الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 78/تطور الحركة العقلية في شمال أفريقية

مجلة الرسالة/العدد 78/تطور الحركة العقلية في شمال أفريقية

مجلة الرسالة - العدد 78
تطور الحركة العقلية في شمال أفريقية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 12 - 1934


للكاتب المستشرق جاستون بوتول

نشرت مجلة (الأخبار الأدبية) (النوفيل لترير) في عددها الأخير مقالاً للكاتب المستشرق جاستون بوتول عن الحركة العقلية في شمال أفريقية هذه ترجمته:

كلما أوغلنا في التاريخ أدركنا أن تونس أو بعبارة أخرى أن تونس - قرطاجنة المعقدة كانت دائماً عقل أفريقيا الشمالية. وإنه لقدر غريب: قدر هذه المدينة، التي كأنها سارية القارة، والتي هي الحد الفاصل بين شرق البحر الأبيض المتوسط وبين غربه؛ ولقد كانت دائماً طريق الفتوح العظيمة، كما كانت مجمع الطرق التجارية الكبرى؛ وهي أقصى بلد في شمال أفريقية وأقربها إلى أوربا، ولكنها أقربها إلى المشرق أيضاً؛ ثم هي أعرقها في الطابع الأفريقي، لأن السهول الصحراوية التي تفصلها عن البحر في الجهات الأخرى حواجز عالية، تمتد بلا انقطاع إلى تونس؛ وأخيراً هي المدينة التي كانت تلتقي فيها النزعات العقلية وتمتزج من جميع الأنحاء

كانت قرطاجنة في الوقت الذي كانت رومة تصارع فيه ما حولها من الظلمات، قد قامت برسالة عظيمة في المدنية، واكتشف غرب البحر الأبيض والبرتغال وساحل أفريقية الغربي. ثم غدت قرطاجنة بعد الحروب البونيقية المدينة الثانية في العالم الروماني؛ ولما أتمت مراحلها الثلاث أعني البونيقية، والرومانية، ثم النصرانية، دخلت تونس في مرحلتها الإسلامية، وسرعان ما تفوقت على القيروان وغدت مرة أخرى أهم مراكز الحركة العقلية في المغرب. ولم يكسفها قط بهاء فاس المحدث، ولبثت تونس هي المركز الذي تزدهر فيه العلوم والفلسفة العربية لآخر مرة، وكان ابن خلدون، في فجر الأحياء، آخر ثمارها العظيمة

أما اليوم فإن الموقف أكثر تعقداً؛ وعلى رغم ازدهار جامعة الجزائر، ونجاح معهد الدراسات العالية المراكشي في رباط وتقدمه نحو التحول إلى شبه جامعة، فإن تونس تبقى مركز التفكير الإسلامي في شمال أفريقية. ويكفي لتوضيح خطر هذا الدور أن نقول أن المسلمين يبلغون اليوم في المغرب أكثر من اثني عشر مليوناً، ولكن لا توجد بقعة أخرى غير تونس يزداد عددهم فيها نحو خمسين ألفاً ويرجع هذا النفوذ إلى عاملين: الأول أنه يوجد في تونس أهم واقدم جامعة عربية، والثاني أنه يوجد بها أكبر عدد من صفوة المسلمين الذين تلقوا الثقافة الفرنسية. وصحف تونس العربية، والصحفيون التونسيون هم الذين يوجهون الحركات السياسية والعقلية في الجزائر ومراكش. ومن تونس تخرج الأزياء، ويخرج القصص والغناء، وفيها تتألف الفرق التمثيلية أو الموسيقية التي تجوس خلال المغرب

ويضاف إلى نفوذ جامعة الزيتونة القديمة، التي تأخذ اليوم بأسباب التجديد، نفوذ (الخلدونية) وهي مركز للدراسات التاريخية والعلمية؛ وقد أسست منذ ثلاثين عاماً على يد بعض التونسيين، وكلية الصادقي، وهي معهد غريب تدرس فيه العلوم الحديثة واللغتان الفرنسية والعربية. وقد عقد في أكتوبر الماضي مؤتمر من الطلبة المسلمين في شمال أفريقية

وفي ذلك ما يوضح الدور الهام الذي تؤديه تونس في المسائل الاجتماعية التي تعرض في شمال أفريقية. ومن العسير أن نحدد نزعات الأجيال الفتية في هذه البلاد؛ ويختلف عدد الشباب المثقف وتوزيعه كثيراً في هذه المناطق؛ وأظهر هذه النزعات وأشدها تعرضاً للخلافات الظاهرة هي النزعة السياسية، ولكن هذه الخلافات ترجع دائماً إلى ظروف السياسة المحلية، فهي مؤقتة في الواقع، فمثلاً كان التونسيون يشكون من إقصائهم عن بعض الإدارات، فلما تقرر منذ شهر أن يسمح لهم بدخولها انتهت هذه الشكوى

أما النتائج الثابتة، فهي نتائج التطور العقلي؛ وهي أهمها أيضاً، لأنها تتعلق بالمستقبل، ولا تتقدم إلا ببطء، ولا يمكن تعديلها أو توجيهها بقوانين المشرع. وقد يستطيع المشرع أن ينتهز بعض الفرص السانحة في حرص وحذر، ولكن الاختيار النهائي يبقى لأصحاب الشأن أنفسهم

ويوجد في فاس كما يوجد في الجزائر وقسطنطينة شباب يتلمس ويتساءل. وقد عفت التقاليد التي كانت تسمح للشباب بأن يندمجوا في الحياة بسهولة، وأضحت لا تلائم الحياة الحديثة، وعرضت حاجات جديدة ومطالب جديدة؛ ولكن الشعار الجديد هو أن تبحث وتجد. ويتجه معظم الشباب على الأخص بأنظارهم إلى تونس، لأنهم يعرفون أنهم هنالك يتكونون شيئاً فشيئاً بين الأمل والتثبيط ولهذا، وعلى الرغم من أن تونس ليست إلا قطعة صغيرة من شمال أفريقية، فإنه يجب أن نتتبع بمنتهى الاهتمام ما يدور في المجتمع التونسي العقلي؛ وهو اهتمام يجب أن يقرن بالعطف، لأن هذا المجتمع هو الذي يحمل أعباء التعقيد وأزمات الضمير، وما يترتب حتماً على مثل هذا التطور النفسي الهام من أسباب الجزع والاضطراب؛ ومن هذا المجتمع وحده يمكن أن يأتي حل المسائل الاجتماعية الشائكة التي تعرض للبحث، وليس من ريب في أن الموقف الذي يتخذه هذا المجتمع يكون ذا أثر قوي في باقي أنحاء البلاد

ونستطيع أن نتكهن بشيء من المستقبل؛ فقد أثبتت الطبقة المتوسطة التونسية إمكان التطور المتناسق في ظل أفق فرنسي؛ وقد ظهر فيها مجموعة من الكتاب والمؤرخين والعلماء والصحفيين الذي يكتبون بالفرنسية؛ ونجد حتى في ظروف الأسرة، وفي الظروف الاجتماعية، ما يدل على تسرب الحياة الحديثة بقوة، وهي حركة اختيارية لأنها تسير حرة دون ضغط ما، وبعد تأمل عميق

ونستطيع أيضاً أن نقرأ في أمثلة يقدمها لنا الماضي مبلغ التعاون بين المسلمين والنصارى، فعلى مقربة من تونس وقعت الحالة الأولى والوحيدة في العصر الحديث للتعاون بين هؤلاء وأولئك؛ ومن الغريب أن ممثلي هذه التجربة العظيمة كانوا فرنسيين وتونسيين؛ ففي مملكة النورمان الصقلية التي يعمرها سلالة الفاتحين الأغالبة، ازدهرت أعظم حضارة في العصر، واشترك في إنشائها النورمان والمسلمون، وكانت بالرم يومئذ هي أعظم مجمع بين الشرق والغرب؛ وكان نجاح هذا التعاون الحر الذي تطاول زهاء قرن، أشنع فضيحة في العصر، في نظر المتعصبين من الجانبين

وقد استطاعت العبقرية الفرنسية أن تنسي في العصور الوسطى مجتمعاً شديد التناقض من حضارتين خصيمتين في كل مكان؛ واليوم إذ نستعرض ذلك المركز الذي حفظته لنا تونس القديمة، نجد أمامنا جامعة الزيتونة الموقرة - وهي قديمة قدم السوربون - ذات الحنايا المرمرية الجليلة، تحيط بها حوانيت الكتب والعطور؛ ثم نجد مكتبة عظيمة فرنسية على الأخص، أقيمت في قصر قديم؛ ثم نجد بعد ذلك فوق مرتفع يشرف على المدينة كلية الصادقي الواسعة التي أخرجت نخبة مختارة من المثقفين العرب، الذين استقوا أيضاً من الثقافة الفرنسية. وعندئذ نتذكر تلك المقدمة التي يهدي فيها الشريف الأدريسي أثره الجغرافي الخالد إلى الملك رجار (روجر) الذي عاش الأدريسي في بلاطه، والتي تبدو فيها ألوان هذا التعاون الذي قام بينهما

هذه كلها أدلة مادية على قيام تعاون عقلي واضح تقوم به الصفوة، وإنه ليقع على عاتق المفكرين والجامعة أن يخلقوا تلك البيئة التي تتطور فيها عادة الحياة المشتركة، إلى رغبة في الحياة المشتركة

جاستون بوتول

(الرسالة) ترجمنا هذا المقال ليطلع قراؤنا على رأي العلماء الفرنسيين في الحركة العقلية في شمال أفريقية؛ ولسنا نوافق الأستاذ بوتول على بعض آرائه، وعلى الأخص في أثر الثقافة للفرنسية في تونس. والمقصود بشمال أفريقية في هذا المقال هو البلاد الغربية التي تسيطر عليها فرنسا: أعني تونس والجزائر والمغرب الأقصى. فإن المعلوم أن مصر لا تدخل تحت هذه التسمية ولم ينصرف إليها هذا التعبير في أي عصر من العصور