مجلة الرسالة/العدد 78/ليلة حافلة
→ تطور الحركة العقلية في شمال أفريقية | مجلة الرسالة - العدد 78 ليلة حافلة [[مؤلف:|]] |
الحكم الأدبي ← |
بتاريخ: 31 - 12 - 1934 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
منذ نحو ربع قرن - فقد صرنا نحسب مسافات الزمن بأرباع القرون! - مات لنا قريب شاب، أبوه من سراة الريف، فرافقنا رفاته على قطار خاص إلى البلدة. وكانت العادة في تلك الأيام أن يظل المأتم قائماً أسبوعاً أو أربعين يوماً، وكنت يومئذ مدرساً، وكان الوقت صيفاً، والمدارس موصدة، ففي وسعي أن أشاطر القوم حزنهم إلى آخر المدى، فجاءني يوماً شاب من أقربائي، وانتحى بي ناحية وأسر إلي أن أخته تكاد تموت جوعاً، فعجبت، فإن الخير كثير والطعام وفير، وما يذبح كل يوم من الخراف والعجول يكفي جيشاً. فأخبرني أن الموائد توضع ثم ترفع كما هي، لا تمتد إلى ما عليها يد، وأن أخته تستحي أن تتناول شيئاً، ولكن نساء البيت بعد ذلك يتسللن إلى حجرة قصية فيقبلن على الطعام ويلتهمن منه ما لا يحسب الحاسب، فهن يمسكن عن المطعم علانية ويمترن منه سراً، وأخته تنظر وتتحسر، وقد التوت أمعاؤها من الجوع. ثم سألني:
(والآن ما الرأي؟ أشر كيف تأمر!)
فقلت له: (دع هذا لي)
وللشباب جمحاته وحماقاته - ركبت إلى مدينة قريبة، فاشتريت شيئاً من الرقاق الملفوف باللحم، ومربى، وألواناً من الحلواء، وأرغفة، وعدت وأنا أقول لنفسي: (هذا شيء ينفعها إذا نام الليل)، ولم يكن من السهل أن أدخل البيت ومعي هذا الحمل، تحت عيون هذا الخلق كله، وماذا عساي أن أقول إذاسألني سائل عما لف عليه الورق؟ لهذا اضطررت أن ألف وأدور، وأختبئ هنا وههنا، حتى تيسر لي أن أبلغ غرفتي من غير أن يراني أحد، وبقي أن أنتظر حتى يقبل الليل، وتنقطع الرجل، فأحمل هذه الربطة إلى حريم الدار، والله المسئول أن يوفقني إلى الوصول إلى قريبتنا الطاوية، وأن يقيني عواقب هذه المجازفة! وهل أعدم خادمة تدعوها إلي أو تحمل إليها هذه الرسالة
وجاء الليل، وقمنا إلى المخادع، وكان لي في غرفتي شريك، فذهبت أدخن سيجارة بعد سيجارة، حتى علا شخيره، ففتحت الباب وأرهفت أذني، فلم أسمع شيئاً، فتوكلت على الله، وأقدمت - أعني مشيت مترفقاً حتى خرجت من هذا البناء المهيأ للضيوف، إلى صحن واسع يفصل حريم الدار عن ثويّ الرجال، وكان الليل طاخياً، فلم أزل أتخبط حتى لمست باباً توهمته باب المنزل فدخلت، ولكني لم أجد سلماً أرقى فيه، فاستغربت ورحت أدور بالمكان، ويدي على الجدار، فكنت أجد أبواباً، بعضها مفتوح، والبعض مواربٌ أو مغلق، ولكن لامرقات، فقلت أخرج من هذا التيه، وتركت الجدار واندفعت، ويداي أمامي لتتلقيا عني الصدمة إذا بلغت حائطاً أو شبهه، وإذا باللفافة التي معي تلمس جسماً فيسقط منه شيء على الأرض فأفزع، وأدع اللفافة تهوي، ثم إذا بواحد يهجم علي فأقع ونتدحرج معاً على البلاط وهو ممسك برجلي يريد أن ينزعها، وأنا أدفع في بطنه، حتى تخلى عن رجلي فدرت على ركبتي، وقد أيقنت من صمته أنه غريب واغل يتلصص، وألفيت يدي على عنقه، فأخذت بمخنقه، فلكمني بجمع يده فانقلبت على ظهري وقد تخليت عن رقبته، فانقض علي، فضربت برجلي فأصبت جنبه، فمال عني فنهضت على ركبتي وجعلت أضرب بيدي، ولكن في الهواء، حتى لمست رأسه فقبضت على شعره وجذبت بكل ما فيّ من قوة، فنطحني في بطني، فانثنى بعضي على بعض، فركلني برجله، فتدحرجت كالكرة. فعدا يريد أن يجهز عليّ فأخطأني وخبط الباب برأسه فكأن قنبلة انفجرت في سكون الليل، وإذا بصوت رجل يصيح:
(مين. .؟)
ثم انقطع الصوت، لأن صاحبه على ما يظهر داس بعض الطعام الذي تبعثر في المكان، فتزحلق فوقع على الأرض كالحجر، وكنت أنا قد نهضت، ولمست يدي باباً ففتحته ودخلت، وأنا أسوي شعري وأمسح وجهي وأنفض التراب عن ثوبي، وكانت هذه لحسن الحظ غرفتي، فقد سمعت شريكي فيها يقول وهو يثب عن السرير
(ما هذه الأصوات! ماذا جرى؟)
فقلت - وقد ارتدت إليّ نفسي - (لا أدري. . يظهر أن هنا لصاً، قم فلننظر)
فصاح: (لص؟) وأسرع إلى الشباك فنادى
(يا ولد! يا مخيمر! يا مخيمر!)
وفتحت الأبواب، وأطلت منها رؤوس النوام - أو الذين كانوا نوّاماً - وكثر اللغط، وعلت الضجة، واختلطت الأصوات، وصار هذا يسأل عن الخبر، وذاك يدعو مخيمر وغيره ممن نسيت أسمائهم من الخدم، وثالث يصيح أن هاتوا نوراً، ورابع يقول أين المصباح؟ وخامس يسأل محتجاً (أليس مع أحدكم عود ثقاب؟)
وفي أثناء ذلك كان الذي وقع قد لامس خده المربى التي انكسر وعاؤها فسالت، فلم يخالجه شك في أن قتلاً حصل وأن هذا دم القتيل، فكاد يموت من الرعب، ولزم مكانه ولم يحاول حتى أن يرفع خده عن المربى، وجاء مخيمر يحمل بندقيته، ووراءه كثيرون غيره، وفي يد أحدهم مصباح، تقدم به - في حماية البندقية - وإذا بنا نرى (وكيل) صاحب البيت، مطروحاً على وجهه، ويداه ممدودتان، وخده لاصق بالمربى، وهو يرفع رأسه وينظر محاذراً، ثم كأنما اطمأن قليلاً فجعل يطرف، ويدير عينه، فيبصر بالوعاء وما سال منه، فيمسح بعضه عن خده وهو ينهض، فتجمعنا حوله وحففنا به، وجعل بعضنا ينظر إلى بعض مستغرباً متأففاً، منكراً على هذا (الوكيل) الشره، ألا يكون له هم سوى بطنه، وأن يزعجنا في فحمة الليل بهرسه ومحاولته إخفاء ما يأكل
ونظر إليه صاحب البيت نظرة سخط واشمئزاز، وقال له: (ما هذا؟ مربى، ورقق، لم أكن أعرف أنك مبطان نهم إلى هذا الحد؟؟ وقليل الذوق أيضاً؟ حلواء في مأتم! فهلا انتظرت حتى ينفض المأتم؟؟ أم شامت أنت بي؟ لعنة الله عليك وعلى والديك! قم. . . قبحك الله! ولا ترني وجهك!)
فهم الرجل بأن يقول شيئاً، فقد كان مظلوماً ولا ذنب له، ولكن سيده أبى أن يسمع والتفت إلينا وقال:
(إن هذه فضيحة والله! الخير كثير والحمد لله، وفي وسعه أن يأكل ما شاء، ويشبع، إذا كان يمكن أن يشبع، فانظروا ماذا صنع؟ وبأي شيء يجزيني وقد ربيته وكفلته ولم أزل به حتى جعلته وكيلاً لي. وأميناً على أملاكي!! يشتري حلواء ومربى ورقاقاً ليأكلها خفية في مأتم ابني!! اخرس يا كلب! ولك وجه تقابلني به يا كافر النعمة! والله لولا أنك حقير لأفرغت في قلبك الآن الرصاص. امش. . اخرج من عندي. .)
فقلت: (شيء فظيع!)
وارتددت إلى غرفتي ساخطاً.
ولبثنا ساعة نمزق أديم هذا الوكيل الشره الجحود الذي يأبى إلا أن يأكل حلواه في مأتم ابن سيده! وأصبح الصباح فاستأنفت ألسنتنا هجوه وذمه. وكنت أشعر بعطف عليه ومرثية له، ولكني لم أكن أستطيع أن أذكر الحقيقة فأحول إلى نفسي كل هذا اللعن الذي ينصب على رأسه. ودنا مني الشاب قريبي الذي كان سبباً في كل هذا، وسألني همساً: (أتعرف حقيقة ما حصل أمس؟)
قلت: (لا. ولا أزال مستغرباً ما كان من هذا الوكيل)
قال: (إنه مظلوم!)
قلت: (يا شيخ! كيف يمكن أن يكون مظلوماً وقد رأيناه بأعيننا؟)
قال: (والله إنه لمظلوم!)
قلت: (ربما يا أخي! العلم عند الله!)
قال: (فينا من يكتم السر؟)
قلت: (لا تخف. إن صدري بئر لا قرار لها)
قال: لقد احتلت حتى جئت بشيء من اللحم والخبز، ولففته في ورقة، وكنت أريد أن أسعد به إلى أختي بالليل، ولكني اصطدمت بالظلام بواحد كان يريد أن يقتلني. . .)
فقلت مستغرباً: (يقتلك؟ لماذا!)
قال: لا شك إن هذا كان قصده، فقد كان همه أن يقبض على عنقي ويضغط، وكان يحرص على الصمت حرصاً شديداً، وعندي دليل آخر: ذلك أنه لم يكد يسمع صوت الوكيل يصيح (مين) حتى اختفى فجأة!)
فسألته: (وما منعك أن تستنجد؟)
قال: (وأفضح نفسي؟ ماذا يقولون عني إذا رأوا معي هذه الأطعمة؟ لقد كان كل همي أن أتخلص وأرتد إلى غرفتي)
قلت: (وكيف خطرت لك هذه الفكرةالسخيفة؟)
قال: (ليست سخيفة. أنها طبيعية، أول ما يخطر للمرء)
قلت: (وهل كان من الضروري أن تجئ بمربى وحلواء؟)
قال: لم أجئ بها. وهذا اللغز الذي يحيرني.)
قلت: فمن أين جاءت إذن؟ الوكيل طبعاً!) قال: (لا أصدق. لقد كان خارجاً من غرفتي لينظر ما الخبر)
قلت: (صحيح. الحق معك)
قال: إذن من أين جاءت؟)
فصحت به: (وهل أنا أعرف؟ ألا يكفي فزعنا بالليل حتى تحطم لي رأسي بالنهار؟)
فاعتذر ومضى عني
وسعى الوكيل بعد أيام يسترضي سيده
والغريب أن قريبي نسي أني وعدته أن أنقذ أخته، ولو تذكر لعرف من أين جاءت المربى والرقاق، ولأدرك أن الذي اشتجر معه في الظلام لم يكن قاتلاً متربصاً، وإنما كان قريبه
إبراهيم عبد القادر المازني