الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 769/زواج تولستوي

مجلة الرسالة/العدد 769/زواج تولستوي

بتاريخ: 29 - 03 - 1948


للأستاذ محمود الخفيف

- 2 -

وجلس تولستوي يحدث رب الدار وأبنته في إحدى الحجرات، ويستعيد ذكريات الماضي، وأنضم البنات إلى أمهن وجدهن ليجلسن يستمعن وكانت أمهن تصيح بهن الفينة بعد الفينة ليأوين إلى مضاجعهن ولكن حديث الكونت كان يسحرهن حتى تبين الجد في لهجة أمهن فقمن متثاقلات لينمن.

وتبعهن تولستوي إلى باب الحجرة، ثم استوقف سونيا قائلا إنه يريد أن يفضي إليها بحديث وخفق قلب الفتاة، ومشت معه إلى منضدة للعب الورق في إحدى الحجرات، ولندع تاتيانا تقص علينا ما كان بينهما من حديث قالت (الشيطانة الصغيرة) في مذكراتها (لقد طلب اليّ أن أغني ولما كان ذلك آخر ما أرغب فيه وقتئذ، فقد هربت إلى الثوى واختفيت تحت البيان. . . وبعد دقائق دخل الحجرة تولستوي وسنويا، وكان يبدو عليهما الأضطراب في صورة غير عادية، وجلسا إلى منضدة اللعب. . . وقالت سنويا: هكذا ترحل غداً؟ ولماذا تعجل على هذا النحو؟ إننا سوف نفتقدك، وأجاب تولستوي: إن ماري وحدها وهي تتأهب للسفر إلى الخارج. وسألته سونيا: أتسافر معها؟ وقال الكونت: كلا. لقد كنت أرغب في ذلك ولكني الآن لا أستطيع. وتراجعت سونيا فلم تسأله لم لا يستطيع فأنها تدرك ماذا يكون الجواب، ورأيت في وجهها ما يشعر أن شيئاً خطيراً يوشك أن يحدث، ووددت أن أخرج من مخبئي ولكني خجلت من ذلك فبقيت ساكتة. وقالت سونيا: هيا بنا إلى الفناء فإنهم لا بد يبحثون عنا؛ وقال الكونت: لا. . أرجو منك أن تظلى لحظة. . . وكان يكتب شيئاً ما على المنضدة بقطعة من الطباشير، ثم قال في صوت متهدج من أثر اضطرابه: أتستطيعين أن تقرئي ما أكتب لك إذا استعملت الحرف الأول من كل كلمة فحسب؟ وأثبتت في وجهه نظرة وقالت: أظن أني أستطيع. وكتب تولستوي الحروف، وكأنما أوحى إلى أختي فقرأت: إن شبابك وتطلعك للسعادة يذكرني تذكيراً قوياً بشيخوختي وباستحالة السعادة على وكان يعنيها تولستوي بعض العون في قليل من هذه الكلمات.

وكتب حروف غيرها، فقرأت إن في أسرتك خطأ حول أختك وحولي، ينبغي أن تعينين أنت وتاتيانا. . .

هذا ما ذكرته تاتيانا، ونضيف إليه أنها ما كادت تجيب حتى صاحت بها أمها: سونيا! أذهبي إلى سريرك. هل تفعلين؟ وأسرعت سونيا إلى مخدعها.

وبعد بضعة أيام زارت زوجة بيرز وبناتها ياسنايا ثانية لتودع ماري قبل سفرها، وكان تولستوي ساكناً يطيل التفكير اثناء هذه الزيارة، ولما تأهبن للرحيل قال لهن: سوف أذهب معكن إلى موسكو إذ كيف استطيع أن أبقى هنا دونكن. . . إن مقامي هنا يكون من الكآبة والوحشة بحيث لا أطيقه. . . . ثم سافرن فكان معهن حتى بلغن موسكو. . . .

وذهب آل بيرز من موسكو إلى بيتهن الريفي في قريتهم بوكروفسكوي، ووعدهم تولستوي أن يوافيهم اليها بعد قليل. . .

وعادت اليه في وحدته هواجس نفسه، كما كانت حاله مع فاليزيا وأخذ يسأل نفسه عما يشعر به، أهو الحب حقاً أم أنها الرغبة في الحب؟.

وذهب إلى بوكروفسكوي كما وعد، وكانت لا تزال تعتقد ليزا أنه يحبها وأنه سوف يخطبها إلى نفسه؛ وكانت تتنازع الأحلام والمخاوف قلب سونيا.

ووجد تولستوي في بوكروفسكوي معلماً شاباً يدعى بويوف في الخامسة والثلاثين من عمره يخفى في نفسه نحو سونيا ما يبديه تودده اليها وما يشبهه الغزل من حديثه ونظراته؛ وكانت تحس سونيا ميله اليها فأغرته بعض الأغراء، ولكن بالها وقلبها كانا إلى الكونت وأن غاب.

وفعلت الغيرة فعلها في قلب تولستوي، فكان كثيراً ما يأتي إلى القرية وكانت على نحو أثني عشر ميلاً من موسطو وكان يؤثر أن يذهب إلى هناك ماشياً بأكثر الأحيان.

وبات موقفه من الأسرة غريباً فهو لا يتقدم بالخطبة إلى ليزا وأنه في الوقت نفسه وإنه في الوقت نفسه ليكثر من غشيان بيتهم أينما كانوا كما لو كان واحداً منهم؛ ولذلك لم يكن عجبا أن يظن الطبيب أن جمال امرأته هو الذي يجذب إلى بيته هذا الكونت الغامض.

وكان لا يفتأ يسأل تولستوي نفسه أما آن له أن يستبطن دخيلة سونيا وأن يدرك حقيقة عقلها ووجدانها، فأن أختياره زوجة لا تصلح له يعدو عنده كارثة لا يكون معها رجاء. . .

وسألها هل تكتب مذكرات، فقالت: لا ولكنني عبرت عن حقيقة شعوي في قصة كتبتها؟ وألح عليها الكونت أن يقرأها فأبت اول الأمر، ثم تضاهرت أمام إصراره أنها تعطيها إياه على كره.

ترى هل كتبت سونيا هذه القصة ليقرأها تولستوي؟ وهل ما يكاد يؤدي إلى الحزن بموضوعها.

كان في القصة رجلان: أولهما البرنس دوبلتسكي، وهو في منتصف العمر نشط ذكي قليل الآراء، ليس على قدر كبير من الوجاهة؛ وثانيهما فتى في الثالثة والعشرين، هادئ ساكن يتمسك بكثير من المثل العليا وأسمه سمير نوف.

وكانت بطلة القصة تدعى هيلين وهي فتاة جميلة ذات عينين دعجاوين ساحرتين؛ ولهيلين أختان واحدة أكبر منها تدعى زنايدا وهي فتاة بارد الطبع، والأخرى أصغر منها وتدعى نتاشا وهي بنت في الخامسة عشرة لعوب مرحة.

وكان يغشى دوبلتسكي بيت الأسرة دون أن تخالجه أفكار الحب؛ وكان سمير نوف يحب هيلين، وكانت تحس بميل نحوه، وقد أقترح عليها الزواج ولكنها لم تستطع أن تقطع برأي وأعترض أهلها على هذا الاقتراح من شاب في مثل سنه وعدوه بعض عبث الشباب، ثم اضطرته ظروف العيش إلى السفر فغاب غيبة طويلة.

وكانت زناديا تميل إلى دوبلتسكي، وكان يكثر غشيان البيت ولكنها ظلت بحيرة من أمره كما كانت هيلين في حيرة من أمر شعورها لا تدري ماذا تريد، ولا تستطيع أن تقول حتى لنفسها أنها أوشكت إن تحب دوبلتسكي؛ وكان يؤلمها أنها ربما كانت تخدعه وتخدع أختها؛ وطالما حاولت أن تغالب عواطفها ولكن تلك العواطف كانت تغلبها؛ وظهر من دوبلتسكي أنه يحبها أكثر مما يحب أختها وذلك ما جعله يبدو في نظرها أكثر مما كان جذباً لها، لم تفهم حقيقة شعوره وكان يتعبها ويضايقها غموضه وانطواؤه على نفسه.

وعاد سمير نوف، ولم تطق هيلين أن ترى ما يظهر من تألم إذ شعر أنها تحب دوبلتسكي، فأعتزمت أن تدخل الدير؛ ثم أنها احتالت حتى قرضت بين دوبلتسكي وأختها زناديا، وزفت هي بعد ذلك إلى سمير نوف.

سهر تولستوي حتى قرأ القصة ولقد وقف عند أشياء فيها ومن أهمها ما وصف به دوبلتسكي من بعد أن الوجاهة ومن غموض في الفكر. . . أهذه صورته في نفس سونيا؟ لقد طالما كانت هيأته مبعث ألم لنفسه وهو صغير فهل يتجدد اليوم ألمه وهو في الرابعة والثلاثين؟. ذلك ما تحدثه به نفسها بعد قراءة القصة يسمى نفسه دوبلتسكي؟

وما هذه الخاتمة التي أختارها لقصتها؟ أتنصرف عن دوبلتسكي فتتزوج سمير نوف؟ أتريد بذلك إغراءه وإخراجه من تردده، أم أنها تؤثر عليه سمير نوف؟ ومن يكون سمير نوف هذا؟ أهو بويوف الذي تطارحه الحديث وتظهر له الود، أم هو ذلك الضابط الشاب بوليفانوف؟ وهل تستعمل سونيا على التقريب بينه وبين أختها ليزا؟

ألا تحب سونيا هيئته فهي لذلك غير واثقة من إنها تحبه؟ يا لها من حيرة! لقد كتب في مذكراته في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1962 بعد قراءة القصة بيومين يقول (أيها الوجه القبيح لا تحلم بالزواج. . . أنك لست أهلاً لهذا. . . وأن أهليتك لمن نوع أخر وأنه لكثير ما منحته منها).

وعلى الرغم من ذلك ذهب إلى الضيعة في اليوم التالي فلما رجع أثبت في مذكراته قوله (لا شئ من حب كما سلف ولا من غيره حتى ولا من ندم، ولكني لا أجد مثيلاً لحالتي وذلك ما يجعلها حلوة. . . كانت ليلة لذيذة وكانت العواطف رقيقة سارة أن بويوف في غاية الذكاء وفي غاية الرقة) وكتب في ماء اليوم التالي يقول (لست أغار قط من بويوف إذ يتحدث إلى سونيا ولا أستطيع أن أصدق أن يكون ذلك حقيقة حالي. إنها كذلك تتكلم في حزن وهدوء. . . أيها الأحمق أنك غير أهل لها. . . . . لقد قضيت الليلة معهم. . . . لم أنم. . . أنها هي أبداً. . .)

(البقية في العدد القادم)

محمود الخفيف.