مجلة الرسالة/العدد 766/من وراء المنظار
→ مسابقة الفلسفة لطلاب السنة التوجيهية (6، 7): | مجلة الرسالة - العدد 766 من وراء المنظار [[مؤلف:|]] |
على الأعراف ← |
بتاريخ: 08 - 03 - 1948 |
صوف و (دمور)
جلست ذات مساء في دكان الخياط ضجراً من ضياع وقتي في انتظار بدلتي متعجباً من أن يخلف الخياط موعده إياي أربع مرات وهو لا يزداد خجلاً في كل مرة عنه في سالفتها وإنما يزداد هدوءاً وصفاقة وجه لأنه لم يخجل قط وذلك فيما أرى لكثرة ما ألف من خلف الوعد. . .
ولم أجد شيئاً أتفرج به بعد أن فرغت من التفكر في صفاقته فثقل عليّ الانتظار وهممت بالانصراف، وإذ ذاك دخل الدكان شابان حاسرا الرأس لم ألبث أن أحسست أن فيهما ما أنشد من فرجة. . . كان أحدهما فيما قدرت في العشرين أو فوق ذلك قليلاً، وكان الثاني دونه بنحو عامين، وكانا كلاهما من أناقة الملبس وسطوع الألوان بحيث يستوقف ذلك منهما البصر قبل أي صفة غيره. . ونظرت فإذا بأصغرهما يتخطر إلى المرآة فينظر فيها نظرات أشاعت في عينيه وملامحه جميعاً الإعجاب والغبطة، ثم يصلح رباط عنقه ويصف شعره فودية، وقد اطمأن إلى بريقه ونعومته، ويستدير يمنة ويسرة فينظر إلى عطفيه وجانبيه، ثم يلقي نظرة على هيكل كله في بدلته الجديدة، ويستدير المرآة مزهواً يصفر بشفتيه لحناً وفي مشيته من الطراوة والتخلج ما لا يدع في بدنه من الرجولة إلا الاسم. وأخرج الثاني مشطه ومشى إلى المرآة فأصلح شعره ووثق في لمحات قصيرة من جمال طلعته وأناقة بدلته، ثم جاء فجر مقعداً وجلس عليه قبالة صاحبه الذي اختار أن يجلس على حافة منضدة في وسط الدكان معتقلاً ركبته بيده تارة، مستنداً إلى ذراعيه يكاد يستلقي على ظهره فوق المنضدة تارة أخرى. . . وما اختار المنضدة مقعداً فيما اعتقد إلا ليبقى تجاه المرآة يستمتع بما يرى من وجاهة.
وأخرج أصغرهما علبة سجائره ومدها إلى صاحبه، وراحا يرسلان الدخان في جو الدكان ورأيت لأصغرهما أوضاعاً يتكلفها للسيجارة بين أصابعه وفي فمه وفي كفه إذ يشير بها أثناء الحديث، وأوضاعاً للدخان كيف ينفثه وذلك عنده من مصطلحات الأناقة والظرف، واستبطأ الخياط، وضجرا من أن تضيع دقائق من وقتهما الثمين في انتظاره؛ وكان الأصغر يثب إلى الباب كل دقيقتين أو ثلاث يضن بأناقة ورشاقة أن يذهبا سدى طول هذ الوقت الذي يحجبه فيه الدكان وهو ما خرج ورفيقه من دارهما إلا لتعجب بهما الغانيات! وصحبه رفيقه إلى الباب وقد أبصرا من بعد في ضوء المصابيح بعض الفتيات، وعادا ينتقدان ساقي هذه ويمتدحان قوام تلك؛ ثم جلسا يستعرضان في ضحك وتحمس ما يعجبهما فيمن يعرفن من كواكب السينما من سيقان وعيون وشفاه، وكل منهما يدافع عن وجهة نظره في قوة، كما لو كانا يتجادلان في مسألة من مسائل العلم أو الأدب أو الاقتصاد، وهيهات أن يبقى ما برعا فيه من علم الجمال وما حفظاه من أسماء الكواكب الزهر في رأسيهما فراغاً لشي من ذلك الجد وهما بعد كما عرفت من كلامهما طالبان في الجامعة. . . وجاء الخياط فسأله الأصغر عما عنده من قماش، ونظر نظرة في الألوان وسأله عما يطلب ثمناً لبدله منه؛ فقال الخياط أربعة وعشرين جنيهاً. وإذ ذاك ألقى الفتى بالقماش من يده، وقال وهل ألبس بدله بأربعة وعشرين جنيهاً؟ وتملقه الخياط بقوله إذا كان مثلك يا سعادة ألبك لا يدفع هذه القيمة فمن يدفع؟ وضحك الفتى ورفع رأسه وتأبه وشمخ بأنفه وقال للخياط أريد بدله كهذه وأشار إلى بدلته، لقد أخذ خياطي ثمناً لها خمسين جنيهاً. . . وكأنما أراد الفتى أأن يبين للخياط بدليل آخر مبلغ جهله بقدره، فأشار إلى رباط رقبته وسأله كم تظن ثمن هذه الكرافتة؟ فقال الخياط لا يقل عن جنيه ونصف يا سعادة ألبك! فضحك الفتى ثانية ضحكة مازجتها الكدرة وقال ثمنها ثلاثة جنيهات ونصف. . ثم سلم هو وصاحبه وخرجا من الدكان. . ونظر إلى الخياط وقال لهذا السبب ينجح الخواجات فما يهم الواحد من هؤلاء اللاعبين بالمال إلا أن يقال إنه يلبس بدله ثمنها كذا، أما قيمتها الحقيقية فآخر ما يفكرون فيه، وفي البلد آلاف بل ملايين لا يجدون بضعة أمتار من الدمور. .
وملت بموضوع الحديث عن وجهته لما في نفسي من ضجر وغيظ من الخياط الناقد، فقلت وهل ينجح الخواجات بهذا وحده؟ فهز رأسه مستفهماً فقلت: وبصدقهم في المواعيد. . . ومضيت بدون بدلتي ضجراً من خلف الخياط وإن بقي لكلماته أثر قوي في نفسي ظل يذكرني أياماً بالجنيهات الخمسين وبضعة الأمتار من الدمور
الخفيف