الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 773/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 773/رسالة الفن

بتاريخ: 26 - 04 - 1948


مع الخزاف (ما يودون)

للدكتور محمد بهجت

أحسنت الحكومة صنعاً باستقدام بعض الفنانين البارزين من فرنسا لمحاضرة طلاب الفنون الجميلة العليا والتحدث إلى أساتذتهم ومبادلتهم الرأي في نواحي الفنون المختلفة، كما أحسنت كل الإحسان بإقامة معرض كبير حوى الكثير من صفوة أعمالهم بالسراي الكبرى بأرض الجمعية الزراعية، بلغ من أهميته أن حظي بزيارة ملكية.

ومع أن الإقبال عليه كان كبيراً لحد ما، إلا أن الكثرة من الطبقة المثقفة لم تستمتع به أو تفد منه شيئاً، وذلك لأن القائمين بأمره لم يعلنوا عنه الإعلان الكافي بالصحافة العربية أو بواسطة الإذاعة. ومن الناحية الأخرى أهملته تلك الصحافة إهمالاً معيباً كأن لم يقم معرض خطير للفن الحديث في القاهرة أنفقت عليه الحكومة بسخاء وأولته الصحف الأجنبية بعض العناية. وكأن لا أثر لمثل هذا المعرض القيم في تثقيف عقول الناس وإشباع نفوسهم بجمال الفن!

كانت معروضات الفنانين السبعة رائعة تسترعي الأنظار بطرافتها وقوتها، ولا يسعنا إلا إحناء رؤوسنا إعجاباً بأعمالهم واحتراماً لنبوغهم جميعاً.

غير أن واحداً منهم كان مبرزاً في الحلبة يسطع فنه بأقوى مما يقع على جانبيه من أضواء ساحرة، كان يستوقف جمهرة الزائرين لأطول وقت، ويشدههم بجمال فنه وينتزع منهم أضخم عبارات الإعجاب والإطراء - استغفر الله - بل أنهم كانوا يخلعونها عليه جزافاً سماحاً. ذلكم هو جان ما يودون الخزاف العالمي الفذ الذي مكنته إدارته الفنية لمصانع سفر الشهيرة لمدة ثلاثين عاماً أو أكثر من أن يقف على أدق أسرار هذه الصناعة قديمها وحديثها، وأن يخلق لنفسه طريقة فنية رائعة.

بجد المشاهد نفسه أمام فن جديد ذي طابع خاص، أهم مظاهره جمال عظيم في أشكال الزهريات والقوارير والصحون التي صممت بعناية فائقة وذوق سليم حتى ليكفي أن تؤثر في النفوس بجمالها الذاتي خالية من النقوش والألوان، ثم جمال ألوانها وانسجامها انسجاماً شعرياً عذباً، مع الذهب خالصاً في بعض الحالات أو مختلطاً قليلا أو كثيراً بتلك الألوان.

أما الرسوم التي عليها، فإما هي حيوانات زخرفية أشبه بغزلان راكضة، وإما هي أُناسي من نسيج الخيال أو من عالم الأساطير، غير أنه لا توجد أسطورة ما ممثلة، أنها لا تعني شيئاً ما بل هي مجرد أخيلة يستعين بها الفنان على إيجاد حركات جميلة أو مجموعة متناسقة من الألوان. وهو في هذه الرسوم متأثر بالفن الإغريقي لحد كبير؛ وفي بعضها يلمس المشاهد أثر ميكائيل أنجلو.

ثم أن لكل قطعة (شخصيتها) وسحرها الخاص حتى ليصعب على المرء أن يختار لنفسه واحدة منها، ويود لو يراها مجتمعة كمجموعة من الدرر الغوالي، ويكره أن ينفرط عقدها، كما أن كل واحدة منها تمثل فن (ما يودون) وتظهر خصائصه بكل وضوح، مطبوعة بطابع ذوقه الرفيع.

وبينما كنت أستمتع مرة بمشاهد معروضاته إذ قدمني إليه صديقي الأستاذ المصور أحمد صبري، فراعتني أناقته المعجبة، وقامته المديدة، وأكتافه العريضة، رأسه الكبير المكلل بشعر أشيب رتيب، وعيناه اللامعتان الفاحصتان. رما كدنا نشقق الحديث حتى بدت منه روح مرحة وحماسة فياضة ونفس إنسانية عظيمة مخلصة، شغفت بالحب والجمال، ثم تواضع عجيب هم من خلق العباقرة القادرين. سألته أ، يحدثني عن فنه فقال:

أستعمل في عجائني الطين النقي والسليبس والطباشير والزجاج. والأخيران يجعلان لأوعيتي صلابة ورنيناً. وأستعمل من الألوان أكاسيد معادن الحديد والنحاس والكروم والمنجنيز والفضة والرصاص. ثم أني أستعمل الذهب مخلوطاً مع أكسيدي الزئبق والبزموت. والحق يقال أنني متأثر إلى حد كبير بتلك المواد التي كان الفرس والعرب يستعملونها في أعمالهم.

إنني أجهز تلك المواد بنفسي، لا مساعد لي في ذلك. أحضر العجائن وأسوي منها الأوعية على أشكال شتى ثم أتركها على الأرفف لتجف، وبعد ذلك أحرقها على درجة عالية من الحرارة (1050مئوية) فتكتسب صلابة كافية وتصير صالحة للعمل عليها في الخطوات التالية. . وفي كل صباح يصحبني كلبي العزيز ونجول معاً هنيهة في حديقتي الجميلة، تذهب بعدها إلى المصنع الواقع وراء تلك الحديقة، فألقي نظرة خاطفة على الأوعية فيروقني أخذها فأنتزعه من مكانه وأرسم عليه بالقلم الرصاص رسماً ما من غير سابق تحضير أو دراسة، فاجعله حيواناً أو إنساناً أو شبيهاً بهما، حسبما يتفق مع طبيعة الوعاء وقد أزيد عليه أو أنقص منه؛ فإذا ما راقني الرسم وضعت لون الخلفية، ثم أدخلته النار وحرقته على درجة الحرارة العالية المذكورة لمدة معينة، ثم أخرجه بعدها حتى يبرد، ثم أضع عليه ألوان المرسوم التي أتخيرها بعناية وأدخله النار مرة أخرى. وبعد ذلك أضع الذهب. وقد يدعوني الحال إلى إحراق الوعاء مرتين أو ثلاثا بل وست مرات حتى يكون بعدها كاملا. وأحياناً لا يعجبني رسم أو لون ما فأغيره وأعيده إلى النار. وهنا سألته عما يعني برسومه - وقد حيرني أمرها - أهي موضوعات من القصص الإغريقي أو غيره؟ فأجاب بالنفي قائلا: (إنها لمجرد الزخرفة) وإيجاد التآلف والتوازن ليس إلا. فيعطيها من الألوان الخلفية ويجعل المجموعة كلها جميلة تطرب العين والفؤاد معاً. ثم إنه وافقني على ما لاحظته من تأثره بالفن الإغريقي، وبفن مايكل أنجلو الذي كان يعكف على دراسته، وبالفن الفرنسي الذي كان سائداً في عصر لويس الرابع عشر، إلى أن قال: (ولكني أحاول أن أتحرر منها تدريجياً، وأختط لنفسي فناً خاصاً).

وبعد أن حدثني عما شاهده من الفن المصري القديم خصائصه وروائعه سألته عما تركه ذلك الفن في نفسه من أثر. وهنا حدجني بنظرة عميقة ثم اندفع يقول في حماسة ممزوجة بمرارة وألم: (كنت أظن أنني أوفيت على الغاية؛ ولكني اليوم أشعر بأنني قزم إلى جانب الفنان المصري القديم الذي يبرز الجمال بقوة، بسيطاً هادئاً، لا تكلف فيه ولا إجهاد. أصبحت أرى ضآلة عملي وتفاهته بجانب تلك الأعمال الجليلة الرائعة. إن كل هذا (مشيراً بيده إلى قطعه الجميلة) هراء معقد لا غناء فيه. لسوف أقلع عن كل ذلك. آه! لقد بدأت أفهم الآن، والآن فقط بعد أن بلغت الخامسة والخمسين، ولم يبق من العمر إلا أقله، ومن الجهد إلا أضأله. لشد ما يؤلمني ذلك! إن أخوف ما أخافه أن لا يسعفني الأجل بتحقيق ما تصبو إليه نفسي وما ينفجر به خيالي الآن. عندما أعود إلى باريس سوف أكب على العمل بهمة زائدة وأحاول أن أخرج فناً بسيطاً جميلاً حلواً. سأحاول أن أخرج بعض ما تعلمته وشاهدته هنا؛ وسيكون في ذلك نقطة التحول الهائلة في حياتي الفنية التي أوشكت على الأفول).

- وما رأيك في مستقبل فن الخزف بمصر؟ - لا ينقصكم شيء من عناصر النجاح على ما أرى. فتربتكم غنية بأحسن المواد الأولية اللازمة للعمل، وشبابكم على جانب وافر من الذكاء واستعداد للتوثب والابتكار. وكل ما ينقصكم هو فرن ذو حرارة عالية! هذا كل ما في الأمر. إننا نعرض عليكم بضاعتنا وفننا، ولكني أنا فرنسي أفكر برأس فرنسي، ويجب أن تفكروا أنتم كذلك برؤوس مصرية.

- هل تعود إلى مصر مرة أخرى؟

- لقد شغفتني مصر والمصريون حباً. وَأكبر ظني أنني سأعود إليكم في العام القادم حاملا بعض أعمالي الجديدة التي سأستوحيها من زيارتي لبلادكم الجميلة الغنية بالفن

وهنا أقبل بعض زملائه وأسرإليه شيئاً فاستأذن وانصرف.

أما بعد فنرجو من وزارة المعارف أن تستن هذه السنة الحميدة فتستقدم إلينا كل عام بعض أساطين الفن من مختلف الشعوب حتى يتم التلاقح الفني بيننا وبينهم؛ شأنها في ذلك شأن الفرق التمثيلية والجوقات الموسيقية، كما نرجو أن تدفع فنانينا إلى الأمام بكل وسائل الترغيب والتشجيع حتى تستطيع مصر أن تبني مجدها الفني الحديث على آثار فنها القديم.

محمد بهجت

المدير المساعد لقسم البساتين