مجلة الرسالة/العدد 769/شخصيات عباسية
→ طرائف من العصر المملوكي | مجلة الرسالة - العدد 769 شخصيات عباسية [[مؤلف:|]] |
سلافان ← |
بتاريخ: 29 - 03 - 1948 |
جحظة المغني الشاعر
224 - 324هـ
للشيخ محمد رجب البيومي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
لم يكلف جحظة بالطعام وحدة بل كان كلفه بالشراب موضع الغرابة حتى تلاشت بجانبه الشهوة إلى المأكل في أواخر شبابه فهو يقول:
قد قلل الإدمان أكلي فما ... أطعم زاداً قيس أبهام
فالحمد لله وشكراً له ... قد صرت من بائد اقوام
قوماً ترى أولادهم بينهم ... للجوع في حلة أيتام
وقد حدا به الإدمان الفاحش إلى التردد إلى الديارات المنتشرة في بغداد وضواحيها المتقابلة، فأخذ الراية من أبي نواس، ووكل إلى نفسه الدعاية البارعة إلى ما في الأديرة من متع وملاذ، وأصبح شعره في هذا الموضوع وسيلة كبيرة من وسائل التعريف بما هناك. وأنت ترى الشابشتي وياقوت والعمري وجميع من كتبوا في هذه الناحية يروحون عن قرائهم بقصائد جحظة، والواقع أن الديارات كانت فتنة كبيرة من فتن الشيطان، فهي تقام بين الحدائق والبساتين وبها من العذارى الراهبات ما يستخف الوقور؛ والغريب أن خلفاء المسلمين كانوا يؤمونها مع الشعراء والماجنين، وأي إنسان يرى نفسه في حديقة مورقة، وعن يمينه ثم لا يقدم على انتهاك الحرم في هذا الجو الإباحي الخلاب، واليك ما وصف به جحظة دير الزندورد لتقف على ما بهذه الأماكن من مغريات جاذبات:
سقيا ورعيا لدير الزندورد وما ... يحوي ويجمع من راح وريحان
دير تدور به الأقداح مترعة ... من كاف ساق مريض الطرف وسنان
فالعود يتبعه ناي يوافقه ... والشدو يحكمه غصن من البان
والقوم فوضى ترى هذا يقبل ذا ... وذاك إنسان سوء فوق إنسان
هذا ودجلة للرائين معترض ... والطير إنسان يدعو هديلا بين أغصان ولقد اختص أبو الحسن دير العذارى بوده ومحبته؛ فقد رأى فيه من المتعة واللذاذة ما ليس فى غيره. فكان فيه معانة ومغداه؟ واليه مراحه ومأواه، وطالما جمعه بكثير من الشعراء والأدباء، فيتذاكرون ويتناشدون. وقد يغلبه السكر فيخرج على حال كريهة في المنظر والهيئة: فثيابه مبتلة، ورائحة الخمر تتقدمه، ثم هو يدافع عن نفسه في هذا الوضع البغيض، فيقول:
قالوا قميصك مغمور بآثار ... من المدامة والريحان والقار
فقلت من كان مأواه ومسكنه ... دير العذارى لدى حانوت الخمار
لم ينكر الناس فيه أن حلته ... خضراء كالروض أو حمراء كالنار
وعشاق الأدب يطربون لما تغني به جحظة في دير العذارى، فقد رسم لهم منظراً من مناظره الضاحكة فسمعوا صلصلة الناقوس ورأوا القسيس يترنح من السكر، ثم ينهض إلى القيام فيرتعش من الإدمان، ويغنى فتتقاطر دموعه على خده، وأخيراً يخلص إلى الحنين لهذا العهد فيقولك
ألا هل إلى دير العذارى ونظرة ... إلى الخير من قبل الممات سبيل
وقد نطق الناقوس بعد سكوته ... وشمعل قسيس ولاح فتيل
يريد انتصابا للقيام بزعمه ... ويرعشه الإدمان فهو يميل
يغنى وأسباب الصواب كمده ... وليس له فيما يقول عديل
(ألا هل إلى شم الحزامي ونظره ... إلى قرقري قبل الممات سبيل)
وثنى يغني وهو يلمس كأسه ... وأدمعه في وجنتيه تسيل
سيعرض عن ذكرى وتنسى مودتي ... ويحدث بعدي للخليل خليل
سقى الله عهداً لم تكن فيه علقة ... لهم، ولم ينكر على عذول
وأنا أعجب كيف عرج أبو الحسن على قسيس الدير فلم يتنقصه مع أنه كان يقع الجلسات الطويلة متحدثاً فيما يعرفه من علائق القسس بالراهبات، وكثيراً ما كان يغنى
بقول القائل:
أن بالحيرة قساً قد مجن ... فتن النساء فيه وأفتنن
هجر الإنجيل من حب الصبا ... ورأى الدنيا متاعاً فركن وأنا أعتقد أن رجال الدين على جانب كبير من التقوى والصلاح وقد ينذر فيهم من تزن قدمه في وهدة الخطأ، فيأخذ البرءاة على كثرتهم بآثار المذنبين، ومن ذلك ما زعمه الجاحظ من أن فتياناً من تغلب أرادوا قطع الطريق على ركب يمر بهم ثم جاءتهم العين بأن السلطان قد عرفهم وجد في طلبهم، قال أحدهم فأحتجبنا في الدير فلما أملنا قال بعضنا لبعض: ما عنينا أن نشد القس بوثاق ثم يخلو كل واحد إلى راهبة عذراء، فأذا طلع الفجر تفرقنا في البلاد وكنا جماعة بعدد الراهبات فوجدناهن كلهن ثيبات قد فرغ منهن القس، فهذه قصة قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، ولكن الشعراء قد ندووا بها أفضح تنديد فكان مما قيل:
وأفسق من راهب يدعى ... بأن النساء عليه حرام
إذا ما مشى غض من طرفه ... وبالدير في الليل منه عرام
ودير العذاري فضوح لهن ... وعند اللصوص حديث تمام
ولقد حظيت الراهبات بالروائع البديعة من شعر جحظة، وما ظنك بشاعر قضى عمره الطويل في تطلبهن بأديارهن فهو لا يفتأ يرحل إلى كل مكان عراقي يحللن به، ولولا فقره المدقع لا تنقل إلى الشام ومصر في تصيدهن كما فعل أستاذه أبو نواس وهو في غزله يعبر عن الواقع ولا يتعداه فيقول:
وظباء يتلون سفراً من الإنجيل باكرن سحرة قربانا
لابسات متن المسوح ثيابا ... جعل الله تحتها أغصانا
خفرات حتى إذا دارت الكأ ... س كشفن النحور والصلبانا
كما أنه كان يستعين بأصدقائه الموسرين على نفقات السفر وأجور الارتحال، ومن هؤلاء إبراهيم بن المدبر أحد ولاة الدولة وكتابها وسراتها، ولعل السر في صداقتهما الوطيدة هو اجتماعهما على حب عريب المغنية فقد جن إبراهيم بها جنوناً عارماً، وكان أبو الحسن من صنائعها المقربين فقد منحته الهبات الوافرة لانتسابه إلى سيدها وولي نعمتها الأول جعفر البرمكي، لذلك نجده يتحمس لغنائها، ويبالغ في مدحها على غير عادته، قال جحظة: قال أبو العباس بن حمدون: ليس غناء عريب مما يعتد به لكثرته، لأن سقطه كثير وصناعته ساذجة، فقلت له: ومن من مغني الدولة العباسية سلمت صناعته كلها حتى تكون عريب مثله وأخذت أعد أكثر من مائة صوت لها وهو يعترف بجودتها، فقال لي أخيراً ما خلفت عريب امرأة مثلها في الغناء، فقلت له، ولا كثيراً مثلها في الرجال.
فأنظر إلى دفاع جحظة عن عريب وأقرلاته بما تعرفه عنه من تحامله على كل مغن وتنقصه لما يسمع من الألحان، جيداً كان أو رديئاً، قال أبو الفرج: (ومذهبه - أي جحظة - في كتاب الطنبوريين أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بما يقدر عليه من الثلب، وبما يعلم وما لا يعلم من الراي) وليس الكتاب بأيدينا لنستدل على ما ذكره صاحب الأغاني، ولكنه ثقة فيما يقول:
وكنت أتمنى أن يبقى الدهر على شيء من كتب أبي الحسن حتى نعرف طريقته في البحث والتبويب، فقد ألف كتابين في الطعام، وآخرين في الغناء، وكتاباً في التنجيم، وديواناً جمع أشعاره الكثيرة ولكن حظه النكد قد اضاع ثروته الأدبية ونحن ننظر إلى ما بقى من كلماته النثرية فنشهد له بالجودة كأن يقول في حمل مشوي: الشهيد بن الشهيد، ذهبي الدثار، فضي الشعار، وكأن يواسي رجلا سرق ثوبه فيقول: هون عليك فليس قميص يوسف، ولا برد النبي، ولا رداء الشباب، أضف إلى ذلك نكاته الفكهة كقوله عن دعوة حضرها: كل ما فيها بارد إلا الماء وأمثال ذلك كثير.
أما منزلته في الغناء فقد قال صاحب زهر الآداب: (إنه ممتد النفس حسن المسموع، طيب الصوت، إلا أنه كان ثقيل اليد في الضرب! ويذكر جحظة عن نفسه أنه وفد على المقتدر مع جماعة من المغنين فأعطاه مائتي دينار، وأعطى كنيزة ثلاثمائة، وأعطى غيرهما مائة، ومن هنا ندرك أنه كان فوق الوسط في صنعته، ولا سيما وقد أعترف أبن الرومي به - على عدائه له - فقال يهجوه:
نبئت جحظة يستعير جحوظه ... من فيل شطرنج ومن سرطان
وارحمتا لمنادميه تحملوا ... ألم العيون للذة الآذان
ولو كان رديء الصنعة ما كان لصوته لذة، ولست أدرى السبب في تحامل أبن الرومي عليه، ولعله لما اشتركا فيه من التزاحم على الموائد، والشره في الأكل؛ فقد قيل في المثل العامي: الضيف يكره الضيف، وصاحب المنزل يلعنهما بلا انقطاع!! ويهمنا أن نتحدث عن شعره فنعلن انه لم يجر على عادة غيره من شعراء عصره فيرسل المدائح الطويلة، مفتتحة بالغزل الصناعي بل كان يجيش صدره بالمعنى، فيصوغه في عدة أبيات، وأحياناً يسهب في نظمه ولكن فيما يتعلق بحياته الخاصة، فهو من هذه الناحية شاعر يحترم فنه فلا يعبر عن غير ما يختلج في حناياه، لذلك تجد إنتاجه منصرفاً إلى مجالس اللهو وتصوير ما يمثل في الحانات من مناظر العبث والشراب، على أنك تلمس إبداعه حين يبتدئ فيصف المكان اولا ويتكلم عن المدامة والساقي ثانياً ثم ينتقل إلى المغنى فيسمعك رنين الأوتار، ويريك ترنح الشاربين، إذ يقول:
طرقنا (بزوغي) حين أينع زهرها ... وفيها لعمر الله للعين منظر
فكم من بهار يبهر العين ضوؤه ... ومن جدول بالبارد العذب يزخر
ومن مستحث للمدام كأنه ... وإن كان ذمياً أمير مؤمر
شقائق تندى بالندى فكأنما ... خدود عليهن المدامع تقطر
فكم ساقط سكراً يلوك لسانه ... وكم قائل هجراً وما كان يهجر
وكم منشد بيتاً وفيه بقية ... من العقل إلا أنه متحير
وكم من حسان جس أوتار عوده ... فألهب ناراً في الحشا تتسعر
يغني وأسباب الصواب تمده ... بصوت جليل ذكره حين يذكر
(فكان مجني دون ما كنت أتقي ... ثلاث شخوص كأعيان ومعصر)
ولعل فيما أسلفنا من شعر أبي الحسن ما يوقفك على اشراق لفظه ورقة معناه، والحق أنه تأثر بأبي نواس في أغراضه، وإن تخلف عنه جزالته، وعذره أنه كان يوزع جهده بين الشعر والغناء والتأليف، هذا إلى ثقافته الواسعة في اللغة والنحو والفلك فقد أثقلت عقله فلم يتمكن من التحليق كما تمكن الحسن بن هانئ، على أنه كان تشبيه بارع لا يتأتي للكثيرين كأن يقول:
ورق الجو حتى قيل هذا ... عتاب بين جحظة والزمان
أو يقول:
دليل في جوانبه حران ... فليس لطول مدته أنقضاء
عدمت مشارق الإصباح فيه ... كأن الصبح جود أو وفاء
وأحياناً يعمد إلى الفكاهة الماجنة، فيصوغها في خفة ودعابة إذ يقول: رأيت الغانيات صددن عني ... وأعرضت المقبلة الرداح
وقلن مضت بشرتك الليالي ... فقلت نعم وقد رث السلاح
وقد جرى مع البحتري في وصف ثقيل بارد فقال الوليد أبياته الشهيرة في هجاء أبن الجهم وقال جحظة على طريقته ونهجه:
يا لفظة النعي بموت الخليل ... يا وقفة التدويع بين الحمول
يا طلعة النعش ويا منزلا ... أقفر من بعد الأنيس الحلول
يا نهضة المحبوب من غضبة ... يا نعمة قد آذنت بالرحيل
يا بكرة الثكلى إلى حفرة ... مستودع فيها عزيز الثكول
يا شوكة في قدم رخصة ... ليس إلى إخراجها من سبيل
وهذا طراز من الشعر إن دل على شئ فإنما يدل على تمكن صاحبه من صناعته، وإن كان لا يرضى من يتطلب التنويع في المنحي والتعدد في الاتجاه، لا أن يسير الشاعر على نمط واحد، وكأنه بناء آلي يضع حجراً على حجر.
وقد عاش الشاعر قرناً كاملا قضى فيه أربه من اللذة والمتعة وإن كان الوهن قد دب اليه في أواخر عمره فوقع فيما ى يرتضيه من المرض والهزال، وحينذاك تقوست قناته وثقلت حركته، وأصبح من الموت قاب قوسين فصاح يرثى نفسه:
هي التسعون قد عطفت قناتي ... ونفرت الغواني من وصالي
كأني بالنوادب قائلات ... وجسمي فوق أعناق الرجال
إلا سقياً لجسمك كيف يبلى ... وذكرك في النوادب غير بالي
ثم خمدت أنفاسه، فسكت وتر، وجف كأس، وخلا سامر، ومات إنسان.
محمد رجب البيومي.