مرة ثانية في زواج مماثل له؟
هل تتوقع هي زوجاً يكون له من القوة، والذكاء، والجمال، ما يعوض عليها معاشرتها لذلك الرجل الضعيف، الخامل، البشع.
وأخيراً ما الذي يحدو بها إلى الاحتفاظ حتى يومنا هذا، بتمثال القس النصفي، وبصورة المسيح معلقة على الحائط، والى جانبها أيقونة يعلوها قنديل زيت مضيء. . .
هذه أسئلة محيرة حقاً. . .
أما خطابها فقد تكونت عندهم فكرة محدودة عنها، مصدرها القس الراحل، وهي أنها تميل إلى معاشرة الكهول والشاذين من الرجال. . .